موريس بلانشو([1]

الترجمة من الفرنسية: آن سموك 

الترجمة من الإنكليزية: خالد حسين 


أقلُّ مايُقال عن هذا النّصّ إنه مستحيل...!

خ.ح 

 

يتراءى للمرء بأننا نتعلّمُ شيئاً ما عن الفَنِّ حينما نواجه ما يكون مقصوداً بكلمةِ العُزلة solitude للتحديد. فهذه الكلمة جرى اسْتعمالُهَا بتعَسُّفٍ. ومعَ ذلك، ماذا يعني [هذا] التعبيرُ حتى يتعيّنَ إنجازُهُ؟ ومتى يكونُ المرءُ وحيداً؟ إنّ طَرْحَ هذا السُّؤال ينبغي ألّا يقودَنا بصورةٍ مُبسّطةٍ إلى تأملاتٍ سَوداويةٍ. فالعزلةُ كما يدركُهَا العَالمُ هي أَذيّةٌ لا تقتضي هنا تعليقاً إضافياً.

وكذلك فنحنُ لا نقصدُ بذلك استحضارَ عُزلة الفنان ــ تلك التي يُقال إنّها ضروريةٌ بالنسبةِ له لممارسةِ فنّهِ. عندما كتبَ ريلكه إلى الكونتيسة سُولمز ــ لَاوْبَاخْ Solms-Laubach (في3 آب 1907) ما مفادُهُ،"لأسابيع، لم أتلفّظْ، ما خَلَا تَدَخُّلَيْنِ قَصِيْرَيْنِ في الكلام، بكلمةٍ واحدةٍ؛ فعُزلتي قد أَحَاطَتْ بي أخيراً وأنا وسط محاولاتي كما اللبُّ في الفاكهة على وجه التَّحديد"، فـهذه التي يتكلّمُ عنها ريلكه ليستْ بالعُزلة الأصليّةِ. إنّها تَفَكُّرٌ.

عُزلة العمل

في عُزلة العَمل ــ العَملِ الفنّي، العَملِ الأدبيّ ـــ نكتشفُ العُزلةَ الأكثر جوهريةً. إنَّها تُقصي العُزْلةَ المتساهلةَ مع الذاتِ الفَرْديةِ؛ إذ لا تملك أيَّ شيءٍ للقيام به سعياً للتفرُّد. وفي الحقيقةِ فإنَّ المرءَ يُكابدُ موقفاً راسخاً طوالَ مسارٍ منضبطٍ لليوم دون أنْ يبدّدَهُ. فالذي يكتبُ العملَ هو معزولٌ؛ ومَنْ قد كتبه يكون منبوذاً. وفضلاً عن ذلك، فمن يكونُ منبوذاً، فهو لا يدركُ ذلكَ. هذه الجهالة تَصُوْنُهُ. تُشَتّتُ انتباهَهُ بالتفويضِ له مواظبةً. فالكاتبُ لا يعرفُ البتّةَ ما إذا قَدْ جَرَى إنهاءُ العملِ أم لا. فما قَد انْتَهى مِنْهُ في كتابٍ واحدٍ، فَإِنّهُ يَشْرَعُ من جَدِيدٍ أو يُبِيْدُهُ في كتابٍ آخرَ. إنّ ڤاليريValéry، وعبر احتفائهِ بهذهِ الميزةِ اللامحدودةِ التي يَتمتّعُ بها العَمْلُ، لا يَزَالُ يَرَى في الأمر المظهرَ الأقلَّ إشكاليةً فحسب. وبوصفِ العَمل غير محدودٍ فهو يعني، بالنسبةِ لَهُ، أنَّ الفنانَ، مع العَجز عن إكماله، يُمكنُهُ مع ذلكَ أنْ يجعلَهُ مَوْقعاً محدَّداً لمهمةٍ أبديةٍ حيث عدمُ اكتمالها يُنمّي من براعةِ العَقل، ويُعبَّر عن هذه البَراعةِ، يُعبّر عنها من خلال تطويرها في شَكلِ سُلطةٍ. وفي لحظةٍ محدّدةٍ، فإنّ الظّروف ــ أيْ، التّاريخ، في شخصِ النّاشر أو بمظهر الضُّروراتِ الماليةِ والوَاجباتِ الاجتماعيةِ ــ تُعلنُ عن النّهايةِ المفقودةِ، والفنان، المتحرّر بوساطة إنهاء الإكراهات المحضة، يتعقّبُ مسألةً غير مكتملةٍ في مكانٍ آخر.

إن الجوهرَ اللانهائيَّ للعمل، مثلما يُرى هكذا، يتمثّلُ بلا تناهٍ للعقل. ويروم العقلُ لتحقيقِ حضوره في عملٍ واحدٍ، بدلاً من أن يُدركَ ذاتَهُ في عددٍ غير محدودٍ من الأعمال وفي حركةِ التَّاريخ المستمرةِ. بيد أنّ فاليري لم يكنْ بَطَلاً على الإطلاق. فقد وجدَ أنه من الملائم أن يتحدّثَ عن كلّ شيءٍ، ويكتبَ عن كلّ شيءٍ: وبناءً على ذلك؛ فإنّ الكلية المُشتّتة للعالم قد صرفته عن الكلية الفريدة والصَّارمة للعمل، وانطلاقاً منها سمحَ لنفسه بتغيير مساره بصورةٍ وديةٍ. إلخ. و[بذلك] اختبأَ خلفَ تنوّعِ الأفكارِ والموضوعاتْ. ومع ذلك، فإنّ العمل ــ العمل الفنيّ، العمل الأدبيَّ ــ لا بمنتهٍ ولا بمكتملٍ: إنه كذلك فحسبُ. وما يقوله العملُ هو هذا على وجه الحصر: إنه كذلك ــ ولا شيءَ أكثر من ذلك. وما يتجاوزُ ذلك لا شيءَ البتة. ومَنْ يرغبُ بجعلهِ أنْ يعبّر أكثر فلن يجدَ شيئاً، يجد أنه يعبّر عن لا شيء. وذاكَ الذي تتوقّف حياتُه على العمل، سواء أكان كاتباً أم قارئاً، فهو ينتمي إلى عُزلة ذلك الذي لا يُعَبّرُ عن أيِّ شيءٍ سوى كلمةِ كينونةbeing: أيْ الكلمة التي تأويها اللغةُ بإخفائها، أو تُسَبّبُ ظهورها حينما اللغةُ ذاتُها تتلاشى في الفَراغِ الصَّامتِ للعمل. إنّ عُزلة العملِ تتّسمُ بوصفها إطارَهُ الأساسيَّ بغياب أية معايير معينة. وهذا الغياب يحتّم الاستحالة في أيّ وقتٍ للتصريح بأنَّ العملَ قد اكتملَ أو دونَ أنْ يكتملَ، فالعملُ يكونُ بدون أيّ برهانٍ، كما يكونُ بلا فائدةٍ. وبذلك لا يمكن أنْ يجري التحقّقُ منه. ويمكن للحقيقةِ أنْ تلائمَهُ، والشُّهرة تلفتُ الانتباهَ إليه، لكنَّ الوجودَ الذي يحتازُهُ عَلَى هَذَا النّحو لا يَعْنيه. فهذه القابليةُ على البرهنة تجعله غيرَ يقنييٍّ ولا واقعيّاً ــ كما لا تجعله واضحاً. إنَّ العملَ [بطبيعتهِ] منعزلٌ: وهذا لا يُقصدُ به أنه لا يبقى غيرَ قابلٍ للتّواصلِ، وَمَا مِنْ قارئٍ لديهِ. بيد أَنَّ مَنْ يقرؤه سوف يُشَارِكُ في تأكيدِ عُزلةِ العَمْلِ، تَمْاماً كَمَا أنَّ مَنْ يكتبه يَنْزلقُ إلى خَطَرِ هَذَهِ العُزْلَةِ.

العمل، الكتاب

ومن أجلِ اختبار ما تُغرينا به مثل هذه التّصريحات عن قُربٍ، ربما ينبغي أن نحاولَ اكتشاف نشأتها. إن الكاتبَ يكتبُ كتاباً، لكنَّ الكتابَ ليس بالعمل بَعْدُ. وليس ثمّة عملٌ إلا عندما ــ ومن خلالهِ، وبعنف بدايةٍ لائقة به ــ تُلفَظُ كلمةُ الكينونة. ويقعُ هذا الحدثُ عندما يتحوّل العملُ إلى عَلاقةٍ حيميمةٍ بين الشَّخص الذي يكتبُهُ وذاكَ الذي يقرَؤه. وهنا يتساءلُ المرء لحظتئذٍ، إذا كانت العزلةُ تمثّلُ مجازفةَ الكاتبِ، أفلا تعبّرُ عَنْ حقيقةِ أنه انقلبَ، باتجاه العنفِ المكشوفِ للعَملِ، إذ لا يدركُ الكاتبُ فيه أبداً أيَّ شيءٍ باستثناءِ البديل ـــ الاقترابِ والوهمِ في هيئةِ كتابٍ؟ إنَّ الكاتبَ ينتمي إلى العَمل، لكنَّ ما ينتمي إليه ليسَ سوى كتابٍ فحسبُ، مجموعةٌ خرساءُ من الكلماتِ العَاقرةِ، الأشياءِ الأكثر تفاهةً في العَالم. والكاتبُ الذي يمتحنُ هذا الفراغَ يعتقدُ فحسب أنَّ العملَ غيرُ مكتملٍ، ويظنُّ أنّ بَذْلَ بعضٍ مِنْ الجهد، وبرفقة بعض اللحظات المؤاتية، ستجيزُ له وله وحدَهُ إنهاءه. لذلك يعودُ إلى العَمل. بيد أنَّ ما يرغبُ بإنهائه بنفسه يمكثُ بلا نهايةٍ؛ فذلك يورّطُهُ في مهمةٍ خادعةٍ. والعمل، في نهايةِ الأمر، لا يَعْرِفُهُ. إذ إنه ينكمشُ حولَ غيابِ الكاتبِ بوصفه إثباتاً غير شخصيٍّ ومجهولاً من حيث هو كذلك ـــ ولا شيءَ أكثر من ذلك. وهذا ما يكونُ مقصوداً به من خلال ملاحظةِ أنَّ الكاتبَ، طَالمَا أنَّهُ لا يُنهي عملَهُ إلا في اللحظةِ التي يموتُ فيها، فهو لا يعرفُ البتّة هذا العملَ. وهنا يَنْبَغِي عَلَى المرءِ ربما أَنْ يَسْتَديرَ بهذهِ الملاحظةِ أدراجه. ألم يَمُتِ الكاتبُ حالما ينبثقُ العملُ؟ والكاتبُ في بعضِ الأَحيان يمتلكُ مثل هَذَا الحسِّ الداخليِّ: أي ذاك الانطباع بكونه عاطلاً عن العَمَلِ بصورةٍ غريبةٍ([2])

لا تقرْأني([3]Noli Me Legere

إن الحالةَ ذاتَها يمكن كذلك أن تكونَ موصوفةً بهذه الطريقة: إذ الكاتبُ لا يقرأُ مطلقاً عَمَلَهُ. فهو، بالنسبة له، غيرُ مقروءٍ، سرٌّ. لا يستطيعُ التريُّثَ في حضورِهِ. إنّ العملَ سرٌ لأنَّ [الكاتب] معزولٌ عنه. ومع ذلك، فإنَّ عجزَهُ عنْ قراءةِ العَمَلِ ليسَ ظاهرةً سلبيةً محضةً. إنه، يُمثّلُ، عَلَى الأرجح، العلاقة الواقعية الوحيدة للكاتبِ بما نُسمّيه العَمَلَ. وهنا تَحْضُرُ [عبارة] Noli me legereالمفاجئة، إذ لا يَزَالُ ثمّة كتابٌ فحَسْبُ، أفقُ قوةٍ مغايرةٍ. [من جهة أخرى] تُعَدُّ Noli me legere تجربةً عابرةً، عَلَى الرَّغم من أنّها مُباشرةٌ. إنَّها لا تمثّلُ قوةَ الاعتراضِ، ولكنْ من خلالِ لعبةِ معنى الكلماتٍ، حيثُ التأكيدُ المُلحُّ والفظُّ والمؤثّرُ عَلَى أنَّ مَا هو كائنٌ، في الحضور الكليِّ لنصٍّ قَطْعيٍّ، لا يزالُ يَحْجِبُ ذاتَهُ ـــ حيثُ الفَراغُ العاضُّ والفظُّ للرفض ـــ أو يُقصي، مع سلطةِ عَدم الاكتراثِ، مَنْ قَدْ كَتَبُهُ، لكنّهُ يَرُوْمُ أنْ يُدْرِكَهُ مجدّداً عَبْرَ قراءتِهِ. والاستحالةُ تأتي إلى الكينونةِ؛ إنها تشكّلُ القوةَ الحاسمةَ للبدايةِ. لكنّه هو نفسُهُ ينتمي إلى زمنٍ مُدَارٍ من خلال عدم الحسم المتأصّلِ في البداية من جديدٍ. إن الهاجسَ الذي يربطه [الكاتب] بموضوعٍ متميّزٍ ويفرضُ عليه القول ثانيةً ما قد قاله بالفعل ـــ حيناً بقوة موهبةٍ ثريةٍ، وحيناً آخر بإسهابٍ لتكرارٍ مُوْهِنٍ بصورةٍ استثنائيةٍ، مع قوةٍ أقلّ بالمطلق، وبمزيدٍ من الرّتابة ـــ يُفَسّر الشَّيءَ الضُّروريَّ، الذي يُحَدِّدُ مساعيَهُ بجلاءٍ، إذ يعودُ القهقرى باستمرارٍ إلى النُّقطةِ ذاتها، ويجتازُ مرةً أُخْرى الممراتِ عينَها، والمواظبة على البدءِ من جديدٍ في مَا لم يبدأْ مُطلقاً بالنّسبةِ له، وأنَّهُ ينتمي إلى ظِلِّ الأحْدَاثِ، وليس وقائعها، إلى الصُّورة، لا الموضوع، إلى مَا يُتِيْحُ للكلماتِ أنْ تَغدوَ صُوَرَاً، مَظَاهرَ ــ لا عَلاماتٍ، قيماً، قوّة الحقيقة.

الاستيلاء التعسفي

أحياناً، عندما يحملُ امرؤ قلماً، فإنَّ يدَهُ لا تُحرّر، بغضّ النَّظر عن مدى الرّداءة، ما يرغبُ أنْ يتركه يمضي. عوضاً عن ذلك، تُزَمُّ اليَدُ بدلاً من الانبساط. أما اليدُ الأُخرى فتتدخّلُ بصورةٍ ناجعةٍ أكثر، بيدَ أنَّ اليدَ التي قد يَرَاها المرءُ عَليلةً تؤدّي حركةً بطيئةَ ومتردّدةً في محاولةٍ للقبضِ عَلَى الموضوعِ الهَارب. والأمرُ الغريبُ يتمثّل ببطءِ هذه الحركةِ. إذ تنتقلُ اليدُ بسرعةِ إيقاعٍ لا تَكادُ تكوْنُ إنْسَانيّة: ليست عملاً قابلاً للنمو، ولا عملَ الأملِ أيضاً، بل بالأحرى هي ظلُّ الزمن، حيث اليَدُ ذاتُها هي ظلُّ يدٍ تتزحلقُ مثلَ شبحٍ صوبَ موضوعٍ قد أصبح ظلَّها الخاصّ. تُواجِهُ هَذِهِ اليدُ، في لحظات محددة، فَاقةً عظيمة جداً للاستيلاء: إنها يجبُ أنْ تُمْسِكَ بالقَلم، ينبغي أن تفعل. إنها تتلّقى طلباً، أمراً متغطرساً. وَهَذِهِ الظَّاهرةُ تُعْرَفُ باسم "الاستيلاء التعسفي". يتراءى لنا أنَّ الكاتبَ هو سيدُ قلمِهِ. فهو يمكنُ أنْ يغدوَ مؤهّلاً لسيطرةٍ كبيرةٍ عَلَى الكلماتِ وعَلَى مَا يَبتغي منها أنْ تُعَبِّرَ عَنْهُ. لَكنَّ براعتَهُ فحسبُ تَفْلَحُ في وَضْعِهِ، والإبقاء على اتصالٍ بسلبيةٍ جوهريّةٍ إذ لم تَعُدِ الكلمةُ، سِوَى مظهرِها ـــ ظلِّ الكلمةِ ــ حيثُ لا يمكن أنْ يكونَ مُسَيْطَرَاً عَلَيْهِ أو حتّى مُدْرَكاً. إنّ الأمر غُير قابلٍ للإدراكِ ولا كذلك قابلاً للإطلاق: إنها اللحظةُ غير الحاسمةِ للافتتان.

إنّ براعةَ الكاتبِ ليستْ في اليدِ التي تكتبُ، اليد "العليلة" التي لا تَدَعُ القلمَ يمضي أبداً ــ إذ لا يُمكن أن تَدَعَهُ يمضي لأنَّ ما تحمله لا يصمدُ حقاً؛ فما تحملُهُ ينتمي إلى حقلِ الظَّلال، وهو بذاتهِ ظلٌّ. وما يميّزُ براعةَ اليَد الأُخرى باستمرارٍ، اليد التي لا تكتبُ والقادرة على التدخُّل في اللحظةِ الملائمة للسَيطرة عَلَى القَلم الرَّصاص وتنحيته جانباً. وهكذا، فإنَّ البراعةَ تتوقّفُ على القُدرة بالانقطاع عَنِ الكتابةِ، وإعاقةِ ما تجري كتابتُهُ، ومن ثمَّ العملُ على استعادةِ حقوقها، وثقتِهَا الحاسَمةِ بالنّفس إلى اللحظةِ الرّاهنةِ. وينبغي أنْ نبتدىءَ في التَّساؤل مرةً أُخرى. وقد قلنا إنَّ الكاتب ينتمي إلى العَمل، لكنَّ ما ينتسبُ إليه، مَا يُنْهِيَهُ بنفسهِ، إنْ هو إلا كتابٌ: "وحدَهُ" الكاتبُ ينسجمُ مع التقييد "فحسب". والكاتبُ لا يواجهَ العملَ وجهاً لوجهٍ البتّة، وعندما يكونُ ثمّة عملٌ، فهو لا يعرفُه؛ أو بتحديدٍ أكثر، حتى هذا التَّجاهُل غير معروفٍ له، فهو لا يَهَبُهُ إلا في استحالةِ القراءة، أي التجربة المبهمة التي تعيدُهُ إلى العمل. يعودُ الكاتبُ إلى العَمَلِ. لماذا لا ينقطع عن الكتابة؟ الكتابة؟ لماذا، إذا انفصل عن العمل، كما فَعَلَ آرثر رامبو، هل هذا الانفصالُ يصدمُنا كاستحالةٍ مبهمةٍ؟ هل الكاتبُ يرغبُ في منتجٍ مثاليٍّ فحسب، وإذا لم يكفَّ عن العَمَلِ فيهِ، فهلْ هذا لأنَّ الإتقانَ ليس بالكمال الوافي مطلقاً؟ هَلْ يكتبُ حتّى في ترقُّب عَمَلٍ؟ هلْ يضعُه الكاتبُ نُصبَ عينيه باستمرار بوصفهِ ذاكَ الذي سيضعُ نهايةً لمهمتهِ، كونه الغايةَ التي يستحقُّ هذا الجهدَ كلُّهُ؟ مُطلقاً. فالعملُ لا يكونُ أَبداً [بهذه الصُّورةِ] من التوقّع ما يمكنُ للمَرءِ أنْ يَكتبَهُ (أي على هذا النَّحو من الاحتمال الذي يمكنُ للمرءِ أنْ يرتبطَ مَعَ عمليةِ الكتابةِ بوصفها ممارسةً لشيءٍ من السُّلطة).

وفي الحقيقةِ فإنَّ مهمةَ الكاتبِ تنتهي مع حياته التي تكتمُ حقيقةً أُخرى: أيْ، أنَّهُ من خِلالِ هذه المهمّةِ، تنسلُّ حياتُهُ إلى محنةِ اللامحدود.


اللانهائي، اللاانقطاع

إنَّ العُزلة التي تحيطُ بالكاتب من خلال العمل تكشفُ ذاتَهَا في هذا الأمر: ذلك أنَّ الكتابةَ راهناً لانهائيةٌ، متواصلةٌ. فالكاتبُ لم يَعُدْ ينتمي إلى العَالم القضائيِّ حيثُ إنَّ التعبيرَ عن الذات يومىء إلى البيان عن دقةِ الأشياءِ ويقينها والقيم تبعاً لمعنى حدودِها. ما يكتبه الكاتبُ ينقلُ للمرءِ الذي يَنبغي أنْ يكتبَ التأكيد بأنّهُ لا يملكُ عَلَى [المكتوبِ] سُلْطَةً. فالمكتوبُ هو ذاتُهُ بدون فحَوى، إذ يؤكّدُ اللاشيءَ، وَهْوَ ليس بالسّكينة ولا بمهابة الصّمت، لأنّه لايَزالً يتكلّمُ عندما كلُّ شيءِ يُقَالُ. وهذا التأكيد لا يسبق الكلام، لأنه يمنعه من البداية، تماماً كما يسلبُ اللغةَ الحقَّ والسُّلطةَ لإعاقةِ نفسه. إنَّ الكتابة هي فصلُ الرّابطةِ التي توحّدُ الكلمةَ مع ذاتي. إنَّ الأمرَ يتعلّقُ بتدمير العَلاقةِ، المؤطِّرة بأنّني أتحدّث إليــ(ـك)، العَلاقة التي تَمنحُني فَضَاءً للتكلُّم ضمن الفهم الذي تستقبلُهُ كلمتي منكَ (لأنَّ كلمتي تدعوكَ، هذه الدّعوة التي تبدأُ من داخلي لأجلِ أن تَنْتَهي لديك). إنَّ الكتابةَ هي فصلُ هَذه الرّابطة. والكتابة، علاوة على ذلك، هي سَحْبُ اللغةِ من العَالم، لفكّهَا عما يجعلُها سُلطةً تبعاً لها، عندما أتكلمُ. إنَّها العَالم الذي يُعْلِنُ عن ذاته، إنَّها ضوءُ النَّهار الوَاضح الذي ينمو من خلال المَهَام التي تُؤدّى، من خلال الفعل والزمن.

والكتابةُ هي اللانهائيُّ، اللاانقطاعُ. ذلك أنّ الكاتبَ، كما يُقَال، يَتَخَلّى عن قول "أنا". وبهذا الصَّدد يلاحظ كافكا، باندهاشٍ وافتتانٍ، أنه انسلَّ إلى الأدبِ حالما تمكّن من استبدالِ "هو" بـ "أنا". وهذا أمرٌ صائبٌ، لكنَّ التحوّل يكون أعمقَ بكثيرٍ. وينتمي الكاتبُ إلى لغةٍ لا يتكلُّمها أحد، وهي اللغة غير الموجّهة لأحد، لا مركزَ لها ولا توحي بشيءٍ. لكن ربما يظنُّ الكاتبُ أنَّهُ يؤكّد ذاته بهذهِ اللغةِ، لكنَّ ما يؤكّده تماماً هو الحرمانُ من الذّات. وذلك إلى المدى، بوصفه كاتباً، الذي ينصف ما تتطلّبه الكتابةُ، فهو لا يمكنه مطلقاً التعبيرَ عن ذاتهِ مرةَ أُخرى، أكثر مما يُمكنه مناشدتك أو حتى عرض كلام آخر. وحيثُ هو كائنٌ، كونه يتحدَّثُ فحسبُ ـــ فذاك يعني أنَّ اللغة لم تعدْ تتكلّم، لكنها كائنة. إنها تكرّسُ ذاتَها إلى الرُّكون المحضِ للكينونةِ.

لو أنَّ الكتابةَ هي الخضوعُ للانهائيّ، فإنَّ الكاتبَ الذي يقبلُ التعويلَ على جوهر الكتابة يفقدُ القدرةَ على قولِ "أنا"/I. وبناءً على ذلك يفقدُ القدرةَ على جعلِ الآخرين يقولون "أنا". وانطلاقاً من ذلك؛ فإنه لا يستطيع على الإطلاق أن يمنح الحياة للشخصيات التي حريتها سوف تكون مكفولةً من خِلالِ سُلطتهِ الإبداعيةِ. إن مفهوم الشَّخصيات، بوصفهِ الشَّكلَ التّقليديَّ للرواية، ليس إلا واحدة من التسويات التي يحاول الكاتب من خلالها ــ منتزعاً نفسه من خلال الأدبِ بحثاً عن جوهره ـــ أنْ ينقذَ علاقاتِهِ مع العَالم ومع ذاتِهِ.

إنّ الكتابةَ هي أنْ تجعل المرء صَدَىً لما لا يمكنْ أن ينقطعَ عن الكلام ــ وطالما أنّه لا يمكنُ أن يغدوَ صدىً لذلك، فإنني، بشكلٍ ما، أملكُ ما أُسْكِتَهُ. لذا أُحْضِرُ إلى هذا الخِطَابِ المتواصل الحاسم، سُلطةَ صمتي الخاصّ. وأجعلُ، عَبْرَ تدخّلي الصَّامت، [حيث] الإقرارُ المتواصلُ، الغمغمةُ الهائلةُ التي تنفتحُ عليها اللغةُ ملموسةً، وعليه تغدو صورةً، تُصبح متخيَّلاً، تغدو عمقَ تكلُّمٍ، غزارةً غامضةً التي [بدورها] تكونُ فراغاً. وهذا الصّمت يمتلكُ مصدرَهُ في المحو الذي ينشدُّ إليه الكاتبُ. وإلا؛ فإنّهُ [أي الصَّمت] مَصْدَرُ براعتِهِ، وحقُّ التدخّل الذي تحتفظُ به اليدُ التي لا تكتبُ ــ وهو الجزء من الكاتب الذي يستطيعُ باستمرارٍ أنْ يقولُ لا، وعند الضُّرورة، يَسْتَأْنَفُ الزَّمنَ، ويَسْتَرجِعُ المُستقبلَ.

عندما نُعَجَبُ بأسلوبِ عملٍ ما، وعندما نستجيبُ لرنينهِ فيما يتعلّق بمظهره الأصلي، فإلى ماذا نومىء؟ ليس للأسلوب، أو لمنفعةِ اللغة وقيمها، ولكن لهذا الصّمتِ عَلَى وَجْهِ الدّقة، هَذِهِ القُوّةِ الحيويةِ التي قد احتفظ الكاتبُ من خِلالِهَا، مع ذلك، بعد أن حُرِمَ من ذاته، بعد أن نَبَذَ ذاته، بسلطةِ قوةٍ معينةٍ في هَذَا المحو: والسُّلطة لا تزال قائمة على نحو حاسمٍ، ليتسنى ما يتكلّمُ في هذا الصَّمْتِ دونَ بدايةٍ أو نهايةٍ أنْ يكتسبُ شكلاً أو تلاحماً أو معنى. الأسلوب ليسَ صوتَ الكاتبِ، ولكنَّهُ ألفةُ الصّمت التي يفرضُها الكاتبُ على الكلمةِ. وهذا يقتضي ضمناً أنَّ الصّمت لا يزال صَمْتَهُ ـــ أي ما يمكثُ منه في التكتُّم discretion الذي يضعه جانباً. فالأسلوب يصنع الكتّاب العظماء، بيد أنّ العملَ ربما غيرُ مكترث بما يجعلهم عظماء. وفي هذا الامّحاء الذي يُدعى إليه، لا ينفكُّ "الكاتب العظيم" يكبح؛ فما يتكلّمُ لم يعد هو ذَاتُهُ، ولكنه ليسَ بانزلاقٍ شديدِ التّحدر بعيداً عن كلمةِ لا أحدno one’s word. ولكونه يحافظ على الإثبات الموثوق وإنْ كان صامتاً لـلضمير "أنا" الممحوّ. فإنّه يصونُ الحدَّ القاطعَ، السُّرعةَ العنيفةَ للزَّمن الفعال، وللحظة. هكذا يقي نفسَهُ داخلَ العمل؛ إذ ليس ثمة مزيدٌ من التحكّم فهو يشتملُ على ذاتهِ. لكنَّ العملَ كذلك يحتفظُ، بسببِ هذا، بمضمونٍ ما. إنَّهُ ليسَ تماماً باطنيته الخاصّة.

إنّ الكاتبَ الذي نسمّيه التقليديَّ ــ أقلّه في فرنسا ــ يُضحّي في داخله بالاصطلاح الملائم له، لكنه يقوم بذلك لكي يمنح صوتاً للكلي. إن رصانةَ الشّكل المنظّم، حقيقةَ لغةٍ مفرّغةَ من الخصوصية، حيث تتكلّمُ العمومية غير الشَّخصية، تضمنُ للكاتبِ علاقةً مع الحقيقةِ ــ مع الحقيقةِ التي تكون متعاليةً على الشّخص وتُوْهِمُ أنَّها متجاوزةٌ للزَّمن. وعندئذ يحتازُ الأدبُ على عزلةِ العقلِ البَهيّةِ، تلك الحياة النادرة في قلب الكليّ مما يفترض الحزم والبسالة إذا لم يكن هذا السّبب في الحقيقة رسوخَ مجتمع أرستقراطيٍّ منظم؛ بمعنى، الارتياح النبيل لجزءٍ من المجتمع الذي يركّزُ الكلَّ بداخلهِ عن طريقِ عزل نفسِهِ بما يفوقُ ما يحافظُ عليه.

وحينما تتمثّل الكتابةُ باكتشاف اللانهائي، فإنَّ الكاتبَ الذي يلجُ هذا الحقلَ لا يدعُ ذاتَهُ وراءه من أجل مقاربةِ الكونيّ. إنّ الكاتب لا يتحرّك صوب عالم أرسخ، نحو عالم مسوّغ على نحو أرقى أو أفضل حيث كلُّ شيءٍ سوف يكون منظّماً وفقاً لصفاء نور النهار غير المتحيّز. فهو لا يكتشفُ اللغةَ البديعةَ التي تتكلّم على نحو مشرّفٍ للجميع. ما يتكلّم فيـ[ـــه] هو في الحقيقةِ، على نحوٍ أو آخر، أنّه لم يعدْ هو ذاتُهُ بعد الآن؛ لم يعد أحداً، فهو ليس بأيّ شخص على الأكثر.

إن صيغة الغائب [هو] التي نابت عن الـ "أنا": تلك هي العزلة التي تنبثقُ للكاتبِ بسببٍ عمله. وهي لا تدلُّ على اللامبالاة الموضوعية، أو الانفصال الإبداعي. إنها لا تمتدح الوعي في شخص ما باستثناء ذاتي أو تَقَدُّمِ الحيوية البشرية التي، في الفضاء التخيُّلي للعمل الفني، تحتفظُ بحريةِ قول "أنا". وصيغة الغائب هي ذاتي التي تغدو لا أحد، ومحاوري قد تحوّل إلى شخصٍ غريب؛ وإنه لم يعد بمقدوري بعدُ، حيث أكون، بمخاطبة ذاتي وعجزَ مَنْ يخاطبني أنْ يقول "أنا"؛ فهو ليس كينونته ذاتها.


 اللجوء إلى " اليوميات"([4])

ربَّما من اللافتِ للنَّظر، من اللحظة التي يغدو فيها العملُ بحثاً عن الفن، من اللحظةِ التي يغدو فيها العملُ أدباً، فإنّ الكاتبَ يحسُّ بصورةٍ تدريجيةٍ الحاجةَ للحفاظِ عَلَى عَلاقةٍ مَا مع ذاتهِ. وشعوره بالنُّفور الشّديد عند فقدان إدراكه لذاتهِ وذلك لحسابِ تلك القوة المحايدة، التي لا شكل لها ومجرّدة من المصير، إذ تكون وراء كل ما يُكتبُ. وهذا النُّفور، أو الخشية، يُكْشَفُ من خلالِ الاهتمام، وهو الشَّيءُ المميّزُ لعديدٍ من المؤلفين، بكتابة ما يدعونه "يومياتهم". ومثل هذا الانهماك أبعد ما يكونُ عن المواقف القانعة والموصوفة عادةً بالرومانسية. إن اليومياتِ ليستْ اعترافاتٍ بصورةٍ جوهريةٍ. فهي ليست بالقصةِ الخاصّةِ للمرء. إنها شيءٌ تذكاريٌّ. ماذا ينبغي على الكاتب أن يتذكّر؟ ذاته: مَن هو يكونُ عندما لا يكتبُ، عندما يحيا الحياةَ اليوميّةَ، عندما يكونُ حيّاً وحقيقياً، ليس بميتٍ ولا بخلوٍّ من الحقيقة. بيد أنَّ الأداة التي يستعملها الكاتب لكي يتذكر ذاته، بصورةٍ غريبةٍ، تتمثّلُ بعنصر النِّسيان ذاته: الكتابة. ولهذا السَّبب، مع ذلكَ، فإنَّ حقيقةَ اليومياتِ لا توجد في الملاحظاتِ الأدبية الممتعة إذ يمكن إيجادها هناك، ولكن في التفاصيل الهامشية، التي تربطها بالواقع اليوميّ. واليوميات تمثّل سلسلةً من المؤشراتِ المرجعيةِ التي يوطّدها الكاتبُ لكي يتعقّبَ نفسَهُ عندما يشرعُ في الارتياب بالتحوَّل الخطير الذي يتعرّضُ له. إنّه لمسارٌ يظلُّ قابلاً للتجدّد؛ إنها شيء ما مثل ممشى الحارس على المتاريس: محاذٍ لـها، مُطلٌّ عليها، وأحياناً أخرى يلتف حول الممرِّ الآخر ــ الممرّ حيث التَّيَهَانُ هو مهمةٌ لا نهاية لها. هنا الأشياء الحقيقية هي التي يجري الحديث عنها. هنا، كلُّ من يتكلّمُ يحتفظ باسمه ويتكلّم بهذا الاسم، والتَّواريخ التي يدوّنها الكاتبُ تنتمي إلى زمنٍ مشتركٍ إذْ ما يحدثُ حقاً يقع. واليوميُّ[اليوميات] ــ هذا الكتاب المنعزل كلياً كما يبدو ــ كثيراً ما تجري كتابته من خلال الخشيةِ والمعاناةِ في العُزلةِ التي تلمُّ بالكاتب بسببِ عملِهِ. واللجوء إلى اليوميات يشير إلى أنَّ مَنْ يكتب لا يرغبُ أن ينفصلَ عن القناعة. إنّهُ لا يريدُ أنْ يعترضَ على توافق الأيام التي حقاً هي أيام حيثُ فعلياً اليوم يتلو الآخر. إنّ اليوميات تجذّرُ حركةَ الكتابةِ في الزَّمن، في التتالي الوديع للأيام التي تحافظُ تواريخها على هذه الرَّتابة. وربّما فما هو مَكْتُوْبٌ ليسَ ثمّة شيءٌ فيه سِوَى الرّياء. لَعَلّهُ يُقال بدون مراعاةٍ للحقيقة. ولكنّهُ يُقال في ضمانةِ الحدث. فهو ينتمي إلى الَحِرَف والوقائع وشؤون العالم ــ وصولاً إلى حاضرنا الفعّال. وهذه الاستمرارية هي صِفْرِيّةْ وتافهةٌ، لكنها على الأقلّ يتعذّر إلغاؤها. إنها مطاردةٌ تمضي متجاوزةً ذاتها صوبَ الغد، لكي تُواصلَ هناك بصورةٍ نهائيةٍ. تدلُّ اليوميات على أنَّ الكاتب لم يعدْ بمقدورهِ الانتماء إلى الزَّمن من خلال اليقين المألوف للفعل، ومِنْ خِلال الاهتمامات المشتركة للمهام الشَّائعة، للمهن، من خلال بساطة الكلام الحميم، قوّة العُرف غير المتأمِّلة unreflecting. إنَّ الكاتبَ لم يعد تاريخياً بإخلاص. لكنه لا يرغبُ بتبديد الزَّمن أيضاً، وبوصفه لم يعدْ يدركُ مجدَّداً كيف يفعلُ أيَّ شيء باستثناء الكتابة، فهو على الأقل يكتبُ استجابةً لتاريخهِ اليوميّ وبما يتلاءم مع انشغالاتِ الحياةِ اليوميّة. ويصدف أنَّ الكُتَّابَ الذين يحتفظون باليوميات هم الأكثر أدبيةً على الإطلاق، ولكن ربّما هذا يكون على وجه الدِّقة لأنهم يتفادون، من ثمَّ، تطرُّفَ الأدبِ، إذا كان الأدبُ يتمثّلُ، في نهاية الأمر، بالعَالم الفاتن لغياب الزَّمن.

فتنة غياب الزَّمن

تُعَدُّ الكتابةُ استسلاماً لفتنةِ غياب الزَّمن. فنحن الآن بلا ريبٍ نقتربُ من جوهر العُزلة. إنَّ غياب الزّمن ليس بالأسلوبِ السّلبيّ المحض. إنه الزّمن حينما لا شيءَ يشرعُ، وحينما تكون روحُ المبادرة غيرَ ممكنةٍ، عندما، وقبل الإثبات، ثمة بالفعل استئنافٌ للإثبات. وعوضاً عن الأسلوبِ السلبيّ المحض، فإن الزَّمن، وبخلاف ذلك، دون نقيضٍ، دون قرارٍ، وحينما ليس ثمة مكان كذلك هنا، فكلُّ شيءٍ يرتدُّ إلى صورتهِ بينما "أنا" الذي ندرك ذاته من خلال الاستغراق في حياديةِ صيغةِ الغائب عديمة الشّكل. فزمنُ غيابِ الزَّمن لا حاضرَ له ولا حضورٌ. وهذا "اللا حاضر"، رغم ذلك، لا يُحيلنا إلى ماضٍ. فالأيام الخوالي اتّسمت بالمهابة، القوةِ الفعالةِ في الوقت الرَّاهن. ولا تنفكُّ الذاكرةُ تحمل شهادةً على هذه القوة الفعّالة. فهي تحرّرني بطريقةٍ أخرى مما قد يذكّرني. إنها تحرّرُني بوساطةِ مَنْحِي أدوات الاتصال بشكلٍ حرٍّ بالماضي، وإدارتهِ تبعاً لنيتي الرّاهنة. والذاكرةُ تمثّل حريةَ الماضي. بيدَ أنَّ ما لا حَاضِرَ له لن يقرَّ بحاضر الذاكرة كذلك. تتحدّث الذاكرةُ عن الحدث: إنه جَرَى مرةً والآن لن يقعَ مرةً أُخرى.

إنَّ الوسم المستعصي لِمَا لا يملكُ حاضراً، لِمَا لم يكن هناك حتى بوصفهِ كان مرة هناك، يُصَرِّحُ: إنه لم يحدث قطُّ، إنه لم يقعِ البتّة، مطلقاً وللمرّة الأولى، ومع ذلك فهو يَشْرَعُ من جديدٍ، مرةً، تلو الأُخرى، وبصورةٍ لانهائيةٍ. إنه بلا نهايةٍ، بلا بَدايةٍ. وهو دون مستقبلٍ. إنَّ زمنَ غيابِ الزَّمن ليس بجدليٍّ. وفي هذا الزَّمن فما يتجلّى يتمثّلُ بحقيقةِ أنّه لا شيءَ يتجلّى. وما يتبدّى هو عمقُ الكينونةِ داخل غيابِ الكينونة، [الكينونة] التي عندما ليسَ هناك شيءٌ التي، حالما هناك شيءٌ ما، لا تَعُدُّ مَوْجُوْدَةً. ولأنه كما لو لم يكن ثمة كائنات إلا عبر فقدان الكينونة، حينما تكون الكينونةُ مُفتقرةً. إنَّ تغيُّرَ الاتجاه الذي يوجّهنا بشكلٍ متواصلٍ، في غياب الزَّمن، إلى حضور الغياب ــ ولكن إلى هذا الحضور بوصفه غياباً، إلى الغيابِ بكونه الإثباتِ الخاصّ به (إثباتٌ حيثُ لا شيءَ فيه مؤكدٌ، لا شيءَ فيه يَكُفُّ عن إثباتِ ذاته مع العزم المنهك على اللامحدود) ــ هذه الحركة ليست بجدليةٍ. والمتعارضات الكائنة لا تُقصي بَعْضُهَا بَعْضَاً؛ ولا هي متوافقة. والزَّمن نفسه فحسبُ، الذي يغدو السَّلب في غضونه قوتنا، يجيز لـ"وحدة المتضادات". وفي غياب الزّمن؛ فما هو جديدٌ لا يستأنفُ شيئاً. وما هو حاضرٌ ليس بمعاصرٍ. وما هو حاضرٌ لا يعرضُ شيئاً، لكنه يمثّلُ نفسَهُ وينتمي من الآن فصاعداً وباستمرارٍ إلى العَوْدِ[التكرار]. إنه ليس كذلك، بيد أنّه يعود ثانيةً. إنه يأتي بالفعل وإلى الماضي باستمرار، لذلك فإنَّ علاقتي به ليست علاقةَ معرفةٍ، لكنْ علاقةَ اعترافٍ، وهذا الاعترافُ يهدمُ فيَّ قوةَ المعرفةِ، والحقَّ في الإدراك. وهو ما يجعلُ غيرَ القابل للإدراك أمراً لا مَنَاصَّ منه؛ فهو لا يتيح لي مُطْلَقَاً الكفَّ عن بلوغِ ما لا يمكنني إنجازُهُ. وما لا يمكنُ أَخْذُهُ بالحسبان، ينبغي أن أتحمّله ثانيةً، ولا أَدَعَهُ يمضي. وهذه المرّة ليس الجمودُ المثاليُّ الذي يبجّلُهُ الاسمُ "الأبديُّ". في الحقل الذي نحاولُ مقاربته، هنا قد انهارَ إلى لاـ مكانnowhere، ولكنَّ الـ لاـ مكان رغم ذلك هو هنا، وهذا الزّمن الفارغ، الميت هو زمنٌ واقعيٌّ حيث الموتُ الحاضرُ ــ الحاضرُ الذي يقع فيه الموت، ولكن لا يكفُّ عن الحدوث، كما لو، عَنْ طريقِ حدوثِهِ، يجعلُ الزَّمنَ الذي يمكنُهُ الحدوثَ فيه قَفْراً. والحاضرُ الميتُ يمثّل استحالةَ تحويل أيّ حضورٍ إلى شيءٍ حقيقيٍ ــ هو استحالةٌ حاضرةٌ، التي تكون هناك بوصفها مضاعفةَ الحاضر، ظلَّ الحاضر الذي يحملُهُ الحاضرُ ويُخْفِيه في ذَاتِهِ. حينما أكون وحدي، فأنا لست وحيداً، لكنْ في هذا الحاضر، أعود إلى ذاتي بالطبع في هيئةِ شخصٍ ما. شخصٌ ما هناك، حيث أكون وحدي. وحقيقة كوني وحيداً تتجسّد في انتمائي إلى هذا الزّمن الميت الذي ليس بزمني أو زمنك أو الزّمن الذي نتشارك فيه بصورةٍ عامةٍ، لكنَّه زمنُ شخصٍ ما. شخصٌ ما لا يزال حاضراً حينما ليس ثمة أحدٌ. وأنـَّى أكنْ وحدي، لا أكنْ هناك؛ لا أحد هناك، ولكن اللاشخصي هو: الخارج، ذاك الذي يعيق، ويتقدَّم، ويبدّد احتمالية أيّ علاقةٍ شخصية. شخصٌ ما هو الشخص الثالث[الغائب] المُغْفل الهُوية، أيْ الـ "هُمْ"([5]) They هو الجميع وأيّ شخصٍ هو جزء منه، ولكن مَنْ هو [هذا] الجزء منه؟ ليسَ أيّ شخصٍ قطُّ على وجهِ التّحديد، لا أنتَ ولا أنا مُطلقاً. لا أحدَ هو عضوٌ من هم. والـ"هم" ينتمي إلى حقلٍ لا يمكنُ إظهارُهُ [حرفياً: جَلْبُهُ إلى النُّور]، ليس لأنه يخفي سرّاً غريباً ما لأيِّ إلهامٍ أو حتّى لأنه مبهمٌ بصورةٍ جذريّةٍ، ولكن لكونه يغيّر كلَّ شيء قد يصل إليه، حتى النور، إلى مجهول الاسم، كائن غير شخصي، غير حقيقي، غير واقعي ولكنه هناك باستمرار. والــ "هُم"، بهذا الخصوص، ما يتراءى قريباً للغاية، عندما يموت شخص ما([6]). عندما أكون وحيداً، فإنَّ نورَ النهار ليس إلا فقدانَ مأوى. إنها علاقةُ ألفةٍ مع الخارج الذي لا يملك موقعاً ولا يمنحُ راحةً. والقدومُ إلى هنا يجعل الشَّخص الذي يَقْدُمُ، ينتمي إلى التبدُّد، إلى الهوّة حيث الخارج هو التطفُّل الذي يختنقُ، ولكنه كذلك هو الوضوحُ، القشعريرةُ الميّتةُ من الانحباس التي تَدَعُ المرء مكشوفاً بصورةٍ نهائيةٍ. هنا الفضاءُ الوحيدُ هو انفصالُهُ المصابُ الدوّار. هنا يعمُّ الافتتان.

الصُّورة

لماذا الافتتان؟ تقتضي الرّؤيةُ ضمناً المسافةَ، والحسمَ الذي يفصل، والطاقةَ على المكوث خارج الاتصال وفي داخله لتفادي الارتباك. إنَّ الرؤية تعني أن هذا الانفصال أصبح مع ذلك مواجهةً. لكن ماذا يحدث عندما [يظهر] ما تراه، على الرّغم من أنه على مسافةٍ، فهو يبدو أنَّه يَلْمسُكَ ملامسةً جاذبةً، حينما أُسْلوب الرؤية يكونُ صنفاً من اللمس، حينما تكون الرؤية ملامسةً عن بعد؟ ماذا يحدثُ عندما ما يُرى يفرضُ ذاتَهُ على النّظر، كما لو أنَّ النَّظر مقيّدٌ، موضوعٌ في ملامسةِ المظهر؟ ما يجري ليس اتصالاً فعّالاً، وليس مبادرةً والفعل الذي لا يزالُ هناك يمثّلُ ملامسةً حقيقيةً. وعلى الأصحّ، يَحْدُثْ أنْ تُؤْخَذَ النَّظرةُ، ويجري استيعابها من خلال حركةٍ ثابتةٍ وعمقٍ ضحلٍ. وما يُمنح عبر هذا الاتصال عن مسافةٍ هو الصُّورة، والافتتانُ هو هذا الولعُ بالصُّورة. 

إنَّ ما يُسحرنا يَسلبُنا قوتنا على إعطاء المعنى. فهي تتنازلُ عن طبيعتها "الحسية"، وتتخلّى عن العالم، تنسحبُ منه، وتجذبنا برفقته. إنها لم تعد تظهرُ ذاتها لنا، ورغم ذلك فهي تؤكد ذاتها في حضورٍ غريبٍ للحاضر الزمني والحضور في الفضاء. والانفصالُ، الذي شكّل إمكانية للرؤية، يتخثّر إلى استحالةٍ في قلب النّظرة. وبذلك فالنظرة تجد، فيما يجعلها ممكنةً، تلك القوة التي تشلُّها، لا بإرجاء ولا بإيقافٍ، ولكن بخلاف ذلك فإنّها تعيقها من التلاشي في أيّ وقتٍ، وتستأصلها عن أيّ بداية، مما يجعلها وميضاً محايداً دون اتجاهٍ، الذي بدوره لن ينطفىء، لكنها لا توضّح ـــ وبذلك فالنظرة تكون قد انكفأتْ على ذاتها وانغلقت في دائرة. هنا نمتلكُ تعبيراً مباشراً عن ذلك الانقلاب الذي هو جوهرُ العزلة. الافتتان هو تحديقةُ العُزلة. تحديقةُ اللانهائيّ والأبديّ. وفي هذا العَمَاء تكون البصيرةُ vision خامدة، البصيرةُ التي لم تعدْ إمكانية للرؤية، بل استحالةَ عدم الرؤية، الاستحالة التي تغدو مرئيةً ومواظبةً ــ باستمرار واستمرارــ على بصيرة لا تصلُ إلى نهايةٍ: نظرة ميتة، نظرة تغدو شبحَ رؤيةٍ سرمدية. وعن كلّ مَنْ يكون مفتوناً، يمكن أن يُقال إنه لا يميّز أيَّ موضوع حقيقي، أيّ مظهرٍ حقيقيٍّ، لأنَّ ما يراهُ لا ينتمي إلى عالم الواقع، بل إلى محيطٍ غامضٍ من الانبهار. هذا المحيط، إذا جاز التعبير، مطلقٌ. إنّ المسافةَ ليست مُقصيةً منه، لكنها مُتعذرةُ القياس. المسافةُ هنا هي العمقُ بلاحدّ وراء الصُّورة، عمقٌ شديدٌ ميتٌ، غيرُ قابلٍ للتغيير، حاضرٌ على نحو مطلقٍ رغم أنه غير مُعْطَى، إذ تغورُ الأشياءُ بعيداً عندما تحيدُ عن معانيها، عندما تَتَدَاعَى في صورها. إن عالم الافتتان هذا، حيث ما يراه المرءُ يستولي على البَصَر ويجعله لانهائياً، إذ تتخثّر النظرة في الضوء، إذ يكون الضوء هو الوميض المطلق للعين، الوميض الذي لا يراه المرء، ولكنه لا ينقطع عن رؤيته لأنّه صورةٌ ثانويةٌ لنظرة المرء الخاصّة ــ هذا العالمُ فاتنٌ بشكلٍ كليٍّ. إنه الضوءُ الهاويةُ كذلك، الضوءُ الذي يغورُ فيه المرءُ، الهاوية المُرعِبَةُ والمُحيِّرةُ على حدٍّ سواءْ. وإذا كانت طفولتنا تَسْحَرُنا، فهذا يحصلُ لأن الطفولةَ هي لحظةُ افتتانٍ، وهي بذاتها مفتونة. وهذا العصرُ الذهبيُّ يبدو مغموراً بنورٍ باهرٍ كونه غير جليٍّ. بيد أنّ الأمر الوحيدَ يتمثّل بأنَّ هذا النورَ غريبٌ عن الإظهار، ولا يملك ما يُظهره، فهو ضوءٌ منعكسٌ محضٌ، شعاعٌ لا يزال وميضاً للصُّورة فحسب. ربما قوة الشَّخصية الأمومية تتلقى كثافتها من قوّة الافتتان تحديداً، ولعلَّ للمرءِ أن يقول عندئذٍ، هذا إذا فرضتِ الأمُّ هذه الجاذبية السَّاحرة، فهذا لأنّها تكثّفُ في ذاتها قوى السِّحر قاطبةً، وذلك بإظهار الطفل كلياً في نظرةٍ مسحورةٍ حينما يحيا. ولأنّ الطفل مفتونٌ لأنَّ الأمَّ مُذْهِلةٌ، ولهذا السبب كذلك فكلّ انطباعاتِ الطفولةِ المبكرةِ تملكُ نوعاً من الثَّبات الذي ينبثقُ من الافتتان. وكلُّ مَنْ يكونُ مفتوناً لا يَرى، وبالحديث بشكلٍ أصوبَ، ما يراه. وفي الواقع [هذا المرئيّ] يمسُّه في قربٍ مباشر. إنه يستولي عليه ويقتربُ منه دون كلل، على الرّغم من أنه يدعه بعيداً كلياً. الافتتان بصورةٍ أساسيةٍ متصل بالحضور المحايد، غير الشّخصي، بغير المحدّد هم They، شخص ما هائل، مجهول الهوية. والافتتان هو العلاقة التي تستأنس بها النظرة ـــ علاقة هي ذاتها محايدة وغير شخصية ــ وذلك بعمقٍ لا شكل له ودون بصيرة، الغياب الذي يراه المرء لأنه يسبّبُ التعمية.


الكتابة

إنَّ الكتابةَ هي الشُّروعُ في تأكيدِ العزلةِ التي يتوعّدها الافتتانُ. وهي الخضوعُ لمجازفةِ غيابِ الزَّمنِ، حيثُ يعمُّ البدءُ الأبديُّ من جديدٍ. إنَّها اجتياز من الشَّخص الأول [الحاضر] إلى الشَّخص الثالث [الغائب]، ومن ثمّ ما يحدث لي لا يحدث لامرىءٍ آخر، غائب مجهول الاسم بقدر ما يهمُّني، يكرّرُ ذاتَهُ في تبدُّدٍ بلا نهاية. لذا فالكتابة هي السَّماح للافتتان بالاستحواذ على اللغة. إنها المكوثُ في الاتصال، من خلال اللغة، وفي اللغة، مع العالم (البيئة) المطلق حيث يغدو الشيءُ صورةً مرة أُخرى، وحيث تصير الصُّورةُ، عوضاً عن الإلماع إلى سمةٍ محددةٍ، إشارةً إلى ما لا مَعَالم له، وعوضاً عن شَكلٍ مستندٍ إلى الغياب، تصبحُ [الصّورة] الحضورَ عديمَ الشَكل لهذا الغياب، الانفتاحَ الفارغَ المبهمَ على ذاك الذي يكون حينما ليس ثمّة عالمٌ آخرُ، حينما ليس ثمّة عالمٌ بعدُ. لماذا؟ لماذا ينبغي على الكتابة أن ترتبط مع العزلة الأساسية، العزلة التي جوهرها هو الكتمانُ الذي يتجلّى فيها؟


([1]) ـــ تشكل هذه الترجمة الفصل الأول من كتاب موريس الأشهر "الفضاء الأدبي" في ترجمته الإنكليزية: Maurice Blanchot: The Space of Literature, Translated by Ann Smock, University of Nebraska Press1982.

أتقدّم بجزيل الشُّكر والتقدير إلى الأصدقاء إبراهيم محمود وعزيز توما ونارين ديركي وشيروان رمضان الذين قرؤوا هذه الترجمة وقدّموا ملاحظات مهمة جداً ساعدتني على تذليل الالتباس الذي اعترى بعض التراكيب المعقدة في النص.

([2]) ــــ هذا الوضع يختلف عن وضع الإنسان الذي يكدح في مهمته ويتمّمها لكنها تضطر للإفلات منه عن طريق إجراءٍ متحوَّل في العالم. وما ينتجه الإنسان يتعرّض للتبدُّل، بل يخضع لهذا التغيير في العالم، والإنسان يسترده عبر العالم. أو على الأقل يستطيع أن يستعيده إذا لم يُشلّ نقلُ الملكية ــ أو يُصادر لمصلحة آخرين معينين ــ بل تجري متابعة الأمر بدلاً من ذلك ــ وصولاً إلى الإنجاز الكامل الخاص للعالم. وبخلاف ذلك، ما يهدف الكاتب إليه هو العمل، وما يكتبه يتمثّل بكتابٍ ما. والكتاب، على هذه الصُّورة، يمكن أن يغدو حدثًا فعّالاً في العالم (عملٌ، ورغم ذلك، يكون باستمرار متكتماً وناقصاً)، لكنه ليس بالعمل الذي يتغيّاه الكاتب. إنه العمل. وما يجعل الكتاب استعاضةً عن العمل يكفي لجعله الشيءَ، مثل العمل، لا ينبثق من حقيقةِ العَالم، بل تقريباً يكون عديم الفائدة، نظراً لكونه لا يتضمّن حقيقة العمل ولا جديّة المهمّات الأصلية الحقيقية التي يجري الشُّروع بها في العالم.

([3]) ـــ تستدعي عبارة موريس بلانشو Noli me legere العبارة اللاتينية: Noli me tangere ("لا تلمسيني") أو [لا تمسكينني] وهي الصياغة اللاتينية للعبارة التي قالها يسوع لمريم المجدلية، بحسب إنجيل يوحنا 20:17، عندما تعرّفت عليه بعد قيامته: [فقال لها يسوع: "لا تمسكيني، لأني ما صَعِدتُ بعدُ إلى الآب...] / (ملاحظة المترجم).

([4]) ــ عندما أكون وحيداً، لستُ مَنْ أكون هناك، ولا أمكث بعيداً عنك، أو عن الآخرين، أو عن العالم. على هذا النحو يشرعُ التأمّل الذي يبحث في "العزلة الجوهرية والعزلة في العالم". انظر بخصوص هذا الموضوع وتحت هذا العنوان، صفحات محددة في ملاحق [الكتاب].

([5]) ـــ تأثير مارتن هايدغر في بلانشو يظهر هنا جلياً بخصوص استعماله الضمير "هم" مفرداً بصيغة الجمع كضربٍ من ثلاثة أنماطٍ للوجود: "1ــ أن أكون مع نفسي، أي "كينونة النفس". 2ــ أن أكون مع الآخرين، أي " الكينونة معاً"،3ــ أن يكون الآخرون من حيث هُمْ [رداً على سؤال من هو الدازاين اليومي؟] أي ظاهرة "الهُم" أو "الناس" أو "المرء" بعامة". يُنظر بالتفصيل الفصل الرابع، الهامش (6) ص232، الكينونة والزمان: مارتن هايدغر، ترجمة: فتحي المسكيني، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2012. واستعمال بلانشو له يُقصد به أن الكاتب يتوه في متاهات الكتابة ويغدو أشبه بالغائب أو المحايد، فالكتابة عندئذ تنبو عن أن تكون تعبيراً عن الذات، ولكنْ تعبيراً عن الغياب. (ملاحظة المترجم).

([6])- لن نحاول هنا الردّ على هذا السؤال بشكل مباشر. وسنسأل فقط: تحديداً كما يمتدح التمثال الرخام، وبقدر ما الفن كله يعني أن يجري جذبَ العمق الأساسي الذي ينفيه العالم ويقاومه إلى ضوء النهار، من أجل تأكيد ذاته، فألا تُقَارَنُ لغة القصيدة، لغة الأدب، مع اللغة العادية كما تُقارن الصًّورة بالشيء؟ إنّ المرءَ يودُّ أن يعتقد بأن الشِّعر هو لغة تحابي الصُّور أكثر من غيرها. وهذه إشارةٌ إلى تحوّل أكثر من جوهريّ - فالقصيدةُ ليستْ قصيدةً لأنها تتضمّن عدداً معينا من المجازات والاستعارات والتشابيه وبخلاف ذلك، فإنّ السِّمة الخاصة للقصيدة هو أنَّها لا شيءَ فيها يؤدّي دورَ الصُّورة. لذلك ينبغي أن نُعبّرَ عما نسعى إليه بصورةٍ مختلفةٍ: في الأدب، ألا تصبح اللغة ذاتها صورةً كليةً؟ نحن لا نقصد لغة تتضمَّن صوراً أو لغة تعكسُ الواقع بأشكال، ولكن نقصد تلك اللغة التي صورتُها الخاصةُ، صورة اللغة (وليست لغة تصويرية)، أو مرة أخرى، لغة خيالية، لا يتحدّث بها أحد؛ وإنما لغة، أي تصدر عن غيابها، الطريقة التي تنبثق بها الصُّورة لدى غياب الشيء؛ لغة تخاطبُ ذاتها بظلال الأحداث كذلك، وليس حقائقها، وذلك لأنَّ الكلمات التي تعبّر عنها ليست بعلاماتٍ، بل هي صورٌ، وصور للكلمات، وكلمات حيث تتحوّل فيها الأشياء إلى صور. ما الذي نبحث عنه لتمثيله من خلال هذا القول؟ ألسنا على المسار الذي يقودنا خلفاً إلى الافتراضات التي جرى نبذها بلباقةٍ، أي المماثلة لتلك التي كانت تُستعمل لتحديد الفن بوصفه تقليداً، ونسخةً عن الواقع؟ إذا، في القصيدة، أضحت اللغةُ صورتَها الخاصة، ألا يعني هَذَا أنَّ اللغة الشِّعرية باستمرار ما تكون ثانيةً، ثانوية؟ وتبعاً للتحليل السائد، تأتي الصورة بعد الموضوع، إنه استمرار الموضوع. ونرى ثم نتخيَّل. بعد الموضوع تأتي الصُّورة. ويبدو أن كلمة "بعد" تومىء إلى الامتثال. فنحن نتحدّث حقاً، ثم نتحدّث في مخيلاتنا، أو نتخيل ذواتنا تتحدث. ألنْ تكون اللغة الشعرية هي النسخة، والظلّ الباهت، والبديل ـ في مكان حيث تُوْهِنُ فيه الضروريات الفعالية ـ للغة التكلّم الوحيدة؟ لكن قد يكون التحليل السَّائد خاطئاً وربما قبل المضي قدماً، ينبغي على المرء أن يتساءل: ولكن ما الصورة؟ (انظر، في الملاحق، الصفحات الموسومة بــ "نسختين من المتخيّل.")

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية