تتراءى سَيَاسَاتُ السَّرد في رواية "لا ماء يرويها"[1] للرّوائية "نجاة عبد الصمد" أَشْبَهَ بضربةٍ مزدوجةٍ، موجهة لمجتمعٍ متمركزٍ حول الرُّجلAndrocentric والأصوب حول طغيان فظٍّ للذُّكورةPhallogocentrism في تماديها، فمن جهةٍ تتورّطُ هذه السياساتُ الأدبيّةُ في تقويض الأيديولوجيا الذُّكورية بتحيزاتها الحادّة ضد النِّساء وأُخرى تؤسِّسُ لخطابٍ نسويٍّ ينزع نحو التَّعْبير عن الكينونةِ الأنثويةِ بكلِّ ما يقتضيه هذا "التعبير" من جرأةٍ تتعلّقُ برغبات الأنثى وأهوائها في فضاء سوسيوــ ثقافيٍّ مرهقٍ بخصوصيةٍ دينيةٍ، مغلقةٍ على ذاتها بإحكام، لتغدو حدّاً أو إطاراً سيميائياً محرّماً للذات والآخر على أيّ اختراق، فالحدُّ منطقةٌ محرَّمة!

ويتحدَّدُ الفضاء السوسيو ــ ثقافي في الرّواية بمكانين رئيسيين: "السّويداء" وإحدى قراها "مرج الكعوب"، مكانان ينفتحان على أمكنة بعيدة وقريبة، دمشق، بيروت، لاغوس، البرازيل، رومانيا...وفي هذا الزّمكان الثنائي ذاته تنهضُ شخصية "حياة" بلعبةِ السَّرد كمشاركةٍ في الحدث الرّوائي وراوية له، ولمصائر متعددة من الشّخصيات تتناهبها الأحداث: مرهج أبو شال، خليل أبو شال، ذهبية، ناصر، سالم الأخوث، سلامة، زين المحضر، نجوى، أرجوان وفقاقيع كائنية تظهر وتختفي هنا وهناك. ومن جهة ثالثة تنبني الرّوايةُ بصورةٍ رئيسيةٍ على اشتمال خطاب الرّاوية على خطابٍ موازٍ له يتمثّل بأوراق نجوى(نجاة)؛ التي تحضرُ في السَّرد كنافذةٍ لابدَّ منها لتُلقي بكمشةِ ضوءٍ على مناطق معتمة في تضاريس الرّواية، وكذلك لتؤدّي هذه الأوراق وظيفةً تناصيةً تدفعُ بالسَّرد إلى فضاءٍ لغويٍّ متعدّدِ الأصوات أو ثنائي السّرد. بيدَ أنَّه لابدَّ من التطرُّق إلى أَمْرٍ هامٍّ في هذه "السَّردية" المتميزة في هذا التمهيد، وقبل الانغمار في محاور القراءة، إذ يتعلّقُ الأمرُ بـ"الكتابة" ذاتها، الكتابة بوصفِهَا حَدَثاً مُفَارقاً للكلام، تلك الكتابة المثقلة بعتمةِ المعنى، الكتابة حينما تختطفُها شهوةُ الشِّعر إلى عوالم الصّمت فيتصادمُ التأويلُ مع ذاتِهِ. وهذا تحديداً ما يمضي إليه "رولان بارت" حين ينسبُ الكتابة إلى شؤون العزلة solitude وتخثير الكلام؛ فتفرض الكتابةُ ذاتها لا ككلام بوصفه كلاماً وإنما "كلاماً عنيداً"، دالّاً فاخراً، يلتذُّ بالإرجاء واغتيال المعنى. وهكذا في الوقتِ الذي تضعنا هذه الخاصية للغة السّرد بمواجهةٍ ضاريةٍ مع العتمة التي تفترشُ الرّواية على صعيدِ مُطاردةِ الدّلالة؛ فإنها تحاصرنا بـ"السّحر" الذي لا ينفكُّ يتدفّقُ ولايتلاشى مع قراءةِ هذه الرِّواية وانتهائها. إنها رواية "لاماء يرويها"، الرّواية ــ الكتابة حيث الاحتفاء بسحر المجاز!

وإذا كان الأمر كذلك؛ فهذا التمهيد ربما كان ضرورياً للدُّخول في هذه البنية السَّردية المدهلزة والاشتباك مع ثيماتها:

I: الأنوثة ــ الألم

ربما ليس من المبالغةِ القولِ إننا إزاء رواية ــ الـ[ألم]، الأنوثة ــ الألم المحض، الوجعُ الذي لايفتأ ينتشر من بدءِ الرّواية إلى منتهاها، مكتسحاً حيوات "حياة"، "رجاء"، "ذهبية" و"زين المحضر"...إلخ. بيد أن هذا "الألم" يفترسُنا في الحقيقة من "الأبيغراف/نص التصدير" ذاته الذي يتصدّر الرّواية:

[أن تكوني امرأة، هذا ألم/ تتألمين حين تصيرين صبية/ وحين تصيرين حبيبة تتألمين/ وحين تصيرين أمّاً.../ ولكن ما لايطاق على هذه الأرض/ هو أن تكوني امرأةً/ لم تعرف هذه الآلام كلها. ص5. بلاغا ديمتروفا ــ شاعرة بلغارية].

تكثّفُ هذه الشَّذرةُ، التي غدتْ في حوزة الرِّواية أو امتداداً لها، حيواتِ الأُنثى في الواقع والمتخيَّل الرِّوائيّ كما لو أنَّ الرّوايةَ في انبساطِهَا وامتدادِهَا هي تأويلـ/لات للشّذرة ذاتها من خلال متابعةِ آلام شخصياتٍ أنثويّةٍ. وقبل أن نطارد هذا "الألم" سردياً دعونا نقيم على حَافَّةِ الشَّذرةِ ذَاتها ونتأمّل:

إنَّ "الألم"ٍ ينبثقُ مع الأُنثى فهو ليسَ تالياً لحضورِهَا، ولكنَّ هذا الحضورَ مَوْسُومٌ، مَدْبُوْغٌ ومَدْمُوْغٌ في جذرهِ به. إنه الأثرُ، العَلامةُ التي توسمُ كينونةَ الأُنثى، لحظة حدوثِ الثّلم، الشّقِّ، الجرح الأول الذي تحدثُهُ الطبيعةُ في جَسَدِهَا ثم يأتي الاقتران (افتراع غشاء البكارة)، الولادة: (الألم في ذروته وبذخه) ... جسدٌ بآلام لا تنتهي! لكنَّ هذا الجـسد/ هذه الأنثى لن يـ/تكون كذلك ما لم يحضر هذا الألم، فما لايطاق أن تكون الأنثى دونما هذا الألم المقدّس، الألم الذي يصنع من الأُنثى أُنثى، كأنَّ الأنثى منذورةٌ لمسنّنات الألم؛ لتكون كذلك.

إنَّ سيمياءاتِ الألم هذه تنتشي بقوةٍ وعنفٍ في البداية النّصيّة للرّواية وهي تقدّمُ لنا الصُّورة الأولى عن ألم "حياة": [كنا أطفالاً نلعب الغميضة في عمرة الجيران، دفعني أخي ممدوح إلى عامودها، فجَّ العامود رأسي، وركضتْ أمّي على صراخي: "هصصص. بدل أن تبكي هاتي البشارة، كلُّ أرضٍ يسيل عليها دمُكِ يُكتب لكِ فيها موطىء قدم"، ص7]. لاشكَّ بأنَّ هذا الحدثَ يَحْدُثُ مراراً وتكراراً في سياق حياة الطّفولة كما أنَّ عبارة الأم تأتي هنا لتلجم الألم بالصّدمةٍ المعتادة، لكن العبارة من جهةٍ أُخرى تُخفي مباركةَ "الأم" لفعل "الذّكر=ممدوح" في الإيذاء عوضاً عن المساءلة والعقاب، فلولا هذا "الفعل" لما سال دمُ "حياة" ولما حازت (أو ستحوز) على "موطىء قدم"، بل إنَّ الأمَّ في موقع الدّفاع عن فعل "الإيذاء": (هاتي البشارة)! الجملة الأمرية، هنا، تسدُّ أيّ منفذ لإنزال العقاب بالشَّقيق وهي بمنزلة تغييب لفعل الإيذاء ذاته.

لكنَّ "حياة" سوف تتذكّر الحدث في سياق حياتها لِتَفْتَتِحَ سرديتها به: "لم تصدّق بشارة أمّي. ص7"، إذن: لم تُصَدّق البشارة، لم تكن أكثر من ذرة رماد، فموجة الألم/ آلام "حياة" في نهوضٍ وامتداد وازدياد وهي تلفُّ وترمي بها عميقاً: ألم فقدان الحبيب، ألم الزَّواج من "خليل"، ألم الابن الواشي بها، ألم الطلاق، جرح الحبّ الذي اتسع دون أن يلتئم بعد اللقاء...! في سياقِ سرديةِ الألم يقول لها زوجها، بعد أن تنصح ابنها لأمر ما، ["اتركيه في حاله وارفعي أنتِ الصحن إلى المجلى، لهذا نحن نقتنيكِ".ص 181]، وحين تضمُّ ابنها ناصحةً إياه ثانيةً يُعيدُ الابن كلمات الأب ذاتها: ["ولماذا نقتنيكِ إذاً". ص. م. ن].

هكذا فالاقتناء في دلالاته يشير إلى امتلاك الشَّيء والاحتفاظ به، والكلمة في صيغة الفعل شنيعة الدّلالة هنا: نقتنيكِ، أي نمتلككِ مثل أيّ شيءٍ هنا، فقيمة الأنثى ــ الأم من قيمة الشَّيء فما أن تتلاشي القيمة الاستعمالية لهـ/ا حتّى يكون "الشَّيئ ــ الأم" في عداد المرْمِيّ هناك، لا فرق بين "الشيء" و"الأنثى" إلا بما يقدّمه/ تقدّمه من "فائدة" استعمالية. هذه "القيمة الوضيعة" للأنثى إنما تعكسُ نَسَقَاً مُضْمَرَاً في بنيةِ الخطابِ السّوسيولوجي الذي تَسْتَنْقعُ نسيجه عباراتٌ من مثل "المرأة فردة حذاء"، هذا الخطاب المسيّج بهيمنةِ الذكورة متعاضداً مع الخطاب الدِّيني يعملان بحهدٍ غريبٍ على إبقاءِ القوامة للذكر والأفضلية له على الأنثى. وهو الإرث الذي تسلّلَ إلى الابن ليرميه على مسمع الأم خنجراً: "ولماذا نقتنيكِ إذاً"، وهنا ممكن "الألم" حين تكون الأم مجرّد شيءٍ في نظر الابن! ستنتهي قيمةُ الشَّيء ــ الأم على يد الابن ذاته(سلطان) الذي يفشي لأبيه عن لقاء أمّه"حياة" بـ"ناصر" الذي أحبته وأحبها يوماً ما وذلك بمطعم بالسُّويداء، فيأتي الطلاق ضرورةً ["أنت طالق يابنت مرهج"(...) بشحاطة البيت وجدتُ نفسي خارج البوابة وحولي المدى المفتوح. طال وقوفي، كَعَرَني سلطان نحو الدّرج، سقطتُ، ندهتُ: وين راحووووو!". ص239].

لم يصدر منها سوى هذه الصّرخة "وين راحوا"، لا لغةَ للألم حين ينفجر، ليس أمام الكائن سوى الصُّراخ أو الصَّمت إذ"تجفُّ اللغة وتنقطع"، كما تكتب إلين سكاري في كتابها (جسد متألم/ ترجمة حسام نايل)، حتى وإن كان ثمة لغة فهي تعاني الإنهاك والتشظي والعطالة؛ فـ["على أيّ نحو يقع الألم، فهو يقع من خلال عدم قابليته للتشارك، مقاومة الألم للغة هي التي تكفل عدم تشاركية الألم. م. ن"]، تقول "حياة": ["ندهة "وين راحوا" لم تُخرج اليوم أحداً من بيته. ص239]. هكذا بدت "حياة" وحيدةً في العالم والألم يهبطُ نحو العُمْق ويتسع وهي تُطرَدُ من بيتها وعلى الأصحّ تُرمى كشيءٍ، شيء فقد قيمته الاستعمالية لكنَّ كلمات أمّها، ربيبة الذكورة، كانت أمضى من نصلٍ لدى استقبالها: ["ياويلك من الله، راجعتيلي مطلّقة، وفوق هيك عايبة؟!"ص241]، هكذا بألم مزدوج تَطعَنُ الحياةُ "حياة"، بألم مزدوج ينغرز خنجرا الابن والأم في روحِهَا فَيَنِدُّ عنها عواءٌ ذئبةٍ وحيدة في كهوف الألم!!!

هذا الألم الممضُّ، هذه اللغة المفخّخة، المتلعثمة بالصّمت، سيـ(تـ)ـجتاح حَيَوَاتِ إناث مثل زين المحضر عمة (حياة)، الذي طلّقها زوجها وتلاشَى في تضاريس الوجود ورجاء شقيقتها التي ماتت بمرضٍ غامضٍ ["كإثم مهين دُفنتْ رجاء في المدافن العامة لبلدية المدينة. ص61"]، ألم متراكم يتكثّفُ في عنوان النَّصَّ ذاته "لا ماء يرويها"، وسواء أحالتنا الوحدةُ الدّلاليةُ "ها" في الفعل "يرويها" إلى نساءِ الكون السّردي أو فضاءاته (السُّويداء، مرج الكعوب)، فالأنوثة تجمع بين الأرض، المدينة، القرية، المرأة والعطشُ شكلٌ من أشكال الألم، أرضٌ من غير ماءٍ، نساءٌ من غير حبِّ، وفي الحالتين ثمة حياةٌ(نساء) محطّمةٌ، مطعونةٌ بالألم والإنهاك والإنكار والرّفض والتغييب والتصميت.

II: سلطة الذُّكورة وقسوتها

لم يكن تَسْريدُ كينونة المرأة سوى وسيلةٍ لفضخِ خِطَابِ الذُّكورة وممارساتها وسلطتها، هذه السُّلطة المستمدة قوتها من تاريخٍ طويلٍ من تعاضدِ الاجتماعي والدينيّ والسّياسيّ ضد النّساء والحرية والفكر ليصنع هذه الهيمنة ويكثّفها في جغرافيا النَّسيج الاجتماعي ثمَّ يدمغها باسم الذُّكورة التي حاولت وتحاول إزاحة الأنوثة من المجال العام مع الإبقاء على حضورها الخافت لكنّها من حيث تعي أو لا تعي لا تكتمل إلا بالأنوثة التي يرتهن به وحدها معنى الذُّكورة ذاته.

على انبساط جغرافيا الكونِ السّرديِّ تمارس الذكورة استبداديتها وغلمتها وشهواتها المريعة لحظة أنْ فجَّ "ممدوح" رأسَ "حياة" بالعامود من غير عقابٍ، ممدوح الذي أدرك الطبيعة السّلطوية للذكورة لاحقاً في عوالم "لاماء يرويها" فتوارى عنها إلى فرنسا. بيد أنّ سلطة الذكورة تظهر فاقعةً لدى الأب (مرهج أبو شال) والزّوج (خليل أبو شال)، ابنا عمومةٍ تتجذّر فيها سلطةُ الذّكر، السُّلطة/ القوة التي تمارس عنجيتها من خلال الشتائم والضرب في فضاء البيت. لنقرأ مساحةً عن صورة الأب: [لا تردُّ أمي على غمز الجارات ولا على شتائم أبي: "يا بهيمة، لا تعرفين حتّى كيف تملّحين الكشك". (...) وقد تعيد تدوير غضبه برميه علينا: "الست حياة تحبّ الاستحمام كلّ يوم، يخلص ماء الخزّان ولا ينتهي حمامها"(...) يفكُّ أبي حزامه، يجلدني ببرود كأنَّه يشرب كأس شاي. ص29، 30].

هنا يلجُ توصيف الزوجة بـ"البهيمة" وإنزال "الجَلْد" بالحزام بالابنة في مجال استعراضٍ للسُّلطة الزوجية والأبوية، كما لو أنَّ لا سلطة إلا بإحداث "الألم" على (أو في "الآخر" لتأكيد "القوة" ومن ثمَّ سلطة"الذُّكورة" أو الإيهام بها، بوجودها كما تذهب "إلين سكاري في (جسد متألم)"، فأداة التنفيذ شتيمةً كانت أو جلداً بالحزام بل وظيفة أية أداة في "بنية التعذيب" هي "تحويل الألم الواقعي إلى مخايلة بالسُّلطة. م. ن"، أي الإقرار بوجودها المطلق وهذا تماماً ما تلوذ به السُّلطة الكليانية لفرض قوتها وحضورها ومنطقها الأحادي، وهو ذاته منطق الأب. لذلك لم يكن ثمّة مفرّ أمام "حياة" برفض الزواج من خليل أبو شال، يقول الأب: [وهل أنهيتِ مرافعتك يا ست الحسن، يا بنت أمّك؟ أنا أعطيتُ كلمتي ولن تكسريها. لا بنات عندي يدرسن في الجامعة، وخليل طلبكِ أنتِ ولم يطلب أختك. لو أخزيتني برفضك سأقبرك هناك قرب أختك أو أرميك للكلاب دون قبر. ص79"]. يعكسُ خطاب الأب مفهوم القوّة والسيطرة، وهو خطابٌ يتشاكلُ مع خطاب السّلطة ذاته في مواجهة أية معارضة سياسية مرتقبة، خطابٌ لا يقبل بأيّ خطابٍ موازٍ، ليس ثمّة مجال للآخر، للضّحيّة إلا اللواذ بالصّمت وإلا: "سأقبرك أو أرميك للكلاب"، أية معارضةٍ أو رفضٍ ثمنه: الإقبار(أو الرّمي للكلابِ) أيْ الإخفاء عن الحياة والتمويت حيّاً، فالأب ليس سوى صورة عن "السُّلطة" في بلدٍ مثل سوريا مدرّع بالاستبداد، ليس خلا صورة عن شهوة السُّلطة في الاستحواذ.

وهو ذاته، مرهج أبو شال الذي تزوّج "ذهبية"، أي التي نعتها بـ"البهيمة"، طمعاً في ليراتها الذهبية، كان "زوج البهيمة" يصدحُ بخطابٍ غارقٍ في الذكورية: ["ربي ابنك بيغنيك، وربي بنتك بتخزيك".(...) " ابنك الك، وبنتك لغيرك". ص185]، لكنه على فراش الموت لم يكن حول مأتمه سوى بناته الخمس، تقول حياة: ["بموتك اتفقنا من غير كلامٍ على أنه حدثٌ مريحٌ أن تموت". ص185]، كما لو أنَّ هذا "الحدث المريح" لا يخصُّ موت "الأب" فحسب، بل يخصُّ كلَّ تاريخ سلطة الهيمنة ليتقوّض برمته، هذا إن لم نمضِ إلى مجال المجاز لتحيلنا العبارة عن طريق الكناية إلى "حدث مريح" جرى في سوريا في بداية الألفية برحيل "الطاغية ــ الأب".

ثمّة صور كثيرة في رواية "لا ماء يرويها" تنبثقُ بوصفها تمثيلاتٍ لسُّلطةِ الذُّكورةِ وسطوتها وقسوتها ولاسيما التمثيل السَّردي لزوج "حياة" خليل أبو شال، فسيرته لا تخلو من تقاطعاتٍ وتماثلاتٍ مع "السُّلطة السياسية" ذاتها، لكن ما يهمُّنا هي الصُّور المبثوثة عنه تمثيلاً للذكورة: صور تتغذَّى من تاريخ سلطة الذكورة في قسوتها وعنجهيتها، فبعد بعد أسبوعين من الزَّواج ترفض "حياة" أن تغسل قدميه في "اللكن" فيأتيها الانتقام على شكل استباحة جنسية: ["صبر حتى الليل، لكزني، تلكأت، حين أدارني إليه غصباً عني فهمتُ أن غضبه استوى، أخلعني ثيابي، ولجني وأفرغ وأدار لي ظهره. من تقلّبه في الفراش عرفتُ أنه مثلي لا يأتيه الغفو. هبَّ واستدار كالمسوس نحوي، قلبني على ظهري وهاجمني من الخلف. صرختُ. سدَّ فمي بيده كي لا يسمع أهله صراخي من غرفهم المجاورة، وبيده الأخرى ثبّت مقعدي بقوةٍ أسكتت مؤخرتي عن عنادها. ص18].

تحضرُ البهيميةُ المنفلتةُ من عقالِهَا هنا بقوّةٍ وهي بهيميةٌ على إدراكٍ بالانتقام لرجلٍ أُطيحت سلطته برفض الزوجة لأوامره، لتنفجر البهيميةُ فيه عبر استباحتهِ جسد زوجته "حياة" بإتيانها من دُبُرِها للانتقام أولاً وإهدار كرامتها ثانيةً وفرض سيطرتهِ على الفَضَاءِ والجَسَدِ، فَالحَدَثُ الجنسيُّ الذي يَصُبُّ في مجرى "الاغتصاب" يتغذّى من مجال ثيمة الانتقام تحديداً: لكزني، أدارني، أخلعني، ولجني، أدار... هبَّ، استدار، قلبني، هاجمني، سدَّ، ثبّت...لاحقاً لن تقبل "حياة" بإهدار قيمتها كأنثى فيقودها "خليل البغل"، كما تنعته، إلى بيت والدها صارخاً: ["لا أطلب سوى حقي الشّرعي يا مرهج وابنتك تتمنع".ص152].

يلجأ للشّرع، إلى القوامة، إلى أرضٍ تسيّج للذكورة قانونها وحقّ الرجل في حَرْثِ النساء أنّى يشاء، لذلك لن تستغرب "حياة" ردة فعل أبيها: ["لن يغرق أبي معي في وحل التفاصيل (...) كغابر عهده، استلّ حزامه من المسمار المقيم في الجدار ودوّى به على كلّ مكانٍ مُطالٍ من جلدي، لم أرفع يدي لأداري رجْمَ الحزام ولم أرفع عيني إلى عين أبي المارقة. ص153"]. علامتان فحسبُ: الحزام المتوثّب والعين المارقة، أداتا السُّلطة في تأكيد السلطة ذاتها، في قسوة حضورها، ولذلك فهَذَا العِقَابَ الشّديدَ للتكاتف مع الزوج إنما يحدثُ للحفاظِ على الحقّ الشّرعي، لصونِ الحقّ في "الحرْثِ" و "القوامة" وإهدار هوية الأنوثةِ ككينونةٍ، ليحافظ الأب ذاته على سطوته وهو القيّم على هذا المجال مؤيداً وحاماً لكن الأدهى أن تُسهم "ذهبية": بهيمة البهيم في تغذية سلطة الذكورة ذاتها.

وفي الواقع تقدّم لنا رّواية "لا ماء يرويها" في سياق معاكسٍ أحداثاً أليمةً تمرُّ بها النِّساء لكنها لاتعدم أن تقدم صوراً مغايرة لذكورةٍ أزاحت عنجيتها بعيداً ورفضت سلطة الذكورة وسلطة السُّلطة ذاتها مثل صورة "سالم الأخوث، المحامي فوزي وناصر...بل حتّى ممدوح في يقظته وهروبه إلى فرنسا يندرج في هذا المجال المعاكس.

III: سيمياء الأهواء 

في مواجهة "الألم" وقسوة الذّكورة وفرض مفهوم "الحريم" كما في حالةِ "ذهبية" في المجتمع يفتحُ السَّردُ فسحةً في الصَّمتِ الذي يحكم قبضته على عالم الأنوثة بإحكامٍ. في هذه الفُسْحَةِ تهرقُ الفتاة، المرأة "حياة" أهواءها، جوانيتها، شغبها في "فضاء سوسيو ــ ثقافي" يقلّم أيَّ رغبةٍ للأنثى، كما لو أنَّ السّرد بتضاريسهِ هو الفضاءُ الوحيدُ الذي يحتضن الرَّغبة المحظورة، السَّرد الحلم بل الاحتلام، فضاء الجسد في حقيقته: ["كلُّ بنات الصفّ ينتظرن مجلّة "سمر"، تشتريها أرجوان وتسرحُ المجلةُ بيننا في الفرصة كقطّةٍ مدلّلةٍ، وتعيرني إياها إلى البيت لأتفرّد في خيمتي بـ" آلان ديلون" بطل المسلسل المصوّر على مساحة صفحاتٍ ست. هل وجهه يلمع أم ورق المجلة الفاخر؟ هل جميع العيون الخضراء آسرةً كعينيه؟! يشيح بهما عن الممثلة أمامه في الصورة، يغادر الورق ليغانقني فأعصر ثديي بيدي وأغيب في لذتي الحارقة. ص24"].

تغدو العَلَاماتُ هُنَا في عُهْدةِ السِّيمياء لتغدو دوالاً تُجسِّدُ (أو تكشفُ) "الرَّغبة الممنوعة": المجلة قطةٌ مدللةٌ، عيون "ديلون" الآسرة، ديلون المتخيّل، الحقيقي في لحظة اللذة؛ ليقع فعلُ الاستمناء؛ فالعلامات تقتضي بَعْضَهَا بَعْضَاً لتحلَّ محلَّ "الغائب/ القضيب/ المرغوب"، المحلوم به. هكذا في بنية سوسيوــ ثقافية مسيّجة بالممنوع والمحظور لايبقى سوى حلم اليقظة الذي يتهيكل من خلال مجلة مصوّرةٍ آنئذ لنشدان اللذة المتفاقمة. لكنَّ المحلوم به يتكرّر في مشهدٍ آخر وتحديداً في درس الكيمياء، فـ"حياة" تلكز زميلتها الذكية "نجوى": ["أنا أشفق على الأستاذ حسين. المسكين، شفتاه تذكرانني بمؤخرة الدجاجة وهي تبيض، ليتني ألينّهما بلساني!"، ص34]، ثم لايفتأ أن يتمظهر في بنيةٍ استعاريةٍ قائمة على المضاهاة بين الذكر والأنثى ["كان أستاذنا الأصيل يلقّمنا الكيمياء بطلاوةِ رغيف الخبز المغمّس بالسمن والسكر. ص37"]، في الحالتين ثمة رغبةٌ ممنوعةٌ جارفةٌ، في المشهدين ثمة محلوم به يتجسّد في علامات مُسمطقة واقتضائية الدلالة (شفتاه، بلساني، الخبر، المغمّس، السمن والسُّكر)، ثمّة برنامجٌ سرديٌّ على حافّة الإنجاز قبل حبّها لناصر، الحب الجرح، ستلتقي و"وديع" في مراهقتهما في غرفته، تسرد "حياة" عن سيمياء الأهواء ـ الفيض المصاحب: [ما إنْ ملتُ عليه حتى أغلق عينيه وضمّني بقوةٍ(...) لزقت شفتاه بعنقي، سرى اللسعُ إلى عمقي، علا أنيني، انقصفت ركبتاي، وقعت على الأرض سكرى أو مشلولة أو نصف حيّة. صحوتُ قبل وديع، رأيته ممدّداً لصقي، يده فوق يده، ويدي أسفل بطنه، يعلقُ بها سائل لزجٌ تفشّى على بنطاله المشدود الحزام. أفاق وديع ورآنا، بكى بحرقةِ طفلٍ آثم. ص90، 91].

هنا؛ تحطّم "حياة" التابوهات، تقوّضُ بنيةَ الثقافةِ الذُّكوريةِ التي تسندُ للذكر روح المغامرة والمبادرة وتحيل الاستكانة والمفعولية إلى الأنثى، هذا العبث ـ الفاعل بالبنية المتوارثة يتبدّى عبر علامات (ملتُ عليه، صحوتُ، يدي أسفل بطنه...الحديث عن السائل المنوي) في حين يبدو "وديع" هو الموضوع والمفعول والمسجون للخجل (أغلق عينيه، يده فوق يدي، بنطاله المشدود الحزام، بكى كآثم)، وهكذا تقلب "حياة" الأدوار رأساً على عقبٍ؛ لتكشفَ عن هشاشةِ الثقافةِ الذُّكورية التي تسيّج مجتمعاتنا الغارقة في أوهام الفحولة الفارغة.

على أنَّ الأهواء في شدتِهَا وغلمتِهَا تفيضُ في حُبِّ "حياة"ٍ لناصر، تسحُّ في لغتها غزارةً، لنقرأ عن لقائهما: [لا يمكن أن يكون ما أفعله سيئاً. أبي يسهر خارج البيت، وتنعس أمي وباكراً تنام، وعفاف تغفو في موعدها الصّارم بعد مسلسل السهرة، وأنا أنسلُّ إلى غرفة الكرش في بيت ناصر. يلوح تحذير أمي: " يتسلّى الشباب بكلّ البنات، ولا يتزوجون إلا التي (ما باسها تمها غير أمها.."، وأنسى وأتفتَّح على صدره وردةً جوريةً، وأسخن وأنساح على الأرض كالهلام، كالفضة الذائبة. وحرصاً على السلامة المستقبلية؛ أصون ما تحت زنّاري طاهراً بلا دنس. ص52]. تستندُ سيمياءُ الأهواءِ، هنا، إلى برنامجٍ سرديّ متكاملٍ بقواه الفاعلةِ والمنطقيةِ من حيث إنشاء الأرضية المنطقية للقيام بمغامرة الحب "لا يمكن أن يكون ما أفعله سيئاً"، هذه العبارة تحيلنا إلى الناطقة بها، أي "رجاء"، فحين تسألُ "حياة" أختها إن كانْ الوقوف مع ناصر أمرٌ عيبٌ، تردُّ بهذه العبارة، التي تؤسّسُ في الوقت ذاتهِ حجاجاً منطقياً لإنجاز اللقاء. وهكذا فالرَّغبة التي تنتظرُ التحقُّق مرهونٌة بغياب القوى المضادة (الأب السّهران في الخارج، الأم والأخت عفاف النائمتين) وحضور القوى المساعدة (رجاء، غياب الأهل، الليل ذاته).

ضمن إطار هذه البنية العامة لفعل الوصال والحب والتفتُّح تزيح "حياة" وصايا الأم، الوصايا التي نسجتها الأنوثة المقموعة تحت تكالُب الثَّقافةِ الذّكوريّةِ. لكنّها من جهةٍ أُخرى تُحَافِظُ على الوصيّة التي لا يمكن اختراقها "أصون ما تحت زناري" أو في موقع آخر ["السترةُ في صون نصفك التحتاني، تحت الزّنّار. تمتعي ما شئتِ فوق حدود الزِّنّار على أن تصوني ما تحته. ص50"]، صيانةُ الغشاء، غشاءُ البكارة، علامةُ العذرية في مجتمع ذكوريّ مَأْخُوذٌ بالافتراع المصاحب لعدة نقاطٍ من الدمٍ دلالةً على العذرية والفحولة في الوقتِ نفسهِ! صون الغشاء حرصاً على المستقبل، على الزوّج القادم أو أن الاحتياز على زوج قادم مرهونٌ بصون الغشاء، زوج لا يمكث إلا بوجود غشاء ومهما كان الثمن. إنه الزّوج ــ الغشاء!

لكنَّ هذا العشق سرعان ما يتبخّر ويختفي "ناصر" سنيين طويلة من خلال الانتماء إلى إحدى المنظمات الفلسطينية ويغدو الحبُّ جرحاً لا يلتئم: "كس أمّكَ يا ناصر"، فهذه العبارة إذا تجاوزنا بعدها التداولي المبتذل، إنما تعبّر عن خيبة العاشقة، عن استمرار العشق رغم اختفاء ناصر. وهي كذلك عبارة أطلقتها حياة عندما أنجبتْ ابنها الأول "سلطان" من خليل وكلما تذكّرت حبّها الأسطوريَّ لناصر، ناصر الذي ظلّت المسافةُ بينه وبين اسمه جرحاً، صدعاً قائماً، تماماً كحياة التي ظلّ جسدها "في أرضٍ وقلبها في أرضٍ أخرى". سيعود "ناصر" إلى "السويداء"، إلى "مرج الكعوب" من تضاريس غموضه واختفاءاته، من مجاهيل ألمانيا، لبنان، تونس، رومانيا، سيلتقي العاشقان في مدينة نمامّة لكن دون جدوى، فـ"النقصان في الحبّ موتٌ آخرُ. ص248"، الحبُّ رغبةٌ إلى الاكتمال لكنَّهُ لا يكتمل، إذ كان ثمة "موعد" للرَّحيل معاً إلى الشام، بيروت، بوخارست حيث يقيم ناصر؛ لكنّ عاطفة "الأمومة" تنتصر على "الحبّ"، فالأمومة حبٌّ وأبعدُ:

["في حياتي كلّها لم أفعل شيئاً سوى أن أحبك 

خلّني هنا قرب أولادي، وسأبقى أحبك. ص254"].

الحبُّ لقاءٌ طيَّ الترقّب، طيَّ النقصان!

هنا يَحْضُرُ عِنْوَانُ الرِّوايةِ مرّةً أُخرى، بل يفرضُ حضوره على التأويل، ويضاعفُ من دلالاته، محقّقاً ذلك الالتزام أو "العهد" بينه وبين النّصّ. فالوحدة الدلالية "ـها" التي أشرنا إليها في"لا ماء يرويها" تحلينا إلى "حياة" في هذا المقام، مقام النقصان والصَّدع في الحبّ، ليغدو العنوانُ تحتَ طائلةِ الغيابِ الجَديدِ "لا حبَّ يرويها"، لا عشق يكسر الظمأ في قلب "حياة"!

IV: سحر اللغـة 

يظلُّ سِحْرُ اللغةِ بُعْدَاً بُؤْرِيّاً في روايةِ نجاة عبد الصّمد "لا ماء يرويها"، بعداً مستقطباً للقراءة؛ لتفجير السِّحر، سحر الكلمة الشّعرية وهي تحيطُ بالقارىءِ، دون أي إخلال بالعملية السَّرديّة بل تُضَاعِفُ من المتخيّل السّردي دلالةً وتدفعُ بلغة السّردِ ذاتها إلى "العناد" الذي أشار إليه رولان بارت، إذ لا يُمْكِنُ للكلامِ الشّفويِّ في حالتِهِ التّداوليّةِ أَنْ يتحمّلَ هذهِ الكثافةَ الباهظة، هذه العتمة. هذا فضلاً عن أنَّ هذه اللغةَ تمضي عميقاً لتضيءَ أبعادَ الخبرةِ الجماليّةِ لَدَى الأُنْثَى ــ السَّاردة في شؤونها: [وما أزال أنتظرك، أُنادم وحدتي وأنتظركَ، أتشوّى بجمار الندم وأنتظركَ، كما انتظرت أمي حسن الغريب أنتظرك، أُشيح الطرفَ عن أنَّ حظَّ البنت مثل حظّ أمها وأنتظرك. ص12"]. لاشكَّ أنَّ الإيقاعَ الفاتنَ جرّاء تكرار الفعل "أنتظرك" مع الاستعارة المفاجئة "أتشوّى بجمار الندم،..." يُمركزان اهتمامَ القَارىءِ ويمنحان القراءةَ ذاتَها بُعْدَاً تأمليّاً، ليكفَّ السَّردُ عن كونه تلفُّظاً أَفقياً للعَلاماتِ فحسبُ وإنما كَذَلِكَ فسحة نَظَرٍ في جَسَدِ الكلمةِ ذاتها حين يغدو للكلمةِ حضورُها الجماليُّ، ويصبحُ النصُّ في مساحاتٍ منه مفتوحاً على الغرابةِ والدّهشة والفيض الدّلالي واتساع أمداء المتخيّل، على طيات تعتري حركة الخطاب السّردي ليَتعَثّر القارىءُ بها ويبقى هناك على ضفاف السّرد ـ الشعر:

["تقول: "عطشان!"، كلمةٌ واحدةٌ تنفرط حلوةً كحبة رمان، رمان تشرين الذي أحبّ، رمان صدري الذي على انتظار، رمان الوعود الباذخة. ص 244. لو من يدي أسقيكَ كمشةَ ماءٍ مجبولٍ بتميمةٍ تبقيكَ قربي إلى الأبد. ص 244. قلتَ: "اللمس أصابع الحب". صار الفضاء حولنا كله أصابع. ص246"]. بهذا الاكتناز الجمالي، بهذه الوعود ترتكب رواية "لا ماء يرويها" جُرْحاً في أفق القارىء، لتروي حكايةَ "بنتٍ"، بناتٍ، حكايةَ عشقٍ، سيرة "حياة"، فبيتٌ لا بنات فيه، لا سرد فيه؛ بيتٌ خراب!


المصدر: رامينا نيوز

 



[1] ـــ لا ماء يرويها: نجاة عبد الصمد، بيروت: منشورات الاختلاف ــ منشورات ضفاف، ط1، 2017. وسيجري التوثيق في المتن تلافياً لأي تكرار للهوامش.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية