من المكان إلى المكان

ما أكثر الصيَّغ التي تتخذ من المكان مادة لها، رغم أنها في بنيتها تكون مادةَ المكان نفسه. تلك حيلة ممرّرة لا يُلتفَت إليها، متَّفَق عليها، كما يبدو. فما هو مؤكَّد هو أننا مكانيون. سيقال: هذه بداهة. لكن الحديث عن المكان من خلال تلك الصيغ، لا يفصح عن ذلك: إن هندسة المكان، جماليات المكان، شعرية المكان، فلسفة المكان...إلخ، هي التي تعلِمنا بهذا المقدَّم معلوماً وهو ليس كذلك. المكان سابقنا في وجوده، ويستغرقنا في عراقته وفي قواه الخاصة به، ونحن في كل ما يكوّننا حتى إلى ما وراء المعتبَر " غيباً " نستمد منه ما يعيننا تعبيرياً. كل مكان هو مجاز، وليس من مكان إلا وفيه ضرب من ضروب الخيال الذي قد يحيل إليه المكان ذاك، كما لو أن المنطوق أو المكتوب هو الأصل، والمكان مشتقٌّ منه، وإلا لكان هناك نسبية في كل قول أو كتابة، وما تنطوي عليه أدبياتنا المختلفة من موضوعات، والتمادي في القوة والثقة بالنفس، أقرب ما تكون شهادة حية، صامتة، ولكنها بليغة على مدى التناقض في أساس العلاقة .

إن المكان مفارِق لنا في ما يحدث فيه وله. صامت، لا تُفَك شيفرته، جرّاء قِدمه، ودلالة هذا القِدَم، ونحن، كبشر، زاعمي أنفسنا قيّمين عليه، خلفاء سماويين، بالمفهوم المتعالي، نهِبُه حضوراً معيناً على طريقتنا، وما أكثرها تقسيمات وانقسامات طريقتنا هذه، حين نضفي عليه ما يعنينا وليس المكان. وحيث إن الكوارث في عائدها المكاني وما هو بينيّ، والحروب التي تترجم قمة الانفلاش البشري وتجسيده للخراب الذي يبلبل المكان ويذهله حضوراً، تشهد بنا علينا، على هذا الممثّل في المكان، بمردوداته الحدودية، وتجليات الحدود واستقصاءاتها المختلفة .


المكان الذي نسمّيه، ونمنحه ألقاباً، كما نصلُه بصفات تعنينا ولا تعنيه، فهو واحد، بينما نحن فما أكثرنا، وما أشدنا خلافات واختلافات، كما لو أن المكان هذا، في كل مرة ينقّح أخطاءنا، والقاتلة منها أحياناً، ولا نعير ذلك التفاتة أو انتباهاً، بدعوى أنه جماد، أنه لا يملك روحاً، أنه مجرَّد من كل حركة، نبض، إحساس، شعور، وفي كل ذلك نُسقِط عليه ما يترجم أنانيتنا، وما تشكّله مركزيتنا في الوجود، ولهذا يستمر عمانا في الكون، ونبتعد عن المكان كحقيقة.

أضيف هنا إلى ما يعرَف به المكان، أي الوجوه الألف له، وأي وجه نختار، استبداد به في وحدته الاسمية، واستمرار الوقوع في الخطأ، حيث لا تعريف محكَماً للمكان هذا.حيث ننسى أننا من سلالة المكان، من هذا الطبيعي الذي اُشتقنا منه، ونسينا أننا الجزء وليس الكل موحَّداً.

ورغم تأكيدنا على أن المكان له بُعد ثقافي، إلا أن الأخير لا يؤخَذ بعين الاعتبار. إن هذا البُعد هو الذي يجلو الحقيقة المرة والمأساوية للمكان، حيث كان الشاهد الأول على سفح الدم البشري، تبعاً للميثولوجيا الدينية" مقتل هابيل على يد أخيه هابيل "، وما في ذلك من تطويب للمكان المدمَّى الذي لم يعدْ واحداً موحداً، وقد ألحِق على وقْع هذه المقتلة الفظيعة بما هو ثقافي، وفي متنه يتدوَّم عنفه !

في الحديث عن المكان بالصورة هذه، سعي إلى الاعتراف بالمكان النسبي، ومكاشفة لحقيقة لطالما كانت مثار تفاخر أو تباه ٍ، ومنتسبة إلى ما هو جمالي، أو فني، وهي تتمثل في لائحة ما تفتقت عنه قريحة بني البشر: في الحكايات وأجناسها، في الملحمة وأنماطها، وفي الأدب وعائلته من شعر، ونثر، وما في ذلك من قصيد ومسرحية ورواية وقصة ونقد...الخ .

إن كل ما عُرّف به أدباً، لا يعدو أن يكون التفافاً على المكان، وتمثيله، ومن هنا منبع العنف !

ولعل الرواية هي الوليد الأدبي الأكثر حداثة، والأكثر تكليفاً لتمثيل مختلف الأداءات التي تشغُل ما هو مكاني ممرّراً عبر الإنسان، وبالعكس. إنها في قدرتها على مزج فنون مختلفة، وعلى المزاوجة بين الشعري والنثري وبالعكس، وعلى هضم مختلف أساليب السرد، وما يخرج عن نطاق السرد، جرّاء العلامة الفارقة التي ينشغل بها الإنسان، وهي الموجّهة إلى المكان، ومن يقيمون فيه بشراً بأعراقهم وأقوامهم، بمللهم ونحلهم، بمذاهبهم، وطوائفهم وعقائدهم .

ومن جهة أخرى، فإن الرواية التي شهدتْ ولادتها منذ قرابة خمسة قرون، تفصح عن حقيقة تاريخية، وهي أنها تكاد تقطع الطريق على محاولة ظهور أي نوع أدبي آخر، يكون في مستوى حمولتها الفنية، أو يتقدمها، نظراً لقابليتها على صهر مختلف أنواع الفنون داخلها، وحتى ما هو فكري هنا، وفي ذلك ما يغري المتعامل معها، وما يحفّز القوى الكامنة في ذات أي مبدع، ليزيدها عمقَ بروز، وبذلك تكون مشروعيتها من مشروعية المكان الذي يشار إليه من خلالها، وهي من جهة أخرى، إذا كانت تكتب في مسار معين: من اليمين إلى اليسار، أو بالعكس، مثلاً، فإنها بأهليتها لأن تقرأ في مسارات لا تحصى، بالطول والعرض، فذلك يسهِم أكثر في إثراء رصيدها الجمالي والقيمي!

وليكون هذا التوجيه الموسوعي إلى مدى الحمولة الاجتماعية، السياسية، والثقافية للمكان، وما في ذلك من التعدد أو التنوع غير المحدود، لأشكال التعابير التي تسجَّل باسم الرواية !

وإذا كان لنا أن نسمّي المنتسب الأكثر عراقة وتمثيلاً لما هو بشري، وهو برصيده الفخاخي، وفي لائحة زلزلاته، في تداعيات آلامه وفظائعه كذلك، فلا بد أن يكون ذلك : حرباً !

حرب مصغرة، حرب كبيرة، حرب فئوية، حرب، جماعية، حرب محلية، أو إقليمية، أو قارية، أو كونية، أو أبعد فأبعد " حرب نجوم...إلخ، إنها في قاسمها المشترك حرب بالاسم .

إن كتبة التاريخ، المعنيون بالعلوم الاجتماعية، رجالات السياسة، المفكرون والفلاسفة، واضعو الدساتير وفقهاء القوانين الدولية، المعنيون بالقوانين...إلخ، يقدّرون وطأة هذا الاسم !

وفي السؤال عن الحرب يحضر المكان، وقد مُثّل فيه بالطول والعرْض. فالمكان ملحق بالحرب، بوصف هذه مجسّدة القوة أو عرّابة منعطفات التاريخ الكبرى، لأنها الحاضرة حتى وإن بدت غائبة، حتى في أكثر حالات السلم يكون لها شبح وطيف متداخلان. ألسنا في علاقاتنا مع بعضنا بعضاً ننشد سلاماً داخلياً بمقدار القوة الموزعة بيننا؟ أليست علاقاتنا كمجموعات أو جماعات بشرية، كأمم وشعوب، تتناظر حدودياً، وتقيم سلماً من منظور نِسَب القوة القائمة ؟

ألم يقل المأخوذ بنهره هيراقلطيس عن أن الحرب هي " أبو" كل الأشياء ؟ من موقع المكاشفة للتاريخ، من كونه الناظر في النهر وكيف أن المرء لا يستطيع السباحة في المكان عينه مرتين؟ أي ما يجعل النهر، كأقرب مجسّد للحركة العيانية، للتعبير عما يجري، ولا بد أن الحرب كانت مقتبسة، كدلالة من الحركة النهرية، وأن البشر " يستحمّون " في المياه الحربية، وتبقى أجسامهم رطبة، أو موصولة، بمكونها المائي، بما هو نهري ؟!

من الحرب إلى الحرب! هكذا يقول التاريخ ما قبل التدوين، أي ما يصلنا بالذاكرة الجماعية للبشرية، وهكذا نعيش حلم السلام، وسط كوابيس متلاحقة تخص الحرب .

وليس في تعبير : السياسة استمرار للحرب وبوسائل أخرى " وهو التعبير الأسلم في تكوينه " إلا ما يعزّز العمق الفعلي للمكان، وكيف يخضع في بنيته المعاشة لحراك الحرب وقوانينها!

في مفهوم الحرب يأخذ المكان كل ما يلوّنه، بمأثرة الحرب التي تعبّر البشرية عن كراهيتها لها علناً وفي خطاباتها المختلفة، سوى أنها لا تدخر جهداً في خرْق معهودها في أية لحظة.

وكل ذلك يصلنا بالقدرات الهائلة للحرب، ولائحة الشرور المنبثقة عنها، وما أفصح عنه توماس هوبز قبل قرابة قرون عن الخاصية الاعتبارية الكبرى للوياثان: الشر، ومركزية الحرب، وما تعرَّض له فرويد جهة التحليل النفسي، من أن الحرب عصاب يتلبس بني البشر، وأن الخاصية القطيعية، ومن خلال أمثلته التاريخية المختارة، تعبّر عن كيفية تدجين القوى الجماهيرية، وربْطها بكل من ساحة الحرب حيث الموت الجماعي بالمرصاد، والمسلخ الذي يمثّل الموضع الأكثر تمثيلاً لمن يمارسون سلطة القطيعية من موقع تأليهي، قدْسي، وإدامة نفوذهم.

أليس ميشيل فوكو، هو مَن اشتغل بهذا المفهوم المتجذر في التاريخ: الحرب، في كتابه:" يجب الدفاع عن المجتمع، الترجمة العربية، 2003،": وهو يشخص حقيقة الحرب، مستنداً إلى تاريخ طويل يجلو أمرها، بقوله عن أن ( الحرب ليست مؤامرة، بل " قابلة " أشرفت على مولِد الدول والقانون والسلم والتشريعات، فلقد ولد القانون من الدم ووحل المعارك...الحرب هي محرك المؤسسات والنظام، ويقوم السلم حتى في أصغر محطاته على الحرب، بتعبير آخر يجب تحليل الحرب في السلم، الحرب هي الوجه الآخر للسلم. ص 71 ).

القوة هي التي تدشّن القوانين، وتسمّي الذين كانوا سبب ظهورها بعلاماتها الفارقة، وللحرب نصيب وافر ومتحفز منها. وما نشهده تاريخياً وراهناً يشدد على هذه الحقيقة المرَّة.

والحرب، لحظة ذكرها، تستدعي كل ما يقلب البياض سواداً، وتبلبل اللغة عينها، وهي تكشف عن أهوالها، وعلى قدْر القوى المعطاة لها، بتعبير باحث أجنبي بصدد الحروب وأهوالها: ( الأشخاص الساذجون وحدهم من يصدقون أنه من الممكن شن حرب دون ارتكاب الفظائع.).

أنحتاج إلى من يبرهن على مصداقية هذا القول، وفينا وحولنا ما يعزز صواب ما تقدَّم ؟

ولا بد أن الرواية التي نجد تنويعاً في مفهومها، في نَسَب كبير لها، تتكلم واقعة حرب، بمقدار ما تستبطن ما هو حربي، وتتستر على لغة رمزية لا تنقطع عن الحرب وأوزارها .

الرواية سليلة الحرب بامتياز، قبل أن يُشرَك معها السلم بصورة ما، وكل قراءة لها، من منظور سلمي، تشكّل عزاء مقتضباً للذين يعيشون ذكريات الحرب، ومخاوف الحرب، والأمل بأن القادم سوف يكون حضوراً موسعاً للسلم، لكن ذلك لا يعدو أن يكون " كبوة " خيال مؤثرة ؟!

وحين نتحدث عن " رجعة الآتي " كما هو العنوان الرئيس لهذا البحث المتعدد المقامات، فإنما محاولة قياس ما يمكن التفكير فيه، والتحوط له، في ضوء التاريخ الصاعد إلينا بمآسيه، وهي في أصولها مستولدات الحرب هذه أو تلك، فلا شيء يغيّب عنا وجع ما كان، وبؤس القائم، وقلق الآتي، مثل التفكير المباشر، أو اللاشعوري بمقام الحرب، وفي منطقتنا بالذات.

الحرب هي النظر في القوى المهيأة للتخريب والنزاع والاشتباك مع الآخر الذي لا يظل شاغل التفكير، باعتباره المنوّه إليه خطراً، رغم وجود كم هائل من الكتابات الداعية إلى مراعاته، أي لا مقام للسلم إلا بجعْل الآخر محط اعتبار الذات الناطقة وعلامة توازنها، لتصفية النية !

وحين نشدد على كل ما ورد في سياق هذا التقديم، فمن باب اعتباري يستشرف جهاتنا الجغرافية التي يستغرقها تاريخ طويل من النزاعات والصراعات، وهي كشوفات متفاوتة للحرب .

وللناظر في العلاقات التي يتداولها البشر فيما بينهم، ومنذ مستهل القرن الحادي والعشرين،عموماً، وشبح الإرهاب الدائر والمنشَّط هنا وهناك، وفي منطقتنا، خصوصاً، أن يصل القول بالفعل، لا بل يصل الفعل المستشري بعنفه الدامي، وأوجه تهديده، بالقول الذي ضعف الصوت فيه، على وقع أسلحة الدمار والقتل الجماعي والفردي، وبتسميات شتى، ولعل الرواية ضامنة لمصداقية هذه العلامة الفارقة، لعنفها المتنامي والدامي هنا وهناك !

مع جان دوست ورواية: ممر آمن

جان دوست الشاعر، المترجم، والروائي الكردي، يمكن اعتباره روائي المكان أكثر من غيره من الكتاب الكرد، ممن يتعلمون من المكان ما يغيّر في المكان، ويقلبه خرائطياً من حال إلى أخرى، وكونه الكردي، المعنَّى بما هو جغرافي " أوليس المكان في تحديده بإحداثياته، خريطة تحمل بصمة المعلَّم سياسياً، واللغة التي تلقي بظلالها، وتوجهاتها الثقافية على معالمها ؟"

وحين نتحرى حقيقة الكتابة وصيرورتها لديه، نلاحظ طابعاً هوَسياً لديه جهة الاهتمام المكثَّف بالمكان. وقولة " الهوس " لا توجه النظر إلى حالة مرَضية، وإنما إلى تصعيد قوى الذات المعرفية إلى وضع مستجد، وهو يستقطب كل ما عداه إليه، والهوس تنامي الحس المكاني في الصميم، ومتابعة الجاري مكانيا وتقصي كل مختلف فيه. وهل هناك ما يشغل الكردي، وهو المبعثر مكانياً، والمشتت خارجاً على وقع التشظي المكاني، أكثر من هذا المكان الذي يعنيه أمره، وفيه ما يسمّيه، حيث المصعَّد به سياسياً، ينزع عنه ما يُسميه مكانياً، أي تجزئة المجزأ، ومن ناحية أخرى، جعل المجزأ نفسه فاعل تشهير فيه، لتجريده حتى من المتبقي فيه ؟

على الأقل ، وأنا أستعيد بعضاً مما قاله دافيد أزولاي، في مقاله " الخضوع المهووس لدى موريس بلانشو: بيان الشخصية وسردها في روايته توماس الغامض، حين يقول( بلانشو المهووس Blanchot obsessionnel الذي أصبح جسده الممحاة كتابة للمحو ؛ كتابة الغياب المادي ، "الموت" والاختفاء المتجسد ، الذي نجده ، بلا حدود ، أصل جسدنا وذاتيتنا.).

إنه إخراج القول من دائرة قائله الشخصي، وبثه في أكثر من جهة، لأن فيه ما يتجاوب مع المتفعل نفسياً لدى المسكونين بمثل هذه القوة المؤثرة في متحولات النفس وانشغالاتها.

أن يكون مكانياً ربما أكثر من غيره، فلأن هناك تركيزاً على هذا المكان، وتحفيزه لينظر في أمر ما كان، وما يكون عليه راهناً، وما يمكن أن يؤول إليه أمره ككردي !

إنه، من جهة التسمية، روائي حدودي بامتياز. وإذا كانت الحدود العلة الناخرة في الذاكرة الجماعية كردياً، جرّاء التقاسم الحدودي لكردستان، ولاسم الكرد، ليكون لدينا " الأكراد " وهو الاسم الخفيف وزناً، والضعيف حضورَ عدد وعدة وشرعنة حضور قومية بالمقابل، كما تفتحت بها القريحة الدولية السياسية: الانكليزية- الفرنسية، أساساً، فإن شد " عَنان " الحدود، والتدقيق في المتحصل، إنما هو نظير مقاومة حدودية بالمقابل، وكون الجاري، بلبلة الذاكرة الكردية أكثر، ومن ثم الدفع بها، لئلا تعود كما كانت، وأحسب أن دوست في رهانه على الرواية، كما سنرى، إنما إضاءة المكان الكردي، ووصْل ماضيه بحاضره، ليكون شاهداً على حقيقته والشعور بجدواها ورواج اسمها.

وفي هذا المنحى، ينبغي التنويه إلى مسألة رئيسة في حمّى الكتابة ذات السردية الرواية الحدودية والمتشعبة هذه ، وهي أن دوست، كما هي جدة رواياته، مأهول بأهوال الحدود الكردية، ومجترحاتها الأكثر حداثة، وقد زادت نسبة الملح من لدن القوى المقسّمة له ولجغرافيته، في جرحه المقابل لما هو جغرافي، وبدا له التاريخ فاعلاً مدغماً بالقوة الغازية له، ولكينونته بتنوع مكوناتها المدمرة والمهددة لذاكرته المكانية، ليجد في الرواية ذلك اللسان الأكثر تأهيلاً لأن ينقل إلى الورق، إلى الفضاء الجغرافي، إلى الذين لا علم لهم كما ينبغي خارج حدوده، أو حتى داخلها، وهم يتكلمون بلغات أخرى، ما يعني وضع الملح الحار في الجرح النازف، وإمعاناً في التشفي، كما المأثور عن عنف متعهد " الملح " التاريخي هذا، من غل لا ينفصل عن إرادة شبق سياسية غازية واستقوائية، حيث يكون هذا التناوب في كتابة الرواية بين الكردية: كتابة النص بالكردية، لتأكيد كرديته، ونشرها في الجهات التي يتواجد فيها بنو جلدته ، وما في ذلك من إيقاظ القوى ذات الصلة، والعربية عبر الترجمة من جهته نفسه، تعزيزاً لهذه الإرادة المضادة لما هو قائم ومهدّد لهويته، ولتاريخ مقاوم باسمه هنا وهناك، كما سنرى .

لا يخفي ما تقدم، ما يعرَف به دوست من ربط ما كان بما هو كائن، وما يُتخوَّف منه تالياً.

ذلك ما يمكن اقتفاء أثره في التركيبة الثقافية والأدبية التي يعرَف بها، من اهتمامه المركَّز على أحمد خاني ، في " مم وزين " عمدة روحه الشعرية والتنويرية لما هو قومي كردي، وملا محمود بايزيدي، وقد سطَّر ( رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم )، نثراً، وما في ذلك من إضاءة لبنية الذاكرة الكردية في بنيانها الاثنوغرافي، كما هو المستقصى في روايته " مخطوط بطرسبورغ- 2020 "،وهو بذلك يعزّز بصيرته إزاء ما كان أكثر، لما في ذلك من وفورة اعتبارية لمجريات أحداث التاريخ البعيد والقريب والذي يتابع عنفه الاحتوائي المهدّد له.

وربما لا أكون مبالغاً هنا في أنه بطريقته هذه، وتبعاً لما سطَّره روائياً، يعتمد مكاشفة اسطرلابية للأمس المتاخم لنا والذي يصلنا بقفزات تاريخية ساخنة ومؤلمة بما كان، حيث تكون سردية آلام الكرد الكبرى، ومعاينة رادارية لما يجري راهناً، حيث الأرض، والمرئي أرضياً، بمفهومه الجغرافي، هو الذي يتكفل بتقريب ما يمكن أن يكون ذهانياً وجعْله عيانياً.

هوذا ما يمكن تسميته بالوجه اليانوسي، والرؤية المركَّبة للماضي والحاضر.

أعني بذلك أن قراءة كتابات دوست حتى اللحظة، وهي في تنوعها، تستحضر هذه المواءمة بين قوتين نفسيتين، هما بُعدا الذات الشخصية الفكرية والأدبية لديه: الذاكرة التي تتولى إدارة شئون الماضي الصاعد إلينا بالتأكيد، والإدراك الذي ينشغل بما هو حاضر، ملء الحواس خاصة، ليضاف إلى تينتك القوتين: البُعدين، بُعد لا بد منه، يكمّل ثالوث القوى النشطة: التصور، إذ لا قراءة لنص روائي، كالذي نتفاعل معه، ونحاوره، دون مقاربة ماضيه، ومساءلة حاضره، واستاشراف آتيه، ليكون التوازن المفهومي لهذه المقومات الاستقصائية معلوماً !

دوست، ودون سؤاله عما ينتابه من مشاعر وانفعالات وطبيعة تصورات، وهو يقبل على كتابة رواياته هذه، والتي تهمنا أكثر هنا في خاصيتها الحدودية: دم على المئذنة، كوباني، وممر آمن، وهذه الأخيرة أساساً كموضوع للبحث المتعدد المؤثرات الرمزية، فالمسطور هو الذي يترجمه، وهذا المترجَم بلغة الفن، ينبسط على أكثر من مستوى دلالي، ومفوَّه بالقوة وكيف تُدار .تبعاً لاورليان بيلنجر، في مقال : هل الرواية الجغرافية من النوع المروّع Le roman géographique est-il un genre apocalyptique ? ،فإن ( الأرض تسكن، عندما ينزلق التاريخ بعيداً ). وها هو التاريخ بمحتواه العنفي، العملي الملاصق للأرض تماماً، والنافذ فيها بكل كائناتها ذات التجلي الجغرافي الكردي، يفرز خرابه .

ولعل الأكثر تفعيلَ أثر ٍ لهذه الصلة النافذة الأثر، ما ذهب إليه ادوار سعيد، في ربطه الرواية كابتداع أو حتى استحداث أدبي، فني، انطلاقاً من " الحبَل التاريخي " لمجتمع العلاقات القائمة على تجاوز حدود الآخرين واحتوائها وامتلاكها.

كما هو المقرَّر باسمه في كتابه " الثقافة والإمبريالية- الطبعة العربية، 1997 ". إن " أممـ: ـه "المقتبسة من هومي بابا، كاستعارة جغرافية وسياسية، والتي تكون سرديات كبرى، هي في صلب المنوَّه إليه أدبياً، حيث السرد ينتشي بنفاذ رائحة الدماء المسفوكة للتوسعات الاستعمارية، أو عبر ما يُسمى ضلالاً بـ" الفتوحات " أنى كان توجهها. وهو الذي يقول في ذلك( إن موضع الرهان والمجازفة إنما هو الأراضي والممتلكات، والجغرافيا، والقوة. كل شيء يتعلق بالتاريخ البشري متجذر ، طبعاً في الأرض، وهذا يعني أن علينا أن نفكر بالسكنى والمعاش، لكنه أيضاً يعني أن البشر قد وضعوا الخطط للتفكير بامتلاك مزيد من الأراضي وأن عليهم لذلك أن يفعلوا شيئاً ما بساكنيها الأصليين..ص 78 ) .

وفي الرواية التي شهدت هذه التحولات الكارثية، أعني " كتابة الفاجعة " بتعبير موريس بلانشو، خلال العقد المنصرم من " تاريخنا " نتلمس هذه التنمية المحروسة في العنف الذي وحامه الدموي جغرافياً وطرائده من أصليي المكان: الكرد.

ولعل الحديث عن رواية الحرب عموماً، والحرب التي نعيش فظاعاتها في هذا المحتسَب الزمني، يوجّب النظر في الحرب وكيف شهدت مثل هذه الولادة المشوهة واقعاً، والجديدة بهيئاتها المثيرة لخيال قارئها على الصعيد الفني .

وللسوريين في عمومهم، والكرد ضمناً مثل هذا الحضور بما هو روائي من هذا القبيل .

ألم يتعرض كتاب حسان عباس: الجسد في رواية الحرب السورية ، 2018، لروايات كثيرة جداً،150 رواية بين عامي 2011-2018 ، تمخضت عنها أهوال هذه الحرب بعنعناتها في المنطقة، ومن ذلك، كما يُسمي: "الذئاب لا تنسى"، للينا هويان الحسن، "المشاءة"، لسمر يزبك، "بانسيون مريم"، لنبيل الملحم، "الموت عمل شاق"، لخالد خليفة، "الخائفون"، لديمة ونوس، "السوريون الأعداء"، لفواز حداد، "الذين مسّهم السحر"، لروزا ياسين حسن، "نزوح مريم"، لمحمود حسن الجاسم، "موسم سقوط الفراشات"، لعتاب شبيب...؟

ألم يتناول عبده وازن ، بدوره هذا المستجد الفني، الجغرافي نشأة حضور، في مقاله: "مآسي" الحرب السورية أسفرت عن 50 رواية ... وشكّلت مفترقاً في تاريخ الأدب الحديث، والمنتشور في، 12 آذار 2019 ، كما في الأمثلة التالية: روايتا نبيل سليمان "جداريات الشام - نمنوما" و"ليل العالم"، ورواية فواز حداد "السوريون الأعداء". خالد خليفة أصدر روايتين هما "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" و "الموت عمل شاق"، خليل صويلح نشر روايتين هما "جنة البرابرة" و"اختبار الندم"، سوسن جميل حسن رواية "قميص الليل"، روزا ياسين حسن رواية "الذين مسهم السحر"، مهى حسن ثلاث روايات: "عمت صباحاً أيتها الحرب" و"طبول الحرب" و"حيّ الدهشة"، سمر يزبك رواية "المشاءة" وكتاب يوميات "تقاطع نيران"، نجاة عبد الصمد رواية "لا ماء يرويها"، شهلا العجيلي روايتين: "سماء قريبة من بيتنا" و"صيف مع العدو"، أيمن مارديني روايتين: "سيرة الانتهاك" و"غائب عن العشاء الأخير" وسواها... ومن روايات الجيل الشاب: ديمة ونوس أصدرت رواية "الخائفون"، فادي عزام رواية "بيت حُدد"، عتاب شبيب رواية "موسم سقوط الفراشات"، منهل السراج أصدرت روايتين: "عصي الدم" و"صراح"، عتاب أحمد شبيب رواية "حبق أسود"، سومر شحادة رواية "حقول الذرة" ومناف زيتون ثلاث روايات: "قليل من الموت"، "طائر الصدى"، "ظلال الآخرين" وسواهم ?

أليس الذي انشغل به الروائي والناقد نبيل سليمان في مقاله المكثّف: الزلزلة السورية في السيرة الروائية الكردية (بالعربية)، في ولاتي مه ، 23 -6/ 2021 ، تعبيراً عن هذا الحضور الفارض نفسه؟ حين نقرأ منذ البداية( باتت الرواية الكردية المكتوبة باللغة العربية ركناً مكيناً ومتميزاً في المشهد الروائي السوري، ومنه: العربي. وأحسب أن ذلك قد تحقق في عشرية (الربيع/ الثورة/ الانتفاضة/ الحراك/ الحرب الكونية..)، حيث تعددت الأسماء والزلزال واحد. ويُلحظ هنا أن كتّاب الرواية الكردية مثلهم مثل الكتاب السوريين الآخرين المهجّرين أو المهاجرين، أي إن الروايات قد كُتبت ونُشرت خارج سوريا. وقد صدق المثل هنا إذ قال: رب ضارة نافعة. فالكتابة والنشر في الخارج وفّر لمن يكتب/ تكتب فسحة من الحرية يفتقدها الداخل، وإن كان هذا الافتقاد لم يمنع قلة قليلة من الكتاب والكاتبات، لم يغادروا سوريا، لكن كتاباتهم صدرت في الخارج، وظل نادراً ما سُمِحَ له بالتوزيع في الداخل.

نيروز مالك ( خمس سنوات، 2020 )،هيثم حسين ( قد لا يبقى أحد، 2018 )،مها حسن (عمتِ صباحاً أيتها الحرب – 2017(، جان دوست ( كوباني، الفاجعة والربع، 2018 )إبراهيم يوسف ( شارع الحرية، 2017 )..)؟

أوليس الروائي والناقد الكردي هيثم حسين ماضياً بعدته النقدية وعتاده الروائي انطلاقاً من هذا الانفجار الروائي وتصاخب سردياته، على وقع طبول الحرب، سنوات، وقبل من خلال كتابه" الروائي يقرع طبول الحرب- 2014 ، حيث الوارد في التقديم يشهد على ذلك، مثل:( قيل الكثير في "أدب الحرب»"، وسيقال الكثير لاحقاً، ذلك أنّ عالم الحرب متجدّد بعدّته وعتاده، بقصصه العجيبة، بجنونه ووحشيّته.. (…؟

تصبح الرواية في ضوء هذا الانتثار الرهيب والمميت: العنف في أوج تعاليه وتماديه: قتلاً وخراباً، نموذجاً حياً وباعثاً على الاهتمام والنظر في أمر موقعها وشهادتها، حيث ينشغل الجسد فكراً ووجداناً،وجمهرة مشاعر وأحاسيس بصنعتها.

ففي وضع كالذي نعيشه، وثمن هذه المعايشة الفظيعة، يتطلب النظر في مختلف الجهات، ومساءلة بنية المستجد، على صعيد القوى التي أسهمت ولازالت تسهم في بث هذا الخراب الروحي والمادي، وللتذكر فضيلته بالتأكيد .

أوليس تزفيتان تودوروف، وهو يربط بين " الأمل والذاكرة " من عزّز أواصر القربى بين العنف الدائر ومخاوفه، وما يجب أن يعتمَد ناحية الأمل، سعياً إلى كيفية المجابهة، ورغبة في الاستقرار، وقد استهل مقولته هذه بسؤال وجيه( كيف تعيش بعد الرعب؟ لا ينبغي لأحد أن يمنع استعادة الذاكرة ، ولا سيما الجلادون. بعد ذلك ، سيحدث النسيان فقط في ظل ظروف معينة.)، ومن ثم ما يقوي فعل إضاءة الجاري ( لماذا نحتاج أن نتذكر؟ لأن الماضي يشكل أساس هويتنا الفردية أو الجماعية. ومع ذلك ، فإنه من دون الشعور بالهوية الذاتية ، وبدون التأكيد على أن هذا يعطي لوجودنا ، نشعر بالتهديد والشلل. ولذلك فإن مطلب الهوية هذا شرعي تمامًا: فأنا بحاجة إلى معرفة من أنا وإلى أي مجموعة أنتمي.) ؟!

هذا التعبير الصريح بمحتواه يوجه النظر إلى المصدر الذي وجِدت فيه الهوية، تلك التي يحملها أشخاص مختلفون في مذاهبهم، ومشاربهم، وما يترتب على الاختلاف من تفاوت قيمي، وحيث إن العلاقات تكون محكومة بالتفاوت الذي يتخذ من الهوية عنواناً كبيراً لنفسه، لوضع الأفراد في نطاق مجتمعي واحد، سوى أنه في واقع أمره، يجعل من الهوية عينها خلاف المعطى الاعتباري، طالما أن المجتمع لا يعيش كما هو مفهوم المجتمع المدني، تغدو الهوية سلبية وتهدد حاملها، ولهذا، كان هذا الانفجار التاريخ]ن الثقافي، السياسي والتربوي القاتل والمخرّب والمانع لكل ما هو إيجابي في منطقتنا، ولهذا كان السعي الحثيث للكاتب لأن يقول ما ليس محققاً في الواقع، وضمناً ما يصله بهويته ككردي، كحق مشروع من حقوقه التاريخية والطبيعي، كما أفصح عن ذلك في لقاء معه، والمنشور في موقع سلطان العويس، بتاريخ " 14-12/ 2021 ":

( بالنسبة لي فإن سؤال الهوية محوري جداً سواء في حياتي أو كتاباتي. فأنا ابن هوية مسحوقة مهمشة تكافح منذ قرون في سبيل الحرية. ولعل أغلب رواياتي تتمحور حول هذه القضية الجوهرية. فأنا مهتم جداً بمعرفة إشكالات الهوية الكردية التي أريد لها أن تبقى هوية دنيا في كل دولة يعيش فيها قسم من الشعب الكردي. صحيح أن السياسة تدخلت وطغى البعد السياسي على الكفاح الكردي الذي هو في الأصل إنساني، لكن يبقى أن الكرد يستحقون التمتع مع جيرانهم في التاريخ والجغرافيا بشمس الحرية. لقد كان يؤرقني سؤال الهوية منذ البداية فلجأت إلى التاريخ لعلي أحظى بأجوبة شافية. كتبت عدة روايات تتكئ على التاريخ الكردي البعيد والقريب لأحيط بإشكاليات الهوية الكردية المتنحية عن المشهد العام.)

أحسب أن إمعان النظر في المسافة القائمة بين العنف بمسرحه الأرضي، وما يشهده هذا المسرح الحي والمنفتح من تنوع جهاته الجغرافية، وكيف يتطاحن البشر، وترتج ذاكرة المكان، حيث لا يعود المكان ما كان جرّاء عنف المخاطر، أحسب أن ذلك يشكّل مسلكاً منطقياً، في ضوء ما جرى إبرازه بمستجده المكاني، وفعل المكتان بأهله، وفعل أهل المكان به بالمقابل .

دوست بصفته روائي الحدود الكردي الأكثر جلاء اعتبار، كما تقدَّم، يترجم هوسه المنوَّه إليه، وذائقته الجمالية لما هو مكاني عموماً، ناحية جغرافية المنطقة، وسوريا في الواجهة، إنما وما هو كردية في متن المعتبَر الجغرافي طبعاً .

وما هذا التكثيف، ما هذا الحفْر في جغرافية التاريخ أفقياً، وفي التاريخ الجغرافي عمقياً، إلا التعبير الصارخ عما يجري، رغم أنه يقيم على مبعدة آلاف الأميال عن مسقط رأسه " كوباني " وعن المنطقة عموماً، سوى أن هوس الانهمام بالجاري يطوي المسافات، كما له مأهول به !

ماالذي تخبرنا به رواية " ممر آمن "؟ وهل من " ممر آمن " في سياق الحرب العاصفة ؟

في فكرة " الممر " ما يستدعي التبصر في مغزى العنوان، وهو أرضي بكامله. حيث تقوم أو تتحدد مسافة معينة بين نقطتين: هناك المنطلق وهناك المنتهى، حيث يكون محط التوقف.

سوى أن الممر لا يكشَف عن محتواه، دون الإقبال على فتح صفحته التي تشكل سردية لها مشغلها السردي والذي يغطي واقعة جغرافية " عفرينية " إنما دون غض النظر عما جعل " عفرين " هذه في مرمى هذا الاجتياح التركي والمعتمدين تركياً ممن يُسمون بـ" الجيش الحر " وهو التعبير المثقل بمفارقة المحتوى، ومتا يمثله أرضياً، وكيف يجري توجيهه أرضياً !

تحديد الممر، هو في واقع أمره، ترسيم لحدود هذه الحرب المستحدثة، وإكمال المطلوب، على صعيد التحوير الجغرافي، ونهب المكان، وفي الوقت نفسه، تعرية ذاتية للساعين إلى ذلك، وما في ذلك من سخرية لا أبلغ ولا أوجع منها، جهة المنشود شعاراتياً، والمطبّق عملياتياً .

ولا بد أن دوست في " ممر آمن " أراد أن يقول ما ينبغي قوله، لإضاءة بنية المفارقة هذه ، أي ما يشد قارئه إلى تلك الدراما الجغرافية التي تعنيه بأوجاعها، وتبيان القدرة على تحملها هنا!

لقد انشغلت بما هو مكاني، بأكثر من معنى، ولمفهوم " الممر " موقع لافت في المكان، كما هو الممكن تمثيله ومن ثم تحميله بقوى رمزية كثيرة، في كتاب نص معين، حيث تجلوه ممراته ، وأنا إلى مقالي الأقرب إلى المعوَّل عليه بحثياً " الممرات في النص، مجلة كتابات معاصرة، بيروت، ع 54، 2004 "،وكيف يتنفس النص، أي نص، ويتغير أثراً عبر ممراته تلك ، وليكون الممر مولوداً " طبوغرافياً " ينتسب إلى فضاء جغرافي مميّز بتضاريسه طبعاً .

ولعل هذا الاعتبار المعطى له، وهو بطابعه الهندسي غير المستقر، كان وراء استدعائه،ومن ثم توظيفه في بنية الكتابة، عنواناً رئيساً أو فرعياً، أو مسار تحرك وتوجه هنا وهناك.

على الأقل، وأنا أشيرإلى ياسين رفاعية، وروايته التي تحمل الاسم نفسه دون شريك إضافي " لا من خلف أو من قدام "، أي " الممر " وهي ، وكما كتب على الغلاف: رواية الحرب اللبنانية، قبل عدة عقود من الزمن " أشير إلى طبعة المؤسسة العربية، بيروت، 1983 "، كما في المستهل ( ذلك اليوم، انهمر رصاص غزيز، فدب الذعر بين الناس، وأخذوا يتراكضون. كادت سيارة المرسيدس تنجو، لولا أن رصاصاً اخترق زجاجها الأمامي، فانحرفت شمالاً. " رنا " في المقعد الخلفي. لامست صدرها ، ثم يديها، وهي تكتم صرخاتها، رسمت صليباً على صدرها.ص 7).

يجمع الذعر، وفي زمن الحرب ، بالذات، بين مختلف البشر، دون تمييز بين أسمائهم.

ربما بالطريقة هذه، تأتي رواية أحمد المديني " ممر الصفصاف- 2014" وكذلك الرواية المعرَّفة بجانبها التوثيقي " الممر، قطعة من جحيم الحرب الأهلية الرواندية – قطر،2019 "، لممدوح الشيخ، وهكذا الحال، على مستوى التنويع في المهام السردية الموكلة، تكون رواية أحمد خالد توفيق " في ممر الفئران- 2016 "، ومصطفى مجدي، في " ممر زولان- 2020 "، وأحمد إبراهيم، في " خيال الممر- 2021 "...إلخ .

بذلك تكون فكرة " الممر " كما هو مفهوم " الممر "من جنس المتراءى والمحتسَب مكانياً، غير أن هذا المكان يظهر بإحداثياته، وأن الممر الذي يختلف طولاً وعرضاً، وطبيعة مسلك، يتداخل مع المكان، لأنه ينتمي إليه، سوى أن المكان يحتفظ به بقيمة استكشافية لعناصره !

ودوست، من خلال روايته هذه، متفاعل مع المكان، فهو محيط بمبتدأه وخبره، بأناسه وكائناته، بتاريخه وجغرافيته، لحظة السؤال عن موقعه من الإعراب السياسي سورياً وفي المنطقة عامة.

وعند مد النظر في البنية الجغرافية للرواية، نتلمس هذا الانسكان بالمدينة وحواضرها وكرديتها، وكيف عصِف بها من قبل تركيا وعناصر " الجيش الحر " وكيف نزفت المدينة أهلها، عبر ممر يعكس في أصل تشكله وهم المسمَّى من قبل الغزاة، حيث الأرض تشتعل موتاً وخراباً .

واهتمام دوست بعفرين، موصول باهتمامه بعامودا ، في " دم على المئذنة "، ومع مدينته التي أمضى فيها طفولته وصباه في" كوباني "لتكون عفرين حاضرة الوجع الكردي، في " ممر آمن " وما في هذا التجسيد الروائي من التزام الكاتب بجغرافيته، دون الإغلاق عليها، دون حصره في الرقعة الضيقة لمفهوم الهوية، ورهان على الإنساني، عندما نستدعي إلى الذاكرة رواياته الأخيرة " نواقيس روما، مارتين السعيد، عشيق المترجم، باصر أخضر يغادر حلب...!

إنه اهتمام، كما يلاحظ، مركز على جغرافيته المعلومة حدودياً، على سبيل المثال: ليس من رواية له تخص " سنجار: شنكَال "، كما الحال مع سليم بركات، في " سبايا سنجار" وليس أي جهة جغرافية أخرى، رغم أن السؤال عن السبب مشروع. إزاء ذلك، نجد في حال الكاتب إبراهيم يوسف، قدَّم نموذجاً مكانياً عن شنكال " شنكالنامه "، وعن قامشلو " شارع الحرية " ...السؤال المكاني هنا يتقصى الموقف وجانب الرغبة في ذلك!

دوست كروائي يفصح عن علاقته المكانية والوجدانية بالمكان، في توصيفه لروايته " عشيق المترجم " في حوار معه " موقع المدائن " حيث يقول:(موضوع هذه الرواية، وهي أولى رواياتي بالعربية بعد أربع روايات باللغة الكردية، هو التسامح وتقبل الآخر والانفتاح على الأديان والثقافات الأخرى. وقد شغلني موضوع الكراهية التي تؤججها الهويات المتباينة منذ زمن بعيد. فقد عشت واقع تهميش ثقافتي ولغتي وشاهدت فصولاً من الظلم الذي تعرضت له كشخص مختلف الإثنية في دولة ذات ثقافة مركزية مهيمنة وقومية مهيمنة ولغة مهيمنة. لذلك أردت أن أواجه الكراهية بثقافة التسامح. نحن بحاجة إلى أن يفهم أحدنا الآخر. ولا سبيل إلى ذلك إلى بفتح النوافذ والاطلاع على ما يجري في الجوار. وذلك بدل التقوقع في خندق الأنا والخوف من الآخر.).

دوست على علم بالقنبلة الموقوتة التي تمثّلها الهوية الشخصية، في مجتمع مشهود له بتصارع الهويات، أو ما تشكله الهوية عينها من خطر على حاملها، في مجتمع متنافر من خلالها، كما هو المعايش في المنطقة، ولهذا ينوّع في رواياته، تعزيزاً لهوية من نوع آخر، حيث يشير إلى أدواء الهويات في مجتمع انفجاري، في حوار معه " صحيفة البيان، 11-10/ 2016"، بقوله (أن هذه الهويات تصبح في ساعات الأزمات الكبرى وبالاً على الإنسان ففي الحروب الدينية يُقتل الآخر المختلف، بغض النظر عن مستوى ارتباطه بالهوية التي جعلته عدواً، وفي الحروب العرقية يقتل الآخر المختلف بغض النظر عن مدى التزامه بأيديولوجية حكام بلاده من بني قومه. وهنا تكمن خطورة الهويات التي سماها أمين معلوف بحق بالهويات القاتلة.

ورأينا خلال تاريخ طويل من الحروب والدماء في منطقتنا وباقي المناطق في العالم، أن هوية المرء تصبح نوعاً من التهمة التي يستحق الموت بسبب حمله لها. وهذا ارتداد في الوعي الإنساني واقتراب من منطق الثأر القبلي الذي يقع بموجبه قتل فرد من عشيرة أخرى لمجرد أنه ينتمي إلى تلك العشيرة.).

بناء عليه، كان انشغاله بما كان، وما هو جار ٍ حباً بالآتي المشترك، وهو الحريص على ما نبَّه إليه الباحث الفرنسي بيير نورا باسم واجب الذاكرة Le « devoir de mémoire، الذي يقود الباحث عن تاريخه إلى صميم الجغرافية التي يسمع فيها أصداء من عاشوا قبله من الآباء والأجداد، والإضافة إليهم، وهو إجراء يزداد عمقاً، وقوةَ تأكيد، بمقدار ما يتعرض له أيّ منا لضغط جانبي بسبب هويته المختلفة، أي كابوس الهوية، أي بمقدار ما تكون هناك صدمات تاريخية des traumas historiques لا بد أنها بدورها حصيلة انتشار أو قيمومة الهويات المتناحرة انتمائياً .

ومن المؤكد أن فعل التركيز على الهوية لا يوجه الأنظار إلى الذين يتكلمون لغة أخرى، ومن اثنيات أخرى، حيث إن الكردية عينها مشخصة ومشرَّحة ميكروسكوبياً، وتبيّن نقائصها ومدى أذاها للجسد المجتمعي: الكردي الواحد، جرّاء المغايرة الحزبية، وسطوة الإيديولوجية وعنفها المحروس والمجدَّد، حيث إننا نجد تفعيلاً لأثر هذه العلاقة، من خلال روايته " دم على المئذنة- 2014 " العنوان الذي يعرَف بطابعه الرمزي أو الفانتازي ومولود واقعة كارثية بعد انفجار الأوضاع في سوريا بعدة سنوات، ويصعب تفهَّم محتواه إلا بعد قراءة الرواية والإحاطة علماً بحقيقة نشأتها أو ما لأجله صيرت رواية، حيث نتلمس إضاءة لمجتمع هذه الرواية في حوار معه، بتاريخ " 18-12/ 2014 "، ومنشور في موقع " مدارات كرد "، فمن خلال سؤال ( فلنتعمق في أعمالك الأدبية، أنت كثيراً ما تتحدث عن وسائل العنف والاضطهاد والظلم، أنا شخصيا عندما أقرأك أشعر بنوع من التحسر، لم تتبع هذا الأسلوب في الكتابة ؟) يأتي جواب دوست:

: الإنسان محور الوجود عندما يقع عليه الظلم أتألم فأقول أن الإنسان لا يستحق هذا الظلم. أنا ضد قتل الإنسان بسبب عقائده وقوميته وآرائه في أي موضوع كان. فمن هنا أشير إلى روايتي (دم على المئذنة) التي نددت فيها بدم ستة من الشباب في عامودا خلال مظاهرة وقلت لا يجوز قتل الإنسان تحت أي مبرر وأية ذريعة. الإنسان قيمة عليا فكيف يلجأ بعض الناس وبعض السياسات والحكومات إلى قتل الإنسان لأنه يخالفه، فعموما في الرواية المذكورة أردت أن أشير إلى هذه النقطة. أما في رواية (عشيق المترجم) دعوت إلى التسامح بين الأديان والقوميات، دعوت إلى أن يسود الحب حياة الإنسان.)

وما يقرّب الصورة من الأذهان لحظة السؤال عن العنوان نفسه:


أقف عند عنوان رواية (دم على المئذنة)، لما قرأت ذلك العنوان شعرت بأنك تريد مجابهة الاقتتال والعنف لأن العنوان يوحي بذلك ؟

فيأتي جواب دوست هكذا:

: المئذنة رمز للطهارة، وهي مكان ليست سوى للأذان وإبلاغ الناس بموعد الصلاة، ولكن عندما تتحول إلى مكان لقنص الناس وقتلهم تختل الأمور! المئذنة التي كانت تدعو للصلاة، تدعو الآن إلى القتل، وأذانها هو إطلاق رصاص، وهذا ما حدث في سورية وعدة بلدان، إذ اعتل فيها قناصون المآذن وقتلوا الناس والمارة والمدنيين.)

حيث إن المنوّه إلى الرواية يأتي هكذا فيما بعد:

( صدرت الرواية عن دار مقام 2014، وتدور حول مجزرة عامودا التي وقعت في يونيو 2013 وقتل فيها ستة مواطنين, أغلبهم من صغار السن, علي أيدي الميليشيات الكردية الموالية لنظام دمشق. القتلى هم (آراس بنكو، برزاني قرنو، سعد سيدا، شيخموس حسن، على رندى ونادر خلو(..).

وما يشكل مشهداً دالاً على هذه الفانتزيا الكردية نشأة وإدارة :

( استفاق أهل عامودا، البلدة الكردية السورية الصغيرة المرمية بقياس هندسي دقيق جنوب حرائق التاريخ بفرسخين والمتكئة بحزن على وسادة محشوة بقهقهة الجغرافيا، صباح آخر جمعة من يونيو حزيران 2013 على مشهد مرعب لم يروا مثله من قبل كانت مئذنة المسجد الكبير تقطر دماً من كوى متطاولة صغيرة بدت كجراح نبتت للتو في تلك القامة الرشيقة التي كان صوت الأذان المنسرب منها فيما مضى يسكب الطمأنينة في قلوب المؤمنين كما في قلوب صعاليك البلدة ومرابيها ومجاذيبها وشعرائها الكسالى والنزقين وحتى حمامها الذي كان غائباً تماما عن المشهد الدامي صباح ذلك اليوم الحزيراني.).

إنه التعبير الأدبي الروائي بامتياز، وما فيه من إماطة اللثام عن الجسد الكردي الممزق والمخرَّق في روحه طبعاً.

ليضيء قول كهذا الصفحة المقابلة لصفحته الأدبية، وتلك: الصفحة الثقافية التي تعطينا صورة ما نيشغل به، جهة الاهتمامات القرائية والتواصل مع الآخرين، ولرواياته الذكر الحسن طبعاً .

كيف يمكن تناول " ممر آمن " في إثر ما جرت تسميته، والدفع به إلى واجهة القراءة ؟

أجدني في الحالة هذه، إزاء نقطة إدراج إلى عملية المباشرة في القراءة والحوار مع الشاغل النصي للرواية من أحداث، ومن شخصيات، ومن قوى متنافرة منحت الرواية طيب المقام!

وهي نقطة مقلقة، لا يستهان بحجمها، والثمن الذي ينبغي دفعه رمزياً بغية تمثيلها، لأن هناك من سبقني في تناولها من زاوية تحيل إليها مختلف الزوايا المكوّنة لمعمار الرواية، بدءاً من العنوان، وما يشكله الغلاف من قيمة دلالية تضيء ممر القراءة للنص، ومروراً بعوالم الرواية، وليس انتهاء بخاصيات الأسماء والرموز التي تعرَف بها الرواية هذه .

أعني بذلك ما سطَّره الصديق الباحث الدكتور خالد حسين، في مقاله المكثف " رواية ممر: سيمياء الكون السردي "، لخالد حسين، موقع مدارات كرد، 20-4/ 2021 ".

إن إيراد بعض منه، يؤكد ذلك.خالد حسين، كما هو دأبه، يهتم بالمقدَّم كتاباً خاصة، بالعنوان وما يحيط به عتباتياً، بداية، وهو بذلك يظهر مدى شغفه المعرفي بما بات سجلاً أشبه بما هو قضائي لأصل النص المفترض، ومقود التوجه إلى دخليته بالمقابل، وفي الوقت نفسه، فإن قراءة مستجدة كهذه، تمثل ما يكون عليها القارىء السعيد، وهو ينغمر بـ " نِعَم " المكاشفات هذه !

لا ينسى حسين أن ينوّه إلى المعترك للسياسي للرواية هذه.وتلك حقيقة واقعة، لأن الرواية مغلولة حتى عنقها فيما هو مأساوي وكارثي، ولا بد أن يبرز السياسي، أقرب إلى الحالة الإسعافية، على الأقل لتهوية الداخل، وتعرية الخارج، تعبيراً عن اعتباره حارس المدمَّى واقعاً ، وأن وجود متنفس سياسي إنما يشبه تمزيقاً للقناع المسود والذي يسربل على الواقع ويغيّب حقيقته.

( ..لا يُمكنُ بحالٍ تجنُّبُ “السَّياسيِّ” في هَذِهِ الرّوايةِ التي تَجَاوَزَتْ وَفْقَ منظورِ هَذَهِ “التَأويليّة المرتقبةِ” السّياسيَّ تَرْويضاً لِحِسَابِها الجَمَاليِّ أو سَعَتْ إلى رَكمِ رأسمالها الفني انطلاقاً من السياسيِّ عَلَى الرُّغم مِن الصُّعوباتِ الجمّةِ التي يُمْكِنُ أنْ يتخيّلَهَا المرءُ وهي تَزْدَحِمُ على المُؤَلّفِ حَدَثاً وَكِتَابةً ومَوْضُوْعَاً أثناء إنجاز هَذِهِ الرّواية.).

دوست صريح هنا بما يقوله إزاء كتاباته الأدبية،والروائية منها. ففي حوار معه في " 18 -11/ 2021) وهو يرد على سؤال: نتوقف معك للحديث عن آخر أعمالك الروائية التي انتهيت من كتابتها حديثًا، "سيرة الغبار" ماذا تخبرنا عنها؟ ومن أين استلهمت فكرتها؟:

( "سيرة الغبار"هي سيرة الثورات التي تأكل أبناءها. الثورات التي تتحول إلى طاحونة تسحق مشعليها والمنخرطين فيها دون نتيجة. “سيرة الغبار” هي رواية المأساة الكردية في تركيا، حيث حزب العمال الكردستاني الذي احتكر الساحة النضالية وارتكب أخطاء فظيعة ساهمت في تأخر نيل الأكراد لحقوقهم. إنها رواية العبث الثوري، والضحايا الذين تستهويهم الشعارات الخلبية، ثم لا يجدون أنفسهم إلا خارج المسار الطبيعي للتاريخ.)

وعن تأثير موقفه:

( أنا لا أخفي آرائي السياسية إرضاء للجمهور. أعرف أن الجمهور العريض، الحشود بعبارة فلسفية، تؤثر على النخبة وربما تساهم في تدجينها، لكنني أحاول قدر الإمكان أن أبقى بعيدًا عن تأثيرات الجمهور. نعم أنا أحترم الجمهور وميوله السياسية والدينية وتمسكه بتقاليد مجتمعية معينة، لكنني لست مضطرًا إلى أن أتلون بألوانه. الكاتب ليس حرباء، بل عندليب يستيقظ فجرًا ليوقظ بقية الطيور بشدوه الذي ربما لا يعجب الغربان.

أكتب روايات عن التاريخ الكردي، تاريخ ثوراته المستمرة وكبواته المتعددة، تاريخ انتكاساته وانتصاراته، أقوم بتفكيك هذا التاريخ الذي قسا على الكرد، فأزاحهم عن مسرحه بعد أن كانوا يومًا ما من أهم اللاعبين الفاعلين في الساحتين العسكرية والسياسية في الشرق الإسلامي. ).

إنه تصريح وليس تلميحاً إلى ما ينشغل به، وهو في جهة جغرافية تحفّز فيه إرادة التعبير عما يريد قوله وكتابته، بحرية لها اعتبارها " كونه حامل الجنسية الألمانية، ويتنشط هنا وهناك، وهو نفسه من شدد على " نعمة " نفسية كهذه .

ذلك ما يجعل المأثور الكتابي أشد وقْعاً على النفس، عبر تحفيز الخيال ليكون أكثر وهْباً للمراد تسطيره .

نجد كيف يتداخل الكشف السيري، بصورة ما، مع المكاشفة التاريخية لواقع حال الروائي، إلى جانب الاكتشاف الفني، وكيف أن مكونات المادة مجتمعة تتفاعل كيماوياً، ليكون هناك مغذ واحد لذائقة القارىء، وعليه تفكيك عناصره .

هكذا يكون السرد محفزاً لحسين لأن يقول فيه ما أفصح عنه سالفاً، وفق مقتضى المعاينة القرائية للسرد :

( في سِيَاق السَّرْدِ، وعلاوةً على أسرة كامو، سَتَتْرَى قُوى فَاعلةٌ تاليةٌ: علي [عازف البزق ــ خال كامو]، مَزْيَتْ الأرملة، فريال الإيزيدية، الخال نعسو، أشجار الزيتون، الجرّار …إلخ. قوىً يقودُهَا بَرْنَامجٌ سَرْديٌّ واحدٌ هو النَّجاةُ، والوصولُ إلى أيٍّ مكانٍ يأويها من أَحْقَادِ الغُزَاةِ الذين تَدَفّقُوا كالجَراد على “عفرين” اغتصاباً ونَهْبَاً وَقْتَلاً.) .

وقبل المضيّ إلى التالي، لا يُنسى أن حسين نفسه مسكون بهاجس السياسي، ليس لأنه يوازي دوست في الانتماء الكردي فحسب، وإنما لأنه بنسيجه اللحمي والمنفتح على الخارج، يتلقى ضغط السياسي كذلك، ومن الموقع الذي يعتقده أكثر إفادة له في تلقي المقروء وطبقات القول فيه، وإنما باعتبار الناطق هنا متعدد الألسن تقديراً للرواية المتعدد الأصوات كذلك.

وفي الآتي ما يضع حسين في صورة المعرَّف به، واستنطاق الصامت في النص ومنحه الصوت المقدر، بدءاً من اسم الروائي نفسه، باعتبار امتداداً عتباتياً من جهة، ولأن الاسم هذا لا ينفصل عن خيار سياسي لاحق على ولادته، وبالتالي، ما يرتقي بالاسمن ليكون إمضاءة شخصية واللغة الأم التي يتكلم بها:

) اسمَ المؤلفِ”جان دوست ذاته هنا يمركزُ خصوصيةَ الحَدَثِ الرِّوائيِّ، هذه الخصوصية التي تَتَبَدّى في العِنوان الداخليِّ للرّوايةِ: [جان دوست ممرّ آمن في عفرين!] فالقارىءُ إزاءَ سرديةٍ تخصُّ مأساةَ “مدينة كردية” وبإنتاج كاتبٍ كرديّ، وهذا ما يَسْمَحُ لنا أنْ نَسْتأنسَ مع الدّلالات التي ينطوي عليها اسمُ المؤلِّف نَفْسُهُ مع “مأساة هذه المدينة”ٍ هذا الترابط منبثقٌ بفعل الصّدفةِ بعيداً عن أَيّةِ قصديةٍ.).

وانطلاقاً من مَرحلة القراءة" أعني جعْلها في مراحل " حيث تكون تقسيماتها مجارية من جهة لمكونات السرد، ومن جهة أخرى، لما يغيّر في حركية السرد، وتلوينه، زماناً ومكاناً، ولسان سارد، وتأكيده على كاميران" كامو " السارد المحوري في الرواية، وما في ذلك، للوهلة الأولى، من إخلاص للعرف الروائي التليد تقليدياً، وما يمنح هذا الرهان على السرد، بتوسيع مفهومه، من خلال الدفع بالشخصية إلى أن تكون جامعة بين الصورة الطبيعية للمتكلم، كاميران باعتباره كائناً سليماً، قبل اجتياح عفرين، وبعده، وقد دخل في سلسلة من الانعطافات " المسخية " حتى انتهى هكذا، وهو انحدار بالشخص قرين الانحدار في الواقع وإماتة تلك المقومات التي تبقيه جديراً بحمل صفته :

( فالسَّردُ في “ممرّ آمن” هو سردُ “كَامُو” بامتياز. كامو [المصاب بسلس البول جرّاء الحرب وكوابيسها] هو صانعُ السَّرد، ففي هذا النَّسيج السَّردي تتكشّف عوالم الرّاوي مع الذات وقوى سردية كثيرة بموضوعاتها فإلى ذلك:

أنا كامِيران. ويمكن، بل يجبُ أن تلفظي الاسم هكذا: كامْران لأنه الأصحّ. ومعنى اسمي هو: السعيدُ، الموفّقُ. أمّي مدرّسة اللغة الانجليزية سابقاً، ليلى آغازاده. وأبي الطبيب الجرّاح الدكتور فرهاد الذي خطفته داعش منذ سنوات، حين كنا في منبج. ص13“." (

وما نشهده من تداخل علاقات، في عملية التحول الكارثي، حيث تكون الطبشورة منعمة بارتقائها إلى مستوى الرمز الملادي والدال الاجتماعي على ما هو سياسي مشوّه لما هو إنساني، في تعدد الدلالات:

( "الطبشورة” ترميزٌ للعضو الذكري

وأيضاً هي آلة، وسيلة الكتابة في أن تكونَ؛ كأنما ثمة خوفٌ على السَّرد من أنْ يتبخّرَ دون كتابةٍ، كأنَّ “الكتابة” أصلٌ في السَّرد في أن يكونَ، بل إن كامو في المشهد الأخير [ليلة التحولات الأخيرة. ص167] يتحوّل بقضه وقضيضه، تحت وطأة الكابوس المرعب، إلى “طبشورة هائلة”، أي آلة لإنتاج السّرد لفضح الحرب والكشف عن أهوالها! وفي واقع الحال فإنطواء “الطبشورة” على رَمْزَي الذكورة والكتابة وتجلياتهما يتساوق من بداية السَّرد إلى نهايته. ) .

وما يبقي هذا المشهد المرمَّز إلى مرحلة متقدمة في الرواية، من ناحية ، لأن المهمة المرسومة لهذا الرمز المركَّبي " علاقة مزيت الأرملة مع كامو" وعلاقة كل منهما بذاته وبالخارج، ولزوم استمرار الحياة، من ناحية أخرى ، حيث إن دوست، كما يظهر، درس مواقع الرموز وتداعياتها، بحرَفية ملموسة ( وظّف “مزيت” استعارة الحرب لتوصيف علاقة الحبّ بينها وبين كامو وفيما تنتهي الحربُ إلى الدّمار والخراب ينتج الحبُّ الحياةَ والمسرّة والمتعة، الموت في مواجهة الحياة. بيد أنّه لابدّ أن تنتصر الحياة: “يجب أن تزرع في رحمي بذرتك هذا اليوم. أريد أن أحمل منك. ص73″.  إنها تنتقم من الحرب بالحبّ فلا سبيلَ للانتصار على مستنقعاتِ الكره والحقد والضغينة التي أسّستها هذه الحرب سوى بالحبّ..).

وما يسهم في تنوير قارئه جهة بنيان الكتابة وربطها بالجاري عملياً :

( إنّ بقاء “أدوات الكتابة على حالها” بعد “الثورة” يومىء بكلّ بَسَاطةٍ إلى أمر أكثر بعداً وهو أن “التعليم” بقي على حاله، ولم يختلف عما كان قبل “الثورة”، وهذا يعني أنَّ “إسقاط الطباشير هو المناداة بإسقاط الذِّهنية التي استمرت في عهد “الثورة”، أي أنَّ الذهنية السَّابقة نسختْ ذاتها في إطار “التشاكل القاتل الذي ابتلع “الثورة”، فغدتْ نِسْخَةً سيئةً عن النِّظام ذاته، فالثورة التي ليسَ بِمَقْدُورِهَا أن تستبدلَ بـالطباشير الحكومية الرديئة “طباشير” أكثر جودةً تستحقُّ الإسقاط بذاتها. إن “التشاكل القاتل” الذي وسم “الثورة” وممارساتها اتسم بالعَمَاءِ ذاته الذي يغوص فيه “النظام ببممارساته. يذكر كامو في ثَرْثَرْتِهِ لطبشورتهِ قولةً مكررةً حتى حفظها كالفاتحة لأبيه “فرهاد” قبل اختطاف داعش له دون أن يفهم مقصودها بدقة: كلُّ الثورات تتشابه يا ولدي كاميران. تماماً كما تتشابه البعرة والبعرة أو الشّعرة والشّعرة. ص 16 " 

ومن ثم، ما يجعل المكان المنهوب بازاراً سياسياً مفضوحاً بين القوى التي أسهمت في تفتيته:

( ستُباع المدينةُ الجبليةُ “عفرين” بل المنطقة المعروفة باسمها لتركيا مقايضةً بـ”الغُوْطةِ”، فسوريا لم تكن أكثر من بازار كما يقول الخال “نعسو” إحدى شَخصياتِ الرِّواية وستفتح الدولة الغازية “ممرات آمنة” التي تَعْني كلّ شيءٍ سوى أنها ليست آمنة فعلاً حتى تُفْرِغَ المنطقةَ من سَكَنَتِهَا الأصليين تمهيداً لتغيير ديمغرافي مرتقبٍ وهو ما سيقعُ فعلاً برغبةٍ ومشاركةٍ جارفة من “بعض” شركاء “الوطن” أنفسهم، فـ”الممر الآمن” حيلةُ الغازي في التمكُّن من “الأرض” لطرد السُّكان ولاسيما ثمّة مشكلة وجودية للغزاة مع الكينونة الكردية! ).

( وجرّاء الحرب التي تلغم الاستقرار، وتنزع عن الناس هدوءهم ورباطة جأشهم ومنطق قولهم السابق :

تكتظُّ الرّوايةُ بأصْنافِ من الشَّتائمِ والسُّخريةِ وهي تؤدّي وَظَائفَهَا على نَحو دَالٍّ في السَّرد الرّوائي وفي مواقف تعمّقُ الحدثَ الرّوائيَّ في سياق عبثيةِ الحَرْبِ بمصائر البَشَرِ من قتلٍ وتهجير وتدمير واغتصاب، وكأنَّ “الشتمية” تأتي هنا تعويضاً عن قلةِ الحيلةِ أو الضعف في مواجهة “القاهر”، وهي لكذلك فعلاً! فلاريب بأنَّ “شتائم” كامو وخاله عليٍّ تأخذ أبعادها السّيميائية من سياق الحرب المجنونة: اختطاف الأب في منبج، قتل الأخت في حلب، الانتقال إلى عفرين ثم الفرار منها للوقوع في قبضة المجهول ).

وما يضيء الواقع المتداعي كردياً، من خلال العلاقة بين كامو والطبشور الذي تلاشى فيه كمفهوم :

( إذا ما اتخذنا سياقَ النَّصِّ بوصلةً للتأويل فـ”كامو” في تحوّله الطباشيري ليس إلا كنايةً [أو مجازاً] عن أو إشارة إلى “الواقع الكردي” العاجز والمقهور بسبب السياسات الخاطئة التي تتخذها “القوى السياسية”، وما فاجعة “عفرين” إلا محنة من تلك/ هذه المحن الكثيرة التي تحاصر الكينونة الكردية.).

ربما بالطريقة هذه، يكون حسين قد مارس وصْلاً بين التاريخي والجغرافي، الاجتماعي والسياسي، الثقافي والأدبي، ومن ثم المحمول واقعاً، والموصول فناً، لنكون في المحصّلة إزاء مكون إبداعي يتمثل في " ممر آمن " !

أي ما يجعل الرواية أكثر من كونها رواية تقليدية، بدءاً من العنوان الذي يوحي بالطمأنة، وذلك لمن لا يعرف ما يدور على الأرض، وانتهاء إلى نهاية الرواية التي تبقى قابلة للمد فيها، حيث ينتهي أمر كامو، وليبقى القارىء المعني بها، هو المخاطب، أو ما يدفع بالنظر،ـ وفي زاوية كاملة لأن يتحرى الممكن حدوثه كارثياً في ضوء الحادث عفرينياً بالتأكيد !

وإذا كان لنا أن نعترف بقدرات الروائي الثرية في التعبير عما يجري، ورفع نصاب المتخيل في تمثيل الجاري هنا وهناك، فإن هناك متسعاً من المتشكل النسيج النصي للرواية، ومخض غمار المتماوج فيه دلالياً .


نعم، بدءاً من العنوان:

لم يدخر الناقد خالد حسين جهداً في استنطاق صمت العنوان وما يليه في " ممر آمن " تاركاً له بصْمة قرائية في مكاشفة الرواية، غير أن في مقدور القراءة أن تبين في الرواية وبدءاً من العنوان مجدداً ثراءها الدلالي.

الحديث عن العنوان يتناول بنيته. إذ من الملاحظ أن دوست يعتمد جهة العنونة الروائية الأسلوب التقليدي إجمالاً، وحتى المبسَّط، والذي لا يحتاج إلى كثير جهد للوقوف على دلالة هذا العنوان أو ذاك، أو مجالسة العنوان من خلال محتوى الرواية بالذات، كما في : ميرنامه، كوباني، مارتين السعيد، عشيق المترجم، باص أخضر يغادر حلب، مخطوط بطرسبورغ، و: ممر آمن...إلخ، حيث إن " دم على المئذنة " يحمل طابعاً هيتشكوكياً، وأن ما يضيء عنوان " كوباني " هو" الفاجعة والربع " وما عدا ذلك ليس من مدعاة قلق وحيرة إزاء مغزى هذا العنوان أو ذاك، ولا بد أن دوست كان مدركاً لطريقة اختياره لعناوينه في المكان والزمان، ولموقفه من النص الروائي نفسه، ورهانه على الداخل كثيراً، حيث إن الإقبال على قراءة النص يمنح العنون حراكاً دلالياً ليس كما كان لحظة القراءة المباشرة له دون محتواه .

ولعل وشائج القربى بين كل من " ممر آمن " و" باص أخضر يغادر حلب – 2019 " أي بعد تلك بسنة في النشر، تتضح حتى على صعيد المناخ الكابوسي والمرعب، وحتى تداخل العلاقات، والتشابه في الشخصيات وأدوارها، لأن ثمة أيد ٍ مشتركة، أو متشابهة في بثّ العنف المميت، وإزهاق الأرواح، وتخريب الأمكنة.، إذ أن جانب السخرية في " ممر آمن " يناظر جانب السخرية في دلالة اللون " باص أخضر " حيث الأخضر لا يبعث على التفاؤل، أو يشدنا إلى علامته الفارقة في نماء الحياة والخصوبة، وإنما ما هو موجَّه ومسمّي لنقيضه جهة النظام بأخضره العسكري . ربما أراد دوست التأكيد على التداخل الجغرافي بين عفرين، وحلب، فتلك تتبع هذه إدارياً، وثمة حضور كردي محتسب في هذه المدينة التليدة: حلب !

ذلك ما نتوقف عنده لاحقاً .

هذا العنوان ما يتم ربطه بمستهل الرواية، وهو عبارة عن مقتبس من أغنية فولكلورية، حتى تتنامى مساحة القلق، أي ما ينزع الأمن عن محتواه، لأن ثمة كلاماً عن الموت، وما يشير إلى مبعث الخوف خارجاً:

سأموت في هذه الأيام

فبالله عليكم أيها الأصحاب

احفروا قبري أسفل الهضبة

وازرعوا في أحد جانبيه ورداً

وفي الآخر ريحاناً

واحرسوا قبري فإن لي أعداء كثيرين

وأخشى ما أخشاه أن يأتوا ليقطفوا الورد والريحان النامي على قبري".

الأغنية لا تسمي قائلها الفعلي، وبذلك يمكن لأي كان أن يتمثلها في نفسه وفي المحيطين به، ومن هنا كان العمق الدلالي للمغنى متخماً بالدراما الاجتماعية الصادمة للروح .

ذلك ينتقل بنا إلى فسحات العناوين الفرعية التي تعرَف روايات دوست بها كثيراً، إنها مداخل فرعية للبناء الروائي، بمقدار ما تشكل كلاً واحداً في المحصّلة.

مع سرديات العناوين الفرعية:

هناك الطبشورة الجالبة للنحس!

هذا العنوان " طبشورة صفراء " بدا في صوغه نكرة، أكثر من معرفة دالة في زحام المعاش والموبوء جرّاء الهزات الجغرافية سياسياً، الطبشورة هذه تشغل الفضاء الروائي حتى النهاية!

ماالذي منحها هذا الحضور المحسوس من جهة، وهذا العنف الممنوح لها، لتستمر هكذا، من جهة أخرى ؟

هناك ما يسوّغ فعل الاستدعاء ومنْحها هذا الحضور، لأن فيها ما يعرّي واجهة سياسية قائمة.

لنشهد منذ اللحظة الأولى هذا التنوغم بين المدرَك بمادته، والمركَّب بعائده الرمزي:

( ليلةَ تراءى فيها للفتى المراهق كاميران أنه يتحول إلى طبشورة، كانت الدنيا تمطر وصوت القطرات المتتالية على سطح الخيمة يشبه تماماً صوت إطلاق الرصاص في عفرين قبل احتلالها بيومين. كان هادئاً جداً وهو يتمدد في فراشه مستعداً للنو. ، وعندما بدأ ينزلق في عسل النوم، انطلقت عملية التحول الغريب أيضًا . في البداية تصلبت قدماه ، شعر بأنه يفقد أصابع قدميه كأنها قطع صغيرة من الطباشير تسقط في الفراش ثم انتقل التصلب إلى الساقين بعد أن التصقت إحداهما بالأحرى. ببطء لذيذ صعد التصلب إلى أعلى، تصلب الفخذان، الإليتان والعضو التناسلي الذي برز مثل طبشورة صغيرة، البطن والصدر. تساقطت أصابع اليدين في الفراش دون صوت. كان الأمر أشبه بكابوس مرعب لكن الفتى كاميران لم يكن يشعر بأي خوف. .رفع رأسه بمقدار ما سمحت له رقبته التي كان التصلب قد وصلها في تلك اللحظة وصار ينظر مستمتعا إلى ما يجري له. أن يكون تحو ُل لحمه وجلده إلى حجٍر. وجد للتحول لذة لا تضاهيها لذة أخرى من اللذائذ التي عرفها. كان غريباً أن يكون تحول لحمه وجلده إلى حجر جيري مترافقاً بلذة منقطعة النظير. تمنى الفتى كاميران ألا تنتهي عملية التحول ويتوقف الزمن عندها ليتمكن من القبض على لحظات المتعة الكبرى بأصابعه التي سقطت كقطع الطباشير على فراشه. 3 ) .

الحدث المسمّى ليليّ النشأة! ولليل ما يهدد، وما يتوعد شراً وإقلاقاً بالمقابل. وحيث نشهد تحولاً انحدارياً في جسد بشري غض، في يفاعته، أي جسد كاميران، ومفارقة الاسم حيث أدرك أو كان الروائي على علم مؤكد بمعناه، وقد أحيل واقعاً إلى نقيضه، ولليل غرائبه في الحالة هذه، لأن الذي يجري في الظلام أو تحت جنح الظلام، أو حيث يكونالآخرون نياماً، ليشهد الحدث اكتمال تجليه وتفعيل أثره في الجسد، ومن ثم إخراجه من خاصيته البشرية إلى المادية أو شبهها، ذلك لا يسمى مسخاً، إنما يكون رسخاً، وما يكون على هيئة نبات هو فسخ، وهيئة حيوان هو مسخ، وإنسان: نظيره، هو نسخ بالمقابل. وليس في التحول إلى كيان طباشيري إلا استدعاء السريع العطب، أو المعروف بتذريره، وما يصله كمادة سريعة التلف بما هو معتمد عليه مدرسياً، أو تعليمياً، كما لو أن الحاصل يصله بالدائر خارجاً، جرّاء الوقع الانفجاري في المنطقة . وهو الشعور الذي عاشه الفتى كاميران، نظير امتلائه بالحياة الموعودة، ولكنها حجِزت هنا، وليكون جسد كاميران الشاهد والشهيد على ولما هو متحصل عنفاً دامياً ومشوهاً للإنسان هنا.

لقد نوّه إلى التحول الانحداري في جسده، والذي يذكّر بحالة غريغوري سامسا في رواية كافكا " المسخ "، وهو العنوان الفصيح الدال على تحول الإنسان الكامل إلى حيوان/ حشرة، وقد تعرضت لهذه الرواية في بحثي " الاغتراب الكافكاوي ورواية المسخ نموذجاً " في مجلة " عالم الفكر " الكويتية " العدد 2 لعام 1984 " وهنا يكون الوضع مقارباً لهناك، مع فارق الهيئة طبعاً جهة " طبشرة " الجسم إن جاز التعبير، والمعاناة المكابدة مع تغلل الطبشورية داخله .

في " جسد بدون أعضاء " يشير كل من دولوز وغوتاري إلى طابع الاحتجاج العنيف من قبل هذا المتحوَّل، والذي استعير من آرتو، تعرية للمجتمع الاستهلاكي: الرأسمالي، وفقدان الحياة بالذات ( ينظَر، معجم الجسد، الترجمة العربية،م1، ص565 ) .

كاميران صيحة صامتة تشمل كامل جسده تعبيراً عن همجية الجاري ومن وراءه بالمقابل.

وليكون في الأصفر، هذا اللون الدال على الكآبة، ومواجهة الخطر الصادم كذلك .

وبين السارد وكاميران علاقة متابعة ومكاشفة. فكاميران يعيش مأساته، وهي لا تعنيه وحده، إنما توجه الأنظار إلى محيطه الاجتماعي،والسارد هو الذي يتولى مهمة تثبيت الحدث المؤلم:

(كان هو وحيداً مع محنته في تلك الليلة. كان وحيداً مع تحولات جسده العجيبة، ووحيداً أيضاً مع اللذة القصوى التي هبت نسائمها على جسده من أخمص قدميه حتى مفرق رأسه.ص 4).

ثمة مفارقة في المشهد: من جهة هذا الانسلاخ القسري عما هو بشري، ومن جهة أخرى، ما يرافق هذا التحول من لذة، وكان يجب أن تكون الألم، سوى أن في اللذة هذه،نشداناً لخلاص من جسد في مأزق طبيعي مدرَك.

فأن يكون متنبهاً إلى ما يجري له، إنما يكون حصيلة الجاري، ومحوَّل رمزي يدين مناخ الحرب وسماسرتها كذلك .

ولعل في أنسنة الطبشورة، وتبيان العلاقة بين كاميران الذي يتحدث في سرد لافت في " حفل تعارف " ما ينوع في مفهوم السرد نفسه، وما يجعل المقروء أبعد من أن يكون تقليدياً، ويكون هناك تلهف إلى معرفة التالي :

( أنا كامِيران. ويمكنُ، بل يجبُ أن تلفظي الاسم هكذا: كامْران لأنه الأصح. ومعنى اسمي هو: السعيدُ، الموفقُ.

ربما لا تعرفينني جيداً بالرغم من أنك تعيشين معي منذ سنتين. أنا لم أكتب بك جملاً كثيرة للأسف. ربما جملة أو جملتين "مفشكلتين" مثل: "عاشت الثورة" أو عبارة : "الجيش الحر الله يحميه" التي كنت أرددها مع رفاق صفي في المدرسة الابتدائية في منبج قبل أن يأتي داعش. لا أتذكر أنني كتبت بك مثلاً: "الشعب يريد إسقاط النظام". كانت العبارة السابقة التي رددناها ونحن نمشي بموازاة مظاهرات الكبار "ستأكل رأسك" فعلاً وتجعلك قصيرة مثل زُبِّ أخي آلان غير المختون.

سرقتكِ ذات يوم خريفي من مدرستي. وجدتك رشيقة رفيعة لامعة بعكس قطع الطباشير الأخرى رخيصة الثمن والتي كانت في علب بيضاء تحمل شعار مديرية التربية. تلك الطباشير "الحكومية" كانت غليظة وتثير أثناء الكتابة غباراً كثيراً. كانت خطوطها فاتحة اللون، يظهر حرف وتختفي أحرف فتتشوه الكلمة. أحد المعلمين-اختطفه داعش فيما بعد- كان يكره تلك الطباشير ويتأفف منها ويشتمها. وذات يوم رمى الطبشورة التي كان يكتب بها من النافذة ثم قال وهو يسعل: لقد قامت ثورة وتغيرت الأوضاع في هذا البلد لكن بقيت الطباشير كما هي. يجب أن تقوم ثورة خاصة من أجل إسقاط هذه الطباشير الحقيرة. تغيير الطبشورة يعني حتماً تغيير نظام الحكم الذي لا يقدر على صنع طباشير صحية. الشعب يريد إسقاط الطباشير.ص5 ).

كاميران يملأ استمارة خاصة به وفي صلته بالطبشورة وهي مدرسية، وما يخرج بالاسم إلى المجتمع وكيف كان.

إنه مشهد آخر يفضي إلى توتر آخر، في عملية السرد، ومن المؤكد أن السارد هو نفسه، ولكنه مكلف بحمل اسم آخر، ليكون هناك ثبات في الواقعة عبر عملية نقلها. كاميران هو تاريخ عائلي، ومجتمعي مسرود، وهو يتعدى نطاق جسده الفردي، عندما يذكر بالبيلد والنظام والمظاهرات، وحقيقة الأوضاع. وحيث إن الطباشير برداءتها تمثيل مباشر للنظام، ومن هناك نجد مدى استلاب جسد كاميران بسبب العنف المدرسي السلطوي فيه .

كاميران يوسع دائرة علاقاته والتي تشمل أفراد عائلته ومن في الجوار، حيث إن رعب المعاش منحه هذه المقدرة على سرد مقدَّر برعب الجاري، ووضعيات الناس جرّأءه ، فثمة دائماً ما يخفي وينجلي أمره فيما بعد:

(في البداية كنا نعتقد أن من يموت في الحرب هم الجنود والمحاربون فقط. ثم اكتشفنا أن القنابل والصواريخ وطلقات الرشاشات المنيوكة الثرثارة جداً أكثر من مذياع، عمياء تماماً.

كنت في منبج أحملك في جيبي دائماً وأنتظر فرصة مواتية لأكتب بك جملة قالها لي والدي الطبيب الجراح فَرْهادْ قبل أن يختطفه الدواعش ويغيب عن الأنظار. كرر أبي جملته الأثيرة مليون مرة على مسامعي حتى صرت أحفظها كالفاتحة:

"كل الثورات تتشابه يا ولدي كاميران. تماماً كما تتشابه البعرة والبعرة أو الشعرة والشعرة". ص 6

الحرب علمتني يا صديقتي أن لكل شيء مشاعر وأحاسيس. حتى إنه للرصاصة التي تخترق عظام الجنود والمدنيين على حد سواء أحاسيس مرهفة رهافة الأصبع التي تضغط على الزناد وتحرر الرصاصة المسكينة من زنزانتها الصغيرة في الخرطوش. وكما علمتني الحرب أن لكل شيء مشاعر، فقد علمتني بنفس الوقت أن أتفه شيء يملكه الإنسان في زمن الحرب هي المشاعر والأحاسيس. بل هي المسؤولة عن مأساته وحزنه.ص6 ).

طفولة تنضج قبل أوانها، وطفولة يتم عبورها، لأن الخطر المستفحل يسرّع وتيرة النمو، ولن تعود فكرة البراءة المميّزة للطفولة واردة هنا، إنما ما يجعل المواجهة لكل ما يشرذم الحياة ويعكّر صفوها .

بالطريقة هذه يمكن متابعة سردية حيالة كاميران الطفل،ـ وكاميران الصبي قبل أوانه والناضج دون ميعاد، لأن الزمن نفسه يتبلبل، كما هو المكان الذي أخرج من خاصيته الطبيعية، عندما يتابع كاميران مخاطبة الطبشورة:

(سأقول لك الآن سراً صغيراً ليست له أهمية كبرى. لكنني سأبوح به لك رغم ذلك. اعتبريه اعترافاً من طفل خائف من العقوبة. لقد تجاسرت ذات يوم على أن أولج طبشورة رخيصة بيضاء وغليظة في مؤخرة ابن معلم الصف الذي جاء بعد غياب معلمنا الطريف الذي كان يشتم الطباشير. كنت أكره ذلك التلميذ كثيراً. كان يتبختر في باحة المدرسة لأن والده المعلم الجديد قريب من أحد أمراء داعش. قال لي ذلك التلميذ المنيوك ذات يوم ونحن أمام السبورة الخضراء نرسم دبابات وطيارات هليكوبتر:

-أبوك كان يداوي جرحى الجيش الحر. أبوك من الصحوات. ص 6

"لماذا لا أولج هذه الطبشورة البيضاء الرخيصة في مؤخرته الأرخص؟"

لم يدم تفكيري سوى ثانية ونصف بعدها صرت أحاول جاهداً إيلاجها في مؤخرته. الجبان! صار يشد عضلات فَقْحَتِهِ كمن يمنع ضرطة ًمُلِحَّة. لكنني عاجلتُه بدغدغة في الخاصرة فتراخت عضلاته كلها وسرعان ما دخل نصف الطبشورة بين فلقتي طيزه النتنة فتركته وتراجعت إلى الخلف لأرى ردة فعله.ص7 ).

من المؤكد أن الطبشورة نفسها بريئة مما بات تعرَف به، وهي عينها من جرى تحويرها، في وضعية مأزقية بالمقابل !

والروائي في مشهد كهذا يخلَص لمنطق المفارقات، ويؤرخ لها بالدفع لها إلى الواجهة، بمقدار ما يثبتها للنظر فيها.

كاميران يلقي بظلاله على محيطه، ومن خلاله يمكن تقصي تلك الوقائع التي تصعد بالمستجد، لأنه يكون في الحالة هذه عنصر تمرير لمختلف المؤثرات الدالة على المختل، حيث إن جسده المتحول شاهد عيان على ما حوله بسلبياته .

إن الوالد الطبيب، والذي يغيَّب جراء العنف الممثل في الجماعات المسلحة، وعنف المستحدث، والوالدة التي تصبح خرساء، تعبيراً عن أن الصدمة كبيرة، والكلام لا ينفع، وقد رأنت بأم عينها، كما سنرى كيف انشطر جسم ابنتها ببرميل متفجر، إلى آخر اللائحة التي تضم إليها أولئك العفرينيين ممن تعرضوا للغزو والطرد والقتل والنهب...إلخ .

( هل أحدثك عن حلب أيضاً؟ ربما في فرصة أخرى. وربما لا. فلقد كنت رفيقتي في حلب وشهدت كل الأحداث التي مررنا بها هناك حتى لحظة نزوحنا إلى بلدة شَرَّان في منطقة عفرين ومن عفرين إلى هذا المخيم الخراء.ص8

حاولنا، مع ما مارسناه من شقاوات، أن نخفف آلام أمنا ليلى. صرت أقلد صوت الحيوانات، وبعض النسوة القرويات اللواتي كن يأتين إلى عيادة أبي للمعالجة. فيما مضى كانت أمي تضحك كثيراً حين أقلد طريقة تلك النسوة في مخاطبة والدي وشرح أمراضهن. لكنها نسيت الضحك. حتى مع أكثر النكات إضحاكاً صارت أمي تلتزم الصمت وعيناها ترنوان إلى جهة لم يكن بمقدوري أن أحددها.ص9 ) .

علينا هنا أن نقرأ بموازاة كل عبارة عبارة أخرى تسمّي السبب الذي جعلها هكذا. إن اللغة نفسها تنتكس، أو ينالها عسف الجاري، حيث التفوه بكلمات متزنة، يتطلب واقعاً يسهم في ذلك، وها هو الواقع وقد تزلزل في جغرافيته !

يعني ذلك أيضاً أن لغة الرواية على وجه العموم خرساء، فلا بد من إطلاق سراحها نطقاً، وعمياء لتظهر متبصرة، وفي وقع متردي يتضاعف مفهوم النص الروائي جهة المشتمل عليه، وكيفية تفضيته ليكون منطوقاً وناطقاً تبعاً لخاصية القارىء وقدرته على إقامة علاقة مع الرواية، ليس بوصفها نصاً أخرس، وإنما النص الذي يختبر القارىء، وما إذا كان في مقدوره أن يمنحه اللسان الذي يناسبه، والصوت الذي يتردد صداه خارجاً، لينفتح عليه معنىً بعمق أكثر.

إن علاقة كاميران مع الطبشورة، هي علاقته مع نفسه، مع كينونته وقد فقدت القدرة على النمو الطبيعي، وحديثه عما هو خفي فيه للطبشورة، استجابة لمتغيرات المكان نفسه ورعب الدائر فيه، حيث لا تعود الطبشورة منتسبة إلى عالم الجماد، وإنما ما يستجيب نفسياً لنداء كاميران الخفي، الطبشورة المسماة صفراء " صفرا " تصغيراً استقطاب لانتباه القارىء أو من يريد التعرف إليه، لكي يغيّر مسار الرؤية، والبحث عن المعنى المتناسب مع الحدث الصادم.

هكذا يمكن قراءة التالي بلسان كاميران ( إذاً صباح الخير أيتها الطبشورة الصفراء. دعيني قبل كل شيء أمنحك اسماً. لكل شيء اسم، والناس تسمي كلابها وقططها وحيواناتها الأليفة بأسماء جميلة. حتى أن قدماء البشر أطلقوا على الجبال والأنهار وحتى النجوم التي في السماوات أيضاً أسماء وصفاتٍ مختلفة فلماذا لا أطلق أنا عليك اسماً يعفيني من مناداتك كل مرة بالطبشورة الصفراء؟ سأسميك صوفي؟ هيه؟ ألا يعجبك هذا الاسم؟ طيب سأسميك صَفْرَا. هذا اسمٌ أقرب إلى شكلك ولونك. أنت صَفْرا. صديقتي صفرا.ص11 ).

إنه هو نفسه أصبح أداة كتابة، أصبح هذا الكائن الفاقد لهويته تحت وطأة المستجد الجارف للمنطقة .

هناك الكثير مما يجدر سماعه من ناحية السارد وبلسان المتحول كاميران حول عائلته التي تتعدى نطاق الاسم ، أي " عائلة " حيث كل فرد ينفتح على منحى دلالي، وفي المحصلة يتعاين المختل في الصميم، أي المجتمع .

(لقد برزتْ ظاهرة الأطفال المصابين بسلس البول وارتفعت بشكل كبير خلال الحرب. سمعت هذه الجملة ذات يوم من طبيب في برنامج تلفزيوني عن الصحة والحرب أجرته معه مذيعة عارمة الصدر فاقعة المكياج مثل مَزْيَتْ.

هل تعرفين يا صديقتي صَفْرَا كيف يحدث ذلك؟ أقصد كيف يتبول المرء وهو نائم؟ بالتأكيد لم تعيشي موقفاً مثل هذا. تخيلي طبشورة تتبول في فراشها؟ يا للسخرية. كيف لي أن أتصور هذه الأمور بحق الشياطين الصفر؟ ولكنك تتبولين. نعم أنت تتبولين. وبولك هو الكتابة التي تتركينها وراءك على السبورة وجدران البيوت المهدمة وبراميل الموت وفوارغ القذائف التي يضعها المدنيون أمام بيوتهم ويزرعون فيها الورود ونباتات الزينة كإجراء جنوني لتحدي الحرب.ص12

أبي، الطبيب الجراح فرهاد، الذي بايع داعش لأجل مصلحته الخاصة وفي سبيل البقاء في مستشفاه ليعالج الناس الجرحى والمرضى، اختفى ذات يوم ولم نعثر له على أي أثر حتى الآن.

لم يكتفوا بخطف أبي. بل جاؤوا ليستولوا على البيت بالقوة. خفت من لحاهم، من سراويلهم التي تخيلت أن أيورهم لا شك تتدلى من تحتها كأعرافٍ ضخمة لديوكٍ رومية هائجة. خفت من نظراتهم المرعبة ومن لهجتهم القاسية الخالية من أي نبرة إنسانية. هددوا أمي بالطرد بعد يومين إن لم نغادر البيت. قالوا لها إنهم سيأتون لإخلاء المنزل وسيمسكون بيدها ليجروها مثل كلبة جربانة. هكذا وصفوها. قالوا إنهم سيأخذون جراءها، كانوا يقصدوننا، رهائن إلى أن تذعن هي للأمر. صارت أمي تبكي وتولول. بكينا معها. حشرنا أنفسنا في زاوية من غرفة المعيشة خائفين مترقبين إلى أن خرج جنود الله ورجال الدولة الإسلامية، وأيورُهم، كما خيل لي لحظتهَا، تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال بإيقاع منتظم تشبه إيقاع أناشيدهم الحماسية.ص13

لم تجد أمي، التي صارت تلقبني "أبو شَخَّة"، بداً من أن تضع تحت غطاء فراشي الذي أنام عليه قطعة مشمع كبيرة لحماية فراش الصوف من البول. كان ذلك إجراء جيداً منها. فهي لم تعد تضطر لنشر الفراش في الشمس أو تعريضه للحرارة إن كان الوقت شتاء لكي يجف. لكن معاناتي تضاعفت. صحيحٌ أن مشمع النايلون منع تسربَ البول إلى الفراش الصوفي، لكن بدل ذلك أصبح كل البول يبقى في الأعلى مثل بركة ضحلة أتقلب فيها إلى أن أستيقظ فجراً حينما يبرد الجو ويبرد معه البول قليلاً.ص14

انشغل جدي وجدتي بابنتهما، أمي ليلى، التي أصابها خرسٌ فجائي بعد أن رأت وحيدتَها ميسونَ مشطورةً إلى قسمين. أما أنا فقد بقيت مشغولاً بمشكلتي العويصة، أي التبول اللاإرادي في الليل. استعملت ما تبقى من حفاضات أختي القتيلة ثم بدأت أشتري في السر، وبما يتيسر لدي من خرجية، حفاضاتٍ أسترُ بها عاريَ الذي لم تعد أمي تهتم به أصلاً.15 ).

في العاهة التي نالت من كاميران، أي التبول اللا إرادي تشفير لجسد بأكمله، وكشف عنه، حيث يوجَّه النظر إلى الخارج، وكيف أنه شكل عنفاً ضاغطاً بظهوره، وكأن الالتصاق بالفراش إدانة للخارج بالمقابل، ليس هذا فحسب، إذ إن مناخ الحرب يعني الإطاحة بكل ما هو مستقر، ونزع المنطقي مما هو سائد، فالحرب جلابة المفاجئات.

هكذا حال الأب، وكذلك الأم ، وفاجعة مقتل الأخت ميسون في مشهد مروّع .

أوليس الأخضر الدال على الحياة أول ما يشار إليه، وخصوصاً الزيتون الذي تشتهر عفرين به، الزيتون علامة الحضور الكردي ورمزه بالمقابل، ومن هنا كان عنوان " الخضراء " نعياً للإسم وصفته بالمقابل، وما بات الصغير يعرفه لفرط حساسيته، حيث الجسد بما هو غريزي يتبصر مخاطر الجاري على وقع الحرب وسماسرتها :

( لم يكن جدّي يعرف أننا نحن الأطفال، أكثر الناس إدراكاً لما تعنيه الحرب. نحن من نعرف الحروب على حقيقتها وليس الكبار. ربما كان يهم جدي، وغيره من الرجال، تجارتُه، حانوتُه أو حقل زيتونه أو معصرته أو أيةُ مصلحة أخرى. ربما كان يظن أن دراجة صغيرة لن تكون لها قيمة في حرب هائلة مدمرة مثل التي تحدث في سوريا الآن.ص 17


تقدمت أفواج الجيش التركي في أوائل شهر آذار صوب بلدة شرَّان. كانت أمي شديدة الخوف. صارت تضمنا إلى صدرها وتبكي. لم أتحمل بكاءها. قلت لها لن يحدث شيء، ثقي بالرفاق. عندنا مقاتلون سيدافعون عنا ولن نصبح طعاماً للذئاب. مَدَّتْ لسانَها ساخرةً من كلامي. فهمت أنها لا تثق بمن يدافع عنا. في يوم الثلاثاء وقبل أن ينتهي الأسبوع الأول من شهر آذار وصلت فصائل الجيش الحر المدعومة من الجيش التركي إلى مركز ناحية شران واحتلتها في غضون ساعات قليلة.

لم يكن ذلك متوقعاً. كان الناس يتحدثون عن أنفاق ومتاريس وتحصينات تمنع أكبر الجيوش من اقتحام البلدة. تذكرت خطاب ذلك الرجل عند نعوش الشهداء الخمسة. كان يقول إن لديهم أسلحة ومعدات تكفيهم لعشر سنوات.ص18 ).

هنا يتم اجتياح الأخضر، يتم هتك الجغرافية الكردية، وممارسة كل ما هو تخريبي ومدمر ومميت وشائن أيضاً .

في " باص أخضر يغادر حلب،ـ منشورات المتوسط،ميلانو، 2019 " نتعرف على هذا الصاعد بميتاته وخرائبه وفظائعه، من خلال الشخصية المحورية عبود العجيلي، والملقب بـ " أبو ليلى "، يكون الأخضر مسمّياً الرواية، إنما ليس لأن هناك احتفاء بالحياة، إنما ما ينكسّها، ما يجعل الأخضر مسيئاً لاسمه، لأن الباص الأخضر، رمز باصات النظام

ومنذ البداية( باص ٌ أخضر كان يقف مع غيره من الباصات الخضراء مثل درب معشب نحيل يمتد بين أطلال بدت لانهائية.../ 9)، إنها باصات عسكرية وتبث عنفاً من خلال اللون خلاف الوارد في اللون نفسه .

وفي وسع القارىء أن يجد مدى التوازي في مشاهد عنفية كثيرة بين الروايتين. أشير هنا إلى الأطفال ورعبهم، وكيف تقدموا بأعمارهم تحت وطأة الخوف في هذه الرواية كذلك (يركضون خلف أهاليهم، يسقطون على الأرض، ثم يقفون على أقدامهم الباردة، ويستأنفون الركض، وهم يشدّون بأيديهم المرتجفة بردا ورعبا على ما يحملونه دون أن يبكون أو يطلبون العون من آبائهم الذين يتقدمونهم، ولا يلتفتون. ص13).

إن قراءة هذه الرواية تنشط الذاكرة الصُّورية للقارىء وتضعه في مواجهة قاسم مشترك أكبر بينهم، كما لو أن هاتين الروايتان تتواسيان وتتناوبان على معايشة الرعب المدمر، والنعي المشترك، والجرح الكبير والنازف والمشترك هنا.

وحيث إن منطق الخطـأ الحاصل تاريخياً، له حق في أن يُسمى، وأن يكون هناك تقدير لموقعه، كما هو منطق الصواب وفي بعض الحالات أكثر من الأخير، تبعاً لثقْل هذا أو ذاك، والفكرة التي تتضمنه أو تشير إليه، تقدّم عنه وصفاً، بما يتناسب وقوة انتشاره في الواقع، وتمثّله في مواقف مختلفة، ولا مجال لإبداء التأسف، فثمة ما هو فيزيائي- قيمي هنا، وما يتعرض له أشخاص من تغيرات بنيوية، يفقدون عبْرها خاصيتها باعتبارهم بشراً أسوياء، إنما الاحتواء بالخطأ، والذي لا يمكن الدفع به خارجاً، أو تنحيته جانباً، لأن ذلك يتطلب الوقت الكافي، وقد استفحل أو تجذر في النفوس بصيغ شتى .

في الوقت نفسه، لا بد من ملاحظة قاسم مشترك بين العديد من روايات دوست، وهي الحامل العائلي للرواية إلى جانب التعليمي، عبر تشابه الشخصيات: في " ممر آمن " وكذلك " باص أخضر يغادر حلب " فهنا يكون الأب " أبو ليلى " وابنته المقتولة " ويكون الوسيط في الاتصال بالعالم الخارجي، وهكذا الحال في " كوباني " من خلال دور الأب " الحاج مسلم " والدور المعطى لخديجة، وللدكتور، والرعب الذي يزكّي كل ما هو صاخب ومهدد للحياة .

في الجانب الآخر، لا ينبغي النظر إلى المقروء سطحياً، وإنما عبر سبْر يقتصر على الشخصية الواحدة، باعتبارها محورية، وما في ذلك أحياناً من إسقاط حق الكلام في التعبير عما هو مجاور لها وما هو خفي فيها.

إن ما يقوله كل من دولوز وغواتاري في كتاب " كافكا: من أجل أدب أقلي – دار سطور، 2018" وهو ( أن فعل التعبير الأكثر فردانية ما هو إلا فعل تعبير خاص عن جماعة . ص209 ).

بالطريقة هذه، وفي العالم الكابوسي لحظة إمعان النظر في روايات إلى جانب أعماله الأدبية، يتشكل مجتمع، إنه مخاض علاقات أخرى في قلب مجتمع محكوم بالعنانة، إلى جانب الإفراط في التعبير المكثف عما ينتابه من فرط في التفكك أو المكابدة الحدودية في الداخل، حيث تعيش كل شخصية بذاتها كما لو أن ليس من حدود مفتوحة بينها وبين سواها.

في بنية الكتابة الروائية، وهي بنية مفتوحة بعدة طبقات تشكل خاصية العمارة الروائية، بمقدار ما تفصح عن مدى رهان دوست الكاتب على المجتبى الروائي وقابلية الاستجابة لرغبته في أن يقول ما ليس يقال بسهولة، جرّاء القمع الموجود المنظم منه والغير المحتسب، السياسي الموجّه للأنظار إلى السلطة وآلية عملها المباشرة والقوى التي تسندها، والفوضى التي تقدَّر هنا، لأن النظام بوصفه موازياً لما هو موجود عموماً غير موجود، فتمارس الرقَع الجغرافية وهي في تمزقاتها وتفاوتات السلوكيات بين مولّدة عنف، ومميته، ومهددة، ومأخوذة بهذا العنف ومظهِرة سلوكيات بالمقابل..كما قلتُ، في بنية كتابة دوست الروائية، لا بد من البحث من الفراغات وهي متنفسه في الكتابة، إنما حيلته في لفت نظر قارئه إلى أن الذي ضمَّنه سردياته الروائية المختلفة، يتطلب مؤازرة من نظيره القارىء في أن يسهم في يضيء الفراغات الموجودة، أن يطلق أسماءه الأخرى لشخصياته لتأخذ مواقعها جهة التمثيل القيمي والاجتماعي، ويكون لها أثرها .

دوست يمارس لعبة القيم الأكثر تعارضاً اثنينياً في أرض واقع رواياته، جرّاء مقاربته لما يجري، وهو على مبعدة " جغرافية " لأنه محمول بهذه الجغرافية وسرديات التمزق والخرق القيمي فيها، إنها قيم تتكلم، تتهامس، تتواجه، تتضاد، تتقارب، تتداخل مع بعضها بعضاً، حيبث لا بُعْد عملياً بين أي شخصية وأخرى على أرض الحدث الروائي، إنها سواسية جهة التمثيل القيمي للواقع المتهاوي، لأن ليس هناك من معقولية في إهانة أي شخصية من حيث أداء الدور. إنها تمثّل في مسرح مكشوف، وتقول ما هو موهوب لها، وتظهِر ما هو مودَع داخلها، ليأتي التحليل وإطلاق الأحكام غير المبرمة بالتأكيد، لأن العمل أدبي وليس فكرياً، لتكون الرواية قابلة على الاستمرار. كل حكم قطعي إجهاز ما على الرواية.

هنا، على سبيل المثال كاميران " كامو " ودلالة اختصار الاسم، واختزال المعنى كذلك، ليس فرداً بعينه، وإن كانت الفردية كامنة أو قائمةت فيه، إنه من ناحية وسيط حتى بالبنسبة إلى نفسه، فهو أكثر من واحد، وفي بعض الحالات يظهر مفرطاً في عدم التماسك، إنه جمع مرئي في تعددية أنشطته، وهذا لا يتم من فراغ، فثمة ما يحيل إليه ويعكسه بالتالي، وليس من مكان محسوم بأوصافه بالمقابل، ففي النظر إليه بعناية أكثر، لقاء الدور المعطى له، يكون المكان حاضراً كسردية لا تنقطع، رغم تنوع المشاهد، ينقلب كاميران مكاناً وهو في صمته، حين يعايَن عن قرب، ويصبح المكان نفسه في مقام الشخصية، لأن ليس من جمادية مع كل عمنلية وصف، إنما هناك تحاور، وتشكيل أفعال، وهكذا .

في السياق نفسه، كاميران في منتهى العجز، عجْز سلبي، من خلال تخوفه هو نفسه،ومن خلال عملية التحول، إذ لا يتوقف فيه فعل الاتصال بالعالم الخارجي إلى جانب التغير الحاصل داخله، واستقبال المؤثرات الخارجية من ناحية أخرى، وما في ذلك على مستوى المكاشفة الأولية من لاسياقية الشخصية هذه، وعدم تماسكها، حيث تكون الرغبة في الاتصال قائمة، رغم أن الوصف المنصب على تحوله الطبشوري يتطلب التوقف عن ممارسة لعبة كهذه. سوى أن الصيرورة الروائية تعلِمنا أن ليس من ظاهري، إنما هناك باطني، ليس من وجه محدد، إنما أكثر من ذلك.

إن عملية السرد وإحالاتها المرجعية روائياً، والطارىء المكاني، وردود الأفعال تقرّبنا من هذا المركَّب الأدبي.

في فقرة " الأرملة مزيت " وما يلي هذه الفقرة، تأخذ سيرورة الحدث بعداً آخر، إلى جانب الصيرورة التي تمثّل الميزة الملقّمة للسرد هنا وهناك، حيث تتلون الأحداث مجتمعة، وهي تكون عالم الروئي.

يأتي السرد بإشارة إلى الماضي، حيث يجري توجيه الأنظار إلى الأرملة " مزيت " إنها امرأة سابرة لمجتمع الرواية، وهي بدورها تشكل نموذجاً وسيطياً بتمرير مؤثرات، جهة إضاءتها لعالم كاميران " كامو " بالنسبة لها، فلا يعود كاميران الطبشوري تحولاً والذي يعيش قهر التبول اللاإرادي، إنما المؤهل، عند الشروع في بناء علاقة معه، وهي ذات طابع جنسي، حيث إن الترمل من ناحية يوازي بعداً طبشورياً. إن الحياة والموت فيهما يتصارعان، غير أن خاصية الرغبة الإيروسية في جسد مزيت، كما سنتعرف عليها، أكثر من كونها من مجرد إفراغ شحنة إيروسية، بصورة عرضية، إنما مجابهة لموت كان، حيث قتِل زوجها العسكري، واستماتة من أجل حياة لا تريد تفويتاً لها، ومن خلال إخراج كاميران من حالته التي تأسره إنها تبث فيه روحاً حية، وهي كامنة فيه أساساً، ولا تبقيه سلبياً كما هو وضعه بينه وبين نفسه، انطلاقاً من عمرها وتجربتها في الحياة، ولأن كاميران الذي فجرت فيه المستجدات طاقات وتغيرات، مطلوب لهذا الفعل.

أضع هذه المشاهد من فقرة الأرملة " مزيت " بين يديب القارىء :

( باءت كل المحاولات بالفشل. حتى محاولة إحدى جاراتنا بعلاجها لدى شيخ معروف.

كان اسم جارتنا مَزْيَتْ.

وكانت أرملة في الخامسة والعشرين من عمرها. ولم تكن قد أنجبت أطفالاً من زواجها القصير، كما قالت لي ذات مرة.

كان زوجها عسكرياً في الجيش العربي السوري وقتل منذ أوائل الحرب في إحدى جبهات حمص فورثت عنه البيت. أصبحت الأرملة تحمل حقداً شديداً على كل من يحمل السلاح ويطلق الرصاص. حاولت، كما روت لي أن تنتحر فلم تفلح. حاولت أن تهرب مثل كثيرين إلى خارج الحدود لتصل إلى أوربا فلم تتمكن من ذلك أيضاً.

صباح أحد أيام الشتاء، حين جاءت مزيت إلى البيت الذي كنا نسكنه لزيارة أمي، لفت انتباهي عطرُها الساحر الأخاذ.

لم أكن قد شممت من قبل رائحة زكية مثل رائحة ذلك العطر. صحيح أنني لا أميز ماركة عطر عن ماركة أخرى من بين ماركات العطور، لكنني أدركت أن لذلك العطر غايات أخرى غير منح المرأة رائحة زكية. كان عطراً مثيراً جعل قضيبي ينتصب مثل طبشورة غليظة حين لَفَحَ أنفي.

سرعان ما ضممتُ فخذيَّ حتى أخفي قضيبي المنتصبَ عن السيدة مَزْيَتْ، المرأة الطيبة التي جاءت لمساعدة أمي في محنتها الشديدة.ص20

كان بيت مَزْيَتْ دافئاً. وهو أمر لم يكن متوفراً عندناً. سمعت خالي العازف مرات كثيرة يشكو من شُحِّ المازوت وفقدانه أغلب الأوقات ويشتم الجيش الحر:

أنيك جيش المازوت. أنيك الحرية التي ستأتي عن طريق قطع المازوت عن المدنيين.ص21

أمسكتْ بيدي اليمنى ورفعته إلى صدرها ثم وضعته بالتناوب على ثدييها وصارت تدور بأصابعي على حلمتيها اللتين شعرت بانتصابهما مثل برعمتي ورد. لم أشعر بعد ذلك إلا وأنا متمدد بجانبها عارياً تماماً. كانت تلهث وتقول كلمات فاحشة. تنزل بيدي من صدرها إلى ما بين فخذيها ثم ترفعه مرة أخرى إلى صدرها وتشدُّ بيديها على إليتيَّ بقوة موجعة.ص22

عشت في شرَّان شهوراً عديدة تتقاذفني أمواج نهر العسل الذي كان يجري في غرفة نوم الأرملة مزيت عشيقتي الشهية.

نعم يا طبشورتي الصفراء. نعم يا صفرا يا رفيقتي. أقول الشهية وأعرف تماماً ماذا أقول. لقد كانت مزيت إمرأة جميلة زادتها أحزان الترمُّل جمالاً على جمال.ص23 ).

يتجابه الموت والحياة، المحافظة والتقليدية والتمرد.ففي مجتمع معرَّض لهزة بنيوية، لا يعود من تقليد، بما أن التقليد يعرّف بحدود مرسومة، وعلاقاتتراتبية موضوعة ومعاشة، ولغة سائدة متعارف عليها، إنما في الحالة لها، وقد تفجرت حدود، وتبلبلت علاقات، والمكان نفسه منكوب ومنهوب ومتصدع، فلا بد من قوى أخرى تشير إلى أن الحياة لا تنتهي هنا، وما في ذلك من إضاءة لشخص الكاتب نفسه، وهو يقف على مبعدة، في رهانه الحياتي هذا .

لماذا الإيروسية التي تعني النشاط الجنسي الذي يغري بتفحص مشهديته الجسدية؟

في كتابه " الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية- الترجمة العربية- 2008 " يقول رينيه جيرار، عن ( أن النشاط الجنسي مرآة الوجود برمته . ص 202 )، وهو دالة رغبة لاشعورية، ويهاب بها أن تصبح شعورية عند التقاء رغبتين تتحركان انطلاقاً من حاجة موجَّبة بطريقة ما، وليس من إيروسية معبَّر عنها، إلا عبر تنشيط جسدي معين، كما هو المشهود له في شخص مزيت، وكيف كانت، وما أصبحته فيما بعد.

ثمة عبارة أخرى، أجدني منوّهاً إليها لأهميتها، وهي ( أن الموت حقيقة الرغبة الميتافيزيقية. ص 335 ).

بين العبارتين علاقة تعارض،فالإيروسية نفخ حياة في جسد قيّض له أن ينحدر حتى ينتهي أمره، أو يكون طوع الموت الوشيك، كما في وضعية كاميران، وفي سجل مزيت ثمة ذاكرة موت ممثّلة في مقتل زوجها، والأرملة نصف ميتة على الأقل، في مجتمع محكوم بالتقليد، لكن إرادة الحياة تقول شيئاً آخر، وفي سجل كاميران، ما يظهر مختلفاً إلى الخارج، في مجابهة الموت، أو الثاناتوس، بتعبير فرويد،فتصبح علاقة التعارض أشبه بعلاقة تفاوض في الحسبان، وبطريقة ما، عندما تقتحم مزيت عالم كاميران، وتحيله إليها، لأن ثمة ما ينبغي أن يحدث حباً بالحياة، لتصبح العلاقة تجاذبية تالياً .

طبعاً هناك الكثير من التوصيف للقاء الإيروسي، وهو سبْر للقوى الصامتة ومنحها ظهوراً وتجسيداً في وحدة رغبة.

في بنية هذه المشاهد هناك تنشيط دورة الحياة خارج أطر الرغبة المشروعة، طالما أن الحرب تطيح بالاستقرار، وهناك ما ينزل بالجسد إلى أكثر حالاته " بهائمية " في التعبير عما هو مخل بما هو قيمي أو أخلاقي’ جهة الشتائم التي لم يدخر السرد الروائي جهداً لبثها هنا وهناك، سوى أن حديث الشتائم، لا يؤخَذ به، إلا لأن العالم الذي تجلوه الرواية، بات مطلَّقاً مما كان عليه سابقاً، أو منزوع الاعتبار، لقد حلت الفوضى، نعم، حل الخراب التدريجي جرّاء ذلك، حل العنف الذي يأتي على كل منطق جدير بالنظر فيه، وبذلك تؤخَذ كل شتيمة على أنها خلل بنيوي يعصف بالجسد المجتمعي .

في " كمائن للأقدام العمياء " والدلالة القاسية للمعنى، يكون الاضطراب ومردوده بالمقابل ( صباح يوم الثلاثاء العشرين من شهر شباط تجمعت حشود كثيرة في ساحة آزادي بمدينة عفرين. وهي نفسها الساحة التي كانت تسمى سابقاً ساحة السراي القديم حسب أقوال خالي علي. كان هناك صحفي حلو الوجه والكنية قدم من العاصمة لرفع المعنويات. تعلق الناس به مثل غرقى يتعلقون بحافة زورق. رأوا فيه منقذاً من الطوفان التركي ودرعاً يحميهم من جلدات غصن الزيتون فتهافتوا عليه يلتقطون معه صور السيلفي التذكارية.

بدل أن يرسلوا إلينا دبابات وطيارات أتحفونا بهذا الطرطور؟ لو استطاع هذا الصحفي أن يحمي طيزه لوجب علينا أن نهديه وسام الشجاعة من الدرجة الأولى.ص24 ).

العبارات تمثّل مجتمع فقد صفة المجتمعية، وفي الإيذان بقرب تشكل مجتمع آخر، ليس أكثر من هذا المهدد الممدوح من قبل الغزاة والقوام العنفي، والكوميديا السوداء التي تتفعل في بنية كل مشهد، كما في العملية المسماة بـ " غصن الزيتون " وما في العبارة هذه من إغراء بالتجاوب، وما في المعنى الشعاراتي هذا من نقيض له، كما الحال مع عبارة/ عنوان " ممر آمن ". إن الكوميديا السوداء تمثّل العلامة الكبرى لمجمل روايات دوست، لأنها تميط اللثام عن عوالم تتنفس تناقضات تبعث على الغرابة، وهي في تجاور تناقضاتي، في القيمة الواحدة وهي مسواقة: شعاراتية، وما في ذلك من تنبيه إلى أن مجتمعاً مأخوذاً بمثل هذه العلاقات، محكوم من حيث الجاري الفعلي فيها بالإغلاق، بالوعد بنعيه، نشداناً للمغاير !

هكذا يضاء مشهد تلو آخر، وهكذا يمارس السرد في تلون مساراته وساحاته ووجوهه، أدواره المختلفة، والتي يتناوب فيها المكان المتصدع والشخصيات المسماة والموصوفة مكابدات مرئية وأخرى كامنة، تأخذ طريقها في الظهور.

وفي " انتحار " ثمة ما يعزّز هذه الحالة المعممة بعنف مفعَّل خارجاً، دون نسيان سلبيات قائمة في الداخل حرَّكت ذاك:

( شَرَّان؟

-تعني المعارك يا كامو.

حين قال خالي علي عازف البزق إن اسم هذه القرية تعني المعارك، تذكرت على الفور معاركي الساخنة على سرير مزيت الفاره. هي لم تحدثني عن معنى اسم شران، ولم تفسر لي معنى اسمها مزيت ولم تسألني حتى عن معنى اسمي أيضاً. لم تكن امرأة يدفعها الفضول لحشر أنفها في أسماء القرى والنواحي والناس. كان اهتمامها كله منصباً على معنى واحد فقط لا غير: تحويل الحرب إلى متعة فائقة مهما كان الثمن.ص26

كانت شران قرية محاطة بحقول لانهائية من أشجار الزيتون. وكنت أتجول بدراجتي الخضراء في الدروب الصغيرة التي تفصل الحقول بعضها عن بعض. وعندما احمرت حبات الزيتون وتساقطت صرت أخاف أن أذهب لوحدي إلى تلك الحقول الصامتة الكئيبة.ص26

كانت كل الأشجار تبكي.ص26

كان الناس خائفين. وكانوا يتحدثون عن قرب الهجوم التركي. بعضهم حزموا أمتعتهم وأرادوا أن يهربوا إلى مدينة عفرين. لكن رفاق الحزب منعوهم وقالوا لهم لا تصدقوا الإشاعات، لن يحدث شيء. هذه حرب نفسية. ونحن هنا سنقاوم أي اعتداء.ص27

اختلف موسم هذه السنة عن موسم السنة الماضية. أصلاً لم يكن في هذه السنة موسم سوى موسم الدبابات التي اجتاحت حقول الزيتون في كل مكان.ص27

لقد عشنا أياماً حلوة في خريف 2017.

كان العازفون الجوالون يأتون إلى الحقل ويعزفون قطعة موسيقية حلوة أو يغنون أغاني جميل هورو وعلي تجو والآخرين بينما كنا ننهض لنتحلق حول العازف ونستمع بسعادة إلى موسيقاه العذبة. وكان العازف لا يترك العزف، أو النفخ إن كانت آلته مزماراً، أو الغناء إلى أن يذهب إليه صاحب الحقل ويعطيه قليلاً من الفلوس أو كيساً من الزيتون فيذهب إلى حقل آخر وهكذا. أما البنات فقد كُنَّ يعقدن حلقات الرقص والدبكة بعد انتهاء القطاف وقبل أن يأتي الجرار الزراعي أو البيكاب ليأخذنا إلى بيوتنا بعد يوم حافل بالمتعة.

أنيك الحرب.

لقد سلبتني كل شيء. حتى متعة قطاف الزيتون. حتى متعة التفكير في تلك المرأة التي منحتني المتعة.ص28 ).

يتقابل الماضي الذي أفصح خال كاميران: كامو، عما كان يحدث، عما هو مناسباتي، عن مجتمع قائم، وهو كردي بذاته، عن الأفراح والأتراح، عن الموسيقى ونشوة التفاعل مع الموسيقى، عن " شرّان " القرية ودلالتها، وما كانت خلاف ذلك، وكيف واجهت الاضطراب الحاصل، الحرب التي بلبلت الألسنة ، عن الزيتون الأكثر من كونه شجراً. إنه رمز حياة، ولا بد أن الشعار الذي اتخذته تركيا الغازية مع عناصر طوع إرادتها العسكرية ممن يُسمون بـ" الجيش الحر " وهو" غصن الزيتون " مستعار من هذا الحضور الجغرافي: الزيتوفي، والتطابق المزيف معه بالمقابل.

يتسع عالم الرواية، بمقدار ما يزداد الخناق المميت على الحياة القائمة، تدريجياً، عندما نتلمس في " فقرة " ممر آمن " العنوان الرئيس للرواية، وهو يتوسط الرواية، ما يشد القارىء إلى التوتر المتصاعد وهو متوقع :



( هربنا من شران قبل أن يصل إليها المسلحون الموالون لتركيا. هرب معي خيال مزيت الغارقة في دمائها على سرير شهد أسعد لحظات حياتي. لم يفارق المشهد الأليم مخيلتي طوال طريق الهروب الصعبة مشياً على الأقدام إلى مدينة عفرين. لم تمض أيام قليلة حتى حوصرت المدينة. ثم أعلن الأتراك أن جيشهم فتح ممراً آمناً لخروج المدنيين من جهة الجنوب.

-ممر آمن؟

صاح الخال نعسو، الذي استضافنا في بيته بعفرين قبل أن نهرب، باستهجان ثم أضاف:

-لو فتح الأتراك مليون ممر آمن لما هربت. هذه خطة خبيثة لتفريغ المدينة من سكانها والاستفراد بالمقاتلين. إلى أين سنذهب؟ هل نسينا أهل كوباني وماذا حل بهم بعد أن تركوا بيوتهم؟ هل نسينا المدنيين الآخرين الذين هربوا في هذه الحرب من بيوتهم وصاروا أسرى في مخيمات النزوح؟ البقاء في البيت والموت فيه أفضل من ذل التشرد.

-لكن يا خال نعسو لسنا الوحيدين. الكل سينزح ريثما يهدأ القصف. ألا تسمع صوت القذائف تنفجر في كل شارع؟

-أسمع كيف لا أسمع! هل أنا أصم؟ لكنني لن أهرب مهما حصل. وأرحب ببقائكم معي في بيتي. أنتم ضيوفي على كل حال.ص29

في الساعة الأولى بعد انطلاق الجرار وقفتُ أتلقى النسمات الباردة وأتفرج على حقول الزيتون الكئيبة وأنا أمسك بحافة المقطورة. صرت أنظر بذهول إلى الحشود التي كانت تفر من مدينة عفرين وقراها. نازحون على مد البصر. قافلة متصلة بأخرى، جرارات زراعية، بيكابات، سيارات، دراجات نارية، عربات صغيرة، ميكروباصات تتزاحم في صفوف متقاربة تسير بطيئة جداً. أما على جانبي الطريق فقد رأيت أناساً كثيرين ممن لم يجدوا مكاناً في عربات النقل ينزحون سيراً على الأقدام. رأيت بعض النساء يجرجرن أطفالاً صغاراً وعلى رؤوسهن صرر كبيرة، والشباب يمسكون بيد المسنين وعلى أكتافهم أكياس بيضاء فيها بطانيات وثياب. كان الجميع يمشون صامتين كأن الخرس أصابهم مثل أمي.ص29

لكن الوصول إلى أين؟ لم يحدد أحد هدفه. كانت الأهداف تتغير بين لحظة وأخرى. سنذهب إلى حلب. لا سنذهب إلى بلدة نبل. لا سنعود. لا سنخيم هنا في الحقول والبساتين ريثما تهدأ الأوضاع. لا بل ستكون هناك مخيمات جاهزة. فالرفاق لا شك وأنهم حسبوا حسابنا.ص30 ).

في الحرب تتداخل الجهات، تصبح الرؤية غائمة أو يكون الدوار آخذ طريقه إلى الرؤوس، لأن المهدّد لا يعرَف له وجه، وبذلك يكون أي تفكير في خطة معينة، وفي القيام بسلوك معين، موضع شك، في وضع مكشوف وخطر أيضاً .

الممر فعل إخراج للناس من بيوتهم، فعل ترْك المكان لنهب الغزاة، فعل إفساح في المجال لكل ما هو سلبي وما هو صادم كما يقول التاريخ تجاربياً، فعل التعرض لكل ما يؤلم، وما يفجع، وما يبعث على العجز بالمقابل .

الفاجعة قائمة، والحياة في وضعية الدفاع عن نفسها، لأن هناك نزوحاً قسرياً، وهو نزيف جسد جماعي واقعاً. حيث يحصل الخراب، وحيث لا ضمان مما سيأتي، وبالطريقة هذه تصبح الذاكرة نفسها في حرب نفسها على نفسها.

ثمة ندب للذات، ندب للجغرافية المنهوبة، نهب لكل ما يمكن أن يواسي الروح بالمقابل.

في " كوباني : الفاجعة والربع ، مسكلياني،تونس، 2018" تقول خديجة المعلّمة للدكتور( نحن في تلك الجغرافية المجنونة أبناء القسوة وأحفاد الألم. نحن من سلالة الخوف نرضعه ساعة نأتي إلى الدنيا. نحن نشبه جغرافيتنا في الجنون والخشونة أيها الطبيب. ص167 .)

وتالياً ما يقوله زوجها لها عما سيجري:

( ستحدث مصائب كبيرة. أنا واثق. داعش ذئب أطلقوه على مناطقنا. ص 168 .).

يعني أن الجاري يشكّل البداية، ولن يعود الزمن معرَّفاً به بالساعات، وإنما بالموت والخراب والوجع الذي يفتك بالبشر والمكان، وما في ذلك من قياماتية، إنما لا يعرَف نوع الحشْر ، وأين ، وكيف ؟

ذلك يعكس من ناحية، مدى تخلخل الزمن، حيث المكان بمفهومه الطبيعي ملعوب به، لا بل إن المكان هو المستهدف، والذين يقيمون فيه في بعض منهم بيالدق شطرنج، وفي بعض آخر ضحايا، وبعض ثالث متبذبذين انطلاقاً من طبيعة التغيرات، والقوى التي تسمّي المكان، أو تحاول وضع إحداثيات جديدة له، بتوجهها السياسي، ومن ناحية ثانية، فإن المكان نفسه، لا يتوقف عن إظهار الخفي فيه، من خلال إيقاظ قوى جديدة، على أصعدة مختلفة، قوى حياة لها أكثر من توجه، أو أكثر من لون وصبغة بالمقابل، وتلك من تداعيات الأزمات الكبرى، والحرب في الواجهة هنا.

إن الإشارة إلى الجاري وما يمكن أن يترتب عليه خراباً ودماراً، قتلاً وسلباً ونهباً وصدامات، تقرّب صورة كالحة، لا بل مخيفة للمستقبل نفسه، حيث إنه على قدْر استفحال العنف، يكون المستقبل مرسوماً أو مسمى في ضوئه .

وأن تخصص فقرة باسم " الخال نعسو " ويكون كاميران المعطوب هو حامل السرد، ففي ذلك ما يضيء جانباً من عالم الرواية وهي رواية الخراب، المؤاساة بمجهول ما، لأن في شخص نعسو الذي كان مأهولاً بالحياة، وما فيها من فرح وكذلك انفتاح على الآخرين، وحميمية علاقاته الاجتماعية، ما يعمق جانب الشخصية المجتمعية في كاميران بالذات، ولأن خانة العائلة أكثر من كونها من مجرد خانة، وقد تنمذجت، لهذا، فإن في نعسو، ما يريد الروائي إبرازه، ودون ذلك سيكون هناك فراغ سلبي، فجوة في الجسد الروائي يصعب إيجاد تبرير لها :

( كان الخال نعسو رجلاً طيباً حنوناً ومرحاً لم تفارقه البسمة ولا لحظة واحدة. حتى في أحلك لحظات القصف كان يشيع بيننا جواً من الفرح يخفف عنا الخوف والقلق.

ففي إحدى المرات حين حامت فوقنا الطائرات وصارت تصدر أصواتاً مرعبة، رفع لها أصبعه الوسطى وقال:

-عربدي ما شئت أيتها الشراميط. مصيركن السقوط على أير كاميران.

خجلت حين سمعته يقول ذلك وطأطأت رأسي. نظر إليَّ الخال نعسو وضحك، ثم داعبني وهو يقول:

-لا تخجل يا بني. الحرب مِمْحاةُ الخجل.

ابتسمت حين تصورت دبابة تتقدم وراءنا على شكل ممحاة عملاقة وتقتلع أشجار الزيتون المزروعة في صفوف منتظمة على جانبي الممر الآمن كأنها سطور رسالة من رسائل أبي التي كنت أكتبها بخط بيدي.ص31

وخاطب كاميران وهو يحاول الرسم:

-ارسم الخراء يا إبني. هذه هي حقيقة الحرب في بلادنا. ارسم كومة خراء كبيرة يحوم فوقها الذباب الأخضر. الخراء وحده يمكن أن يعبر عن هذه الحرب أخت الشرموطة. الطيارة الحربية الثرثارة تفصيل جانبي. الدبابة العاهرة تفصيل جانبي آخر.ص31) .

يظهر المخبوء إلى السطح، وجرّاء ضغط الجاري، يمكن للسان أن يفصح عن رغبات مكبوتة، وبذلك تكون الرواية بلسان ساردها هنا وهناك، قد أحسنت صنعاً، جهة تسمية كوامن في القاع، كما في العبارات المتضمنة للشتائم، أو ما يصدم الآخرين، وما في ذلك من تنبيه إلى أن ما هو كائن ليس كما كان، كما لو " خرْينة " الواقع، إن جاز التعبير، ليس إلا من تهاوي المأمول، وتلاشي القيم التي ترفع من شأن الإنسان هنا، وتشده إلى قيم مثلى بالتالي.

ثمة استبدال لعلاقات ربطت بين الناس، بعلاقات ليست علاقات فعلية، فهي متقطعة، في ضوء التبلبل المكاني .

إنه انتقام من التاريخ نفسه، وإشهار بما ينبغي قوله، جهة تقويم الجاري، وما سيئول إليه انتكاسياً وانحطاط قيم .

وإذا كان هناك من كلمة تستحق النظر في الجانب الاعتباري لها، وكيف تؤدي مهامها رمزياً، فهي السياسة، وتحديداً في المجتمعات المحكومة بعلاقات أقل ما يمكن قوله، هو أنها تعيش ميتات شتى دون أن تعلَم بذلك، أو تعلَم بذلك، وليس من سبيل للتصريح بها، أو تعلم بذلك لأن عليها أن تعلم بذلك، تأكيداً على وجود قوى لها مصلحة في ذلك. إن تعريف: الإنسان حيوان، له دلالته المعتبَرة في وضع كهذا !

ثمة سياسة تعتمد فن الدجل، المراوغة، المكر، الخداع، مديح القطيعية والمواظبة عليها، وبهذا يأتي التالي:

(عشنا في بيت الخال نعسو حوالي أسبوع. كان يمازحنا كل ليلة حتى أنه قال ذات مرة موجهاً كلامه إلى خالي علي وهو يبتسم:

-تركتم شرَّان وهربتم! تركتموها للضباع ينهبونها وجئتم لتعيشوا نازحين في عفرين؟ يا للعار يا للعار.

لم ترد أمي الغارقة في صمتها. لكن خالي علي الذي عرف أن الكلام موجه له احتد قليلاً ثم قال:

-يا خال نعسان نحن هربنا لأننا مدنيون. أما الرفاق فقد دافعوا حتى استشهد الكثيرون منهم. هل أعُدُّهُم لك؟

-أنا أمزح يا علي. لا أريد أن تعُدَّ الشهداء. أنا أعرف أكثر منك ما الذي يجري. أعرف أن عفرين بيعت للأتراك من قبل الروس والأمريكان. قايضوها بالغوطة. الحرب الآن في سوريا بازار كبير. وأنا أعرف أن دماء شهدائنا أرخص أنواع البضائع في بازارات السياسة. ولم أقل ما قلته إلا من قهري وغضبي. صدقني. صدقني يا ابن أختي. إنني أغلي من الداخل مثل مرجلٍ لا تهدأ النار تحته.ص32

-أنظر يا خالي. كل الأشجار على وشك السقوط؟

رد خالي دون أن ينظر إلى الجهة التي أشرت إليها:

ألا تعلم يا كاميران أن الزيتون شجرٌ حنونٌ؟ نعم إنه حنون جداً وإن فقد صاحبه فسينتحر بلا شك. أشجار الزيتون تنتحر الآن يا كامو.

تركت خالي وتقدمت بضع خطوات صوب جثة الخال نعسو الممدة بعيداً.

-سيقنصونك يا حمار. إصعد. لا يمكنك الاقتراب. إصعد.

هل كانوا سيقنصوننا فعلاً لو عدنا إلى الوراء لنأخذ الجثة؟ لا أدري.

العودة إلى الوراء كانت تعني أمراً واحداً فقط: العودة إلى عفرين.

والعودة إلى عفرين باتت "مستحيلاً يرسم القناص إطارَه بطلقاته". قال خالي بعبارة مبهمة ثم شرح قائلاً:

-أقصد أن القناص يعزف لحن الغدر بأوتار بندقيته.

زاد خالي من غموض عبارته. فسألته مستفسراً بلجاجة:

-ومن هو هذا القناص يا خال؟

-القناص هو غموضُ الموت في وضح الحرب.ص33 ).

نقد للذات ومن الذات إلى الآخرين، والوقوف بالمرصاد في وجوه القوى التي تتصارع أو تتفاعل مع بيعضها بعضاً، أو تمارس أدواراً مشتركة، من ناحية المستهدف في الصميم، حيث يتنوع مفهوم العدو هنا: العدو الخارجي، فالداخلي، ونوعية العلاقات الدائرة بينهما، رغم الحدود الفاصلة، سوى أن سيرورة الأحداث تقول شيئاً آخر .

وأحسب أن الروائي يدير اللعبة بين القوى من خلال قراءة سياسية تتخلل تعابير وصفية، وكذلك تقويمية، وشعرية، كما في النماذج المقدمة، وما في ذلك من إيقاظ مختلف قوى النفس، ومن توسيع رقعة الحدث لمعرفة المزيد عن حقيقته .

يصعد الروائي بأحداثه التي تتاخم ما هو قائم،ولكي يتنبه شعور القارىء إلى خطورة الجاري أيضاً.

ولا بد من الإشارة هنا إلى مدى التحام الروائي مع أحداثه، يعيشها دون أن يتقمصها، على وقْع نسْجه لمشاهدها.

في حوار له منشور في حوار صحيفة العرب معه بتاريخ " 4-10/ 2020 " هناك جواب على سؤال ذي طبيعة مكانية، لكن السقف الزمني معلوم هنا:

( بين روايتك “كوباني” و”الفاجعة والربع” و”ممر آمن” كيمياء كثيرة فجرت نبضاً متسارعاً من الخوف والموت والتهجير يعصف بالشخصيات والأماكن والتاريخ، هل نجحت في تضمينهما قضيتك السياسية والهوياتية؟)

ويأتي جوابه هكذا:

(:لكل رواية من الروايتين ظرفها الخاص، “كوباني” كانت وجعي الذاتي اللصيق بروحي. وأكرر هذا دائماً حين غزت فصائل داعش مدينتي التي ولدت وترعرعت فيها شعرت بأن سهماً من نار اخترق روحي. لم أفكر وأنا أكتب “كوباني” بقضية الهوية. لكنها هيمنت على الكثير من فصول الرواية. إذ لا يمكنني الكتابة بعيداً عن هذا الهم.

من جهة أخرى حاولت إلقاء الضوء على معاناة الإنسان العادي في الحروب. تحدثت عن عائلة كردية من كوباني وكيف أن الحرب فرقت شمل هذه العائلة التي ترمز إلى الكثير من العائلات السورية. في رواياتي أنحاز للإنسان وأدين الحرب ومن يشعل نيرانها. وهذا تجلى في رواية ممر آمن التي تحدثت فيها عن الغزو التركي لعفرين واحتلالها فيما بعد.

: استخدمت الطبشورة رمزاً سردياً. الطبشورة أداة تدوين. تدوين سردية ما، قصة، حلم، معلومة وأي شيء آخر. والمفارقة أن بطل القصة الفتى كاميران الذي يسرق طبشورة من مدرسته ليحتفظ بها ثم يسرد لها ما جرى له في الحرب يتماهى مع طبشورته ليفنى بعدها في مياه السيل. الفناء هو النتيجة الحتمية. المادة تفنى والروح خالدة. الطباشير تفنى ولا يبقى سوى ما تم تدوينه هنا أو هناك.).

وهذا ما يزداد وضوحاً في السؤال التالي:

( في "ممر آمن"، ألم تكن مغامرة محفوفة بالمخاطر تلك التي خضتها بإعطاء الطفل “كاميران” سلطة السرد من قلب الحرب في جل وقائع الرواية؟)
ويكون جوابه هكذا:

(:بلى. كانت مغامرة وكان علي أن أتقمص لغة هذا الفتى المراهق وأحلامه ومعاناته. يقول محمود درويش: يولد الأطفال في الحرب رجالاً. وهذا ما ظهر في الرواية. كاميران لا ينسى أن يكرر على مسامعنا أننا نحن الكبار نعتقد أن الأطفال لا يفهمون شيئاً بينما هم يفهمون أكثر منا. نحن نستهين بقدرات الأطفال ومستوى وعيهم وفهمهم للأحداث لكنهم أكثر حساسية منا. إنهم الأصدق في الحديث عن أي معاناة لذلك اخترته ليتولى مهمة السرد. أما هل أنني قسوت على الطفل؟ فأعتقد أن الحرب هي التي قست على أطفال بلادي ورمت بهم في معمعانها وأتونها الملتهب وجعلتهم يكبرون قبل الأوان. أنا قمت فقط بتصوير قسوة الحرب وتأثيرها المدمر على طفل مثل كاميران. بتعبير آخر لا ذنب للكاميرا التي تلتقط مشهداً قاسياً، وروايتي قامت بمهمة الكاميرا.).

دوست متعدد الرؤى، متعدد الجهات، متعدد اللغات، متعدد الرغبات، ومتعدد الهيئات في مغامرته الكتابية هذه. إنه هو نفسه في تعددية أدواره التي يعيشها لحظة الإقبال على كتابة الرواية، يكون رحالة المكان، ابن المكان وأباه وأمه، أهله وغرباءه...إلخ، وما في هذا اللتجسيد المركَّب من معايشة مخاضات تترى، من الدفع برغبات في تنوع مقاماتها، وفي وضع عسير كهذا .

على أرض الواقع، كل رواية تكتَب، تشكل جنحة، بأكثر من معنى، لأن هذه الجنحة هي التي تفتح ثغرة في الآتي، أو تسمي المسكوت عنه، والعصي على التصريح به، لوجود ذاكرة رقابية متوعدة وعقابية في الوقت نفسه، وما أشيرَ إليه جهة الموقف، وجهة تسفيه الجاري، وما يمكن النظر فيه، " لاءات " ساخطة، لـ" نعم " ذات طابع قطيعي غالباً .

وبالصورة هذه، تكون الروايات أجنة متغايرة بمقوماتها الحيوية، وإن كان" الرحم: المتخيل " واحداً هنا، دون ذلك نفتقد الحس المكاني والزماني الذي يمنح هذه الرواية أوتلك صفة التمايز.

ذلك ما يذكّر بقول لدوست في حوار له في صحيفة " العربي، 5 -9/ 2020 " وهو ذو صلة مباشرة بما تقدم:

(أحاول من خلال لعبتي هذه أن أقول إن الحياة برمتها تقاطع حيوات.. تقاطعٌ تلعب الصدفة دوراً مركزياً في نسج خطوطه وبناء شبكة معقدة من العلاقات والمصائر والوقائع التي يستهويني الجمع بينها في صدف أو أقدار.) .

ولعل " ممر آمن " وهي بدسامة أحداثها تشي بالكثير مما نوّه إليه، وما ينتظر الإفصاح عن المخبَّأ عند المساءلة .

في متابعة متعددة الدلالات يطرَح السؤال عن حقيقة " ممر آمن " وبأي اعتبار مكاني كذلك؟ نقرأ:

( -ما معنى ممر آمن؟

لا أدري أي شيطان أوحى لأخي آلان أن يطرح علي هذا السؤال خلال توقفنا بجانب حقل زيتون آخر للنوم..

دون أن أفكر طويلاً قلت له:

-هل تتذكر الرجل العجوز ذا الشماغ الأحمر الذي مات ابنه هنا في هذه المقطورة؟

-نعم.

-هل تتذكر الخال نعسو الذي أرْدَتْه طلقة قناص مجهول؟

-نعم.

-هل تتذكر الخراء الذي كنت تدوسه عدة مرات في اليوم حين نمنا في المقطورة ليلتين نحتمي بلحاف من النايلون؟

-نعم؟

-هل تتذكر الأمطار الغزيرة التي جرفت خراءك؟ هل تتذكر الطائرات الحربية التي لم ينقطع حضورها عن السماء المستباحة؟ هل تتذكر حقول الزيتون التي تركناها في الطريق؟ هل تتذكر بكاء النساء وهن يصعدن الحافلات؟ بكاء الأطفال؟ هل رأيت النازحين يخوضون في الوحول ويحتمون من المطر بأشجار الزيتون التي على قارعة الطريق من عفرين إلى هنا؟ هل..

-نعم نعم نعم. أنا لست صغيراً يا كامو. أتذكر كل شيء. مثلك تماماً. ثم لم تمض على هذه الأحداث سوى ساعات قليلة لا تتيح لي نسيانها. أجبني الآن على سؤالي: ما هو الممر الآمن؟

رد أخي آلان وقد نفد صبره. فقلت بهدوء:

الممر الآمن يا أخي آلان هو كل ما ذكرته لك وما لم أذكره أيضاً من فجائع. الممر الآمن يعني كل شيء إلا أنه آمن فعلاً. يا آلان هذه المقطورة لوحدها شهدت فاجعتين تمثلتا بمقتل الخال نعسو قنصاً وموت ذلك الشاب الذي لم ينقطع أنينه متأثراً بجراحه. تصور إذاْ آلاف الجرارات وحافلات النقل وسيارات الأجرة. آلاف من القصص ربما أفظع من القصص التي رأيناها في مقطورة جرار الخال نعسو. هل ترى هؤلاء الناس الحيارى؟ هل ترى أفراد عائلة الخال نعسو النائمين غير عالمين بما جرى؟ هل ترى هذه السيارات المترادفة؟ كل رجل أو امرأة فيها قصة بحالها. كل سيارة تخفي فجائع وقصص أليمة بعدد من فيها. الممر الآمن هو الخوف من ألا تصل. هو ألا تعرف أصلاً إلى أين أنت ذاهب. ص34 ).

شيء من شيء دون أن يكون شيئاً! هوذاك المعتبَر في " ممر آمن "، حيث الانقذاف في المجهول والمخيف !

ليأتي الحديث السردي عن تلك العجوز إنما الذاكرة المكانية والعفرينية والنشطة " زلّوخ " شاهد إثبات على ما آلت إليه الأمور،وفي مثل هذا الانهيار المصاحب لعصف الواقع المأكول:

(لن يصدق أحد، حتى أنت يا طبشورتي الصفراء الحبيبة، ما سأرويه الآن عن هذه العجوز من قرية من قرى بعدينا الواقعة في الجنوب الشرقي من راجو.

عايشتْ هذه العجوز، حسب ما روى لنا الذين رافقوها، احتلال راجو وبعدينا وقراهما في الثالث من آذار.

كانت زَلُّوخْ أرملة بسيطة لها بيت حجري واطئ في سفح جبل بِلِنْكْ وحوالي مئة شجرة زيتون تشكل حقلاً صغيراً تعتاش منه. عاشت وحيدة في ذلك البيت بعد أن هاجر أبناؤها إلى أوربا ولم يبق لها من يعينها سوى أرملة شابة قتل زوجها المقاتل من وحدات الشعب في الرقة خلال المواجهات مع داعش.ص35

مسلحان طلبا منها الخروج من القرية

- استعجلي وإلا أخرجناك من الحقل بالقوة. ليس لدينا وقت نضيعه معك هنا.

استعجلاني على موتي. على ترك جوهرة روحي والرحيل عنها. قطفت بضع حبات أخرى. ووقفت أبكي تحت شجيرة زيتون كانت ذكرى من زوجي المرحوم.ص36

جلست العمة زلوخ صامتة حزينة في مؤخرة مقطورة الجرار الزراعي بعد أن سردت قصتها وقصة الاستيلاء على حقلها الصغير.

صرت أنظر إليها مشفقاً بين الحين والآخر. كان الجرار يسير ببطء شديد بسبب كثافة قافلة النازحين. رذاذ المطر لم يتوقف. لم يتوقف أيضاً صوت محرك الجرار الذي كان يسير على مهل في الدرب الترابية الضيقة.

توقف الجرار بعد أن سار بضع مئات من الأمتار.

فجأة لاحظت، حين حانت مني التفاتة إلى الخلف، شيئاً غريباً.

كان جلدُ العمة زلوخ يخضرُّ شيئاً فشيئاً. نظرت إلى وجهها المتجعد فرأيته أصبح أخضر تماماً. ثم ما لبثت أن اخْضَرَّت يداها. ثم ثيابُها ثم عيناها الدامعتان.

كانت دموعُها أيضاً خضراءَ مثل حبتي زيتون ناعمتين جداً.

خفتُ.

نقلت هواجسي لخالي.

فقهقه قليلاً ثم قال لي:

-انظر إلى السماء.

يا للهول! كانت السماء خضراء وكأنها ملعب كرة قدم.

في هذه الأثناء شاهدنا العمة زلوخ تحاول النزول من مقطورة الجرار الممتلئة. رأيناها تنتفخ مثل بالون كبير. لقد شاهدتها بأم عيني تتحول إلى كتلة بيضوية تشبه حبة زيتون عملاقة.

تحولت العجوز زلوخ القادمة من قرية بَعْدينا إلى حبة زيتون كبيرة. تحولت إلى حبة خضراء داكنة سرعان ما تدحرجت على الأرض مثل كرة قدم أمريكية ضخمة بعد أن سقطت من مقطورة الجرار الزراعي وسط ذهول الجميع ورعبهم.ص37 ).

في اللحظة التي يتوقف فيها الواقع عن أن يكون واقعاً، ما على الرمزي، أو غير المتوقع والصادم أن يملأ الفراغ، أن يكون في " سدة حكم " المشاهد التي تتشكل بالنيابة عما يجري ويتسلسل انحطاطياً . زلوخ صورة حية تتعدى فرديتها عن المكان، وهي صرخة مسموعة ولها صداها، رغم الصمت الصادم، حيت تنتهي بهيئة الزيتون تعبيراً عن تشبث بالمكان، لعلها بالطريقة هذه صورة ما لـ" أم سعد " بدعة غسان كنفاني، لعلها أي وعي دون تحديد تجنيسه يخلص للمكان، ويستمر في العلاقة معه، من خلال هذا التحول المتسامي، وليس كحال كاميران، حيث الموقع له اعتباره هو الآخر .

هكذا الحال مع " فريال الإيزيدية " التي يعطى لها مقام هي الأخرى، من باب الضرورة الروائية:

(كانت فريال فتاة إيزيدية من قرية قَسْطَلْ جِنْدو. عرفت ذلك حين حاولت النوم في مقطورة الجرار الذي قاده خالي بعد مقتل الخال نعسو. كانت تسرد محنتها لامرأتين عجوزين تدثرت كل واحدة منهما ببطانية تركية ثخينة.

-منذ أن سيطر الجيش الحر قبل ست سنوات على بلدة إعزاز سيطر الخوف علينا في قسطل جندو وغيرها. كنت حديثة التخرج من كلية الحقوق في حلب.

قالت فريال فردت عليها إحدى العجوزين وهي تتثاءب:

-وهل بقيتم في القرية يا بنتي؟

-سأكمل لك القصة يا خالة. صرنا نخاف أن نكون هدفاً تالياً للفصائل المسلحة. فقد جاءت بعض عناصرها إلى القرية وقالوا لنا أنتم كفار ويجب أن تصبحوا مسلمين. لكنهم تركونا بعد ذلك فلم ننزح من قريتنا. حمل الرجال والشباب السلاح بعد ذلك لصد أي هجوم على القرية. ثم تشكلت قوات حماية الشعب. فلم ننزح وبقينا في بيوتنا.

-الحمد لله. أحسنتم بالبقاء في قريتكم.

-لكن داعش دخل إعزاز.

-لعنة الله على داعش. لعنة الله على داعش. خربت بيوت العالم.

"خطيبي قاتل داعش واستشهد على جبهة يازي باغ قرب الحدود التركية. حزنت عليه كثيراً. كنا قد خططنا على أن نتزوج في رأس السنة أي قبل شهر من استشهاده. المهم استشهد مثل المئات غيره وتم دفنه مع كوكبة من الشهداء في مقبرة الشهيد رفيق في قرية مَتينا. هربنا بعد استشهاده إلى قرية قَطْمة. بقينا هناك حتى خرج داعش من إعزاز. لكن الأمور لم تتحسن بشكل نهائي. عشنا الخوف اليومي. ننام عليه ونصحو عليه. في ظل هذا الخوف اليومي تزوجتُ وليتني لم أتزوج. قبل الاجتياح بيومين ذهب زوجي إلى راجو لاستخلاص ديون له. رجوتُه ألا يذهب. قلت له الدنيا حرب والذئاب تكشر عن أنيابها وتلوح بغصن الزيتون. لم يسمع كلامي. ومنذ بدء الاجتياح لم نعد نسمع عنه أي شيء. هل اعتقلوه؟ هل قتلوه؟ هل هرب إلى مكان آخر؟ لا أعرف شيئاً. المهم أننا هربنا مرة أخرى إلى قطمة. بعد هروبنا بيومين احتلوا قسطل جندو. ثم لاحقتنا القذائف إلى قطمة أيضاً فلم نحمل معنا سوى بعض الثياب والبطانيات وهربنا إلى أقربائنا في قيبار شمال عفرين. ومن عفرين تعرفين يا أختي بقية القصة".ص38 ).

يحدث ذلك بجسدها المنجرح، بذاكرتها الملتهبة، بوعيها المصدوم بما،تشدد على مأساة يصعب وصفها .

وهكذا الحال في فقرة "دراجتي الخضراء "، حيث يكون الكابوس، وهو تعرية لواقع معاش ومدشن بعنف رهيب، كابوس يخص كاميران، إنما يتجاوزه، لأن ليس من استثناء مكاني، تكون الحياة فيه مستقرة:

(رؤية نوم كابوسي حيث صادف عسكرياً وقد صفعه

فتحت عيني فإذا بي لا أزال في المقطورة. لم يكن ما رأيته سوى حلم كابوسي إذن. كابوس مثل باقي الكوابيس التي أراها في الليل. كانت فريال تمشي في المقطورة بينما كانت عائلة الخال نعسو والعجوزان لا يزالون يغطون في نوم عميق. كانت أمي أيضاً نائمة. مددت يدي من تحت سروال الجينز إلى ما بين فخذي. وجدت سروالي الداخلي مبتلاً تماماً. اطمأننت إلى أن الكلَّ غارقون في النوم لكنني لم أشأ أن أنهض من مكاني. كانت فريال ستكتشفني. آلان الصعلوك أيضاً. وحتى خالي سيكتشفني لو دعاني إليه. ماذا أفعل. سري الذي أخفيه منذ سنوات سيكشفه هذا الكابوس اللعين في هذه المقطورة المشؤومة. ص39

تبلل سروالي كله واختلطت آثار البول اللعين بآثار الماء الذي سكبته على نفسي. نجحت الخطة إذاً.

-أنيك الممر الآمن.ص40

-ألا تريد أن تعزف يا خال؟

-لقد عزفت فريال أحلى مقطوعة. لقد أنجبت بنتاً وليس هناك كائنات أجملَ من البنات. صحيح أنني لم أتزوج، لكن أمي كانت تشتهي دائماً أن تلد بنتاً أخرى حتى صرنا نتمنى ذلك مثلها.ص43

كان خالي مستنداً بجذعه إلى جذع تلك الزيتونة الهرمة وينظر في هاتفه النقال. ذهبت إليه وجلست بجانبه وصرت أنظر معه إلى الشاشة الصغيرة.

كانت إحدى القنوات تعرض تقريراً مفصلاً عن النهب الذي تقوم به الفصائل المسلحة لقرى وبلدات عفرين بعد غزوها واحتلالها. رأيت في أحد المشاهد، والذي استمر حوالي نصف دقيقة فقط، دراجتي الخضراء في حضن مقاتل من لواء الحَمْزات التابع للجيش السوري الحر يرتدي بدلة عسكرية مبرقعة وتغطي وجهَه لحيةٌ سوداء. كان ينظر إلى الكاميرا وهو يبتسم ممسكاً بالمقود ثم يرفع أصبعي اليد اليمنى بإشارة النصر ويهتف:

-غنائم غنائم. غنائم الملاحدة الأكراد. الحمد لله الذي مَنَّ علينا بالنصر عليهم.ص44

-نعم يا كامو. صحيح ما تقوله. كل السوريين انتصروا. والسوريون كلهم انهزموا أيضاً يا ابن أختي. لم يبق فريقٌ منتصرٌ لم يتعرض للهزيمة. لم تبق فصيلة لم تنهزم. لم تبق طائفة لم تنتصر. هذه معادلة لم يعرفها المتقاتلون في بلدنا ولا يعرفونها إلى الآن. فالذي انتصر، ملأ الأرض قبوراً ومفجوعين وثكالى وأرامل وأيتاماً ومفقودين ومعتقلين. والذي انهزم كذلك. فأي فرق بين الهزيمة والانتصار في هذه الحروب إن كانت النتيجة واحدة عند المنتصر والمهزوم؟ص44

إستغربت ظهور الرجل المسلح في الفيديو ودراجتي الخضراء في حضنه. كان هو نفسه الذي رأيته في منامي. شيء عجيب. كيف يحصل ذلك. لا أعرف. لكنني أعرف تماماً أن ذلك الرجل ذا البدلة المبرقعة واللحية السوداء، أقصد اللص الذي كان يبتسم للكاميرا وهو يمسك بمقود دراجتي، كان مسروراً لأنه سيأخذها ربما لإبنه الذي ينتظره في بلدة سورية ما. ربما هي إعزاز جارة شَرَّان، أو حلب. ربما هو أحد جيراننا في منبج! بل ربما أن ابنه نازح مثلي يسكن خيمة ما في مخيم لاجئين بإدلب. مخيم الكرامة مثلاً. آه كم تثير الضحك أسماء مخيماتنا. مخيم الكرامة، مخيم المقاومة، مخيم البطيخ المبسمر. صحيح أنني لا أعرف أين تقع بلدة ذلك المقاتل الذي سرق دراجتي، لكنني على يقين أن ابنه ينتظر عودة أبيه من الحرب سالماً مثلما أنتظر أنا الآن أن تعود إليَّ دراجتي ويعود إليَّ كذلك أبي الطبيبُ الجراح فرهاد. ص45 ).

وهكذا تكون حصيلة " ممر آمن " وما هو جار على الأرض، في " تحت خيمة بيضاء " في مشهديات اللجوء والنزوح والتهجير القسري طبعاً، وانتظار ميتات دون حساب:

(الناس هنا، في مخيم المقاومة العجيب هذا، محتارون في أمرهم. كأنهم قاموا من قبورهم وتسوقهم الملائكة إلى ساحة الحشر. لقد هربوا بعشرات الألوف من عفرين وقراها ونواحيها خوفاً من بطش الجيش التركي والمرتزقة الذين يرافقونه. لم يرحم هؤلاء أحداً. قصفُ المدافع والطائرات من جهة وهجوم فصائل المرتزقة المدعومة من الجيش التركي على القرى والبلدات الخالية ونهبها من جهة أخرى حوَّل مناطق عفرين إلى جحيم لا تقدر حتى الجن والشياطين على البقاء فيه.

كل ذلك لم يكن غريباً أبداً.

الغريب ما كان يجري في ذلك المخيم الملئ بالخراء الأبيض، أقصد الخيام البيضاء ذات الواجهات الزرقاء، كنا نسمع عبر مكبرات الصوت نداءات متكررة تخوِّنُ كلَّ من يريد العودة إلى عفرين:

خائن من يذهب للعيش تحت ظل أردوغان. خائن من يريد أن يقضي حياته في ظل علم جيش الاحتلال التركي. خائن.. خائن.. خائن. لن نعود إلا إلى عفرين الحرة. لن نعود إلا مرفوعي الرأس. ص47

كثير من الخيام المنصوبة على عجل كانت صامتة. أقصد أن أهلها كانوا صامتين. كنت أمر بها كأنني أمر على قبور. لكن بعضاً منها كان يضج بالجلبة: أولاد يلعبون ويتصايحون ونساء يثرثرن ورجال يتحدثون بصوت مرتفع. سمعت أحاديث كثيرة وقصصاً مرعبة عن النزوج وأهواله. حمدت ربي أنه يسر لنا جرار الخال نعسو فلم نشعر بكثير من التعب مثلما شعر به أولئك المساكين الذي وصلوا من عفرين إلى هذا المخيم مشياً على الأقدام على مدى ثلاثة أيام ناموا لياليها في العراء وفي الحقول وبجانب الصخور العملاقة وحتى في الكهوف.ص48

"هل يُعقل أن تصبح عفرين فلسطين الثانية؟ هي يعقل أن نبكي على حقول الزيتون كما بكى الفلسطينيون على بيارات البرتقال والليمون وما زالوا يبكون إلى الآن؟ يقولون إن مسلحي الغوطة سيستوطنون مع عائلاتهم بيوتنا وحقولنا. يقولون إن باصات خضراء انطلقت من بلدات الغوطة متوجهة إلى عفرين وجرابلس. لا أعرف لكنني سمعت في الأخبار أن المسلحين سيخرجون من دوما وعربين وغيرها من بلدات الغوطة التي اشتراها الروس لصالح النظام مقابل عفرين التي اشترتها تركيا لصالح هؤلاء المقاتلين. بازار. والله بازار لم يحصل مثله حتى في مقاهي نُبُّلْ. يا ناس يا عالم هل نحن الذين ذهبنا لندمر الغوطة ونجوع أهلها؟ هل هذا عدل؟ هل الله يقول هذا في كتبه المتعددة؟ كيف يسكنون بيتي وأنا أتضور جوعاً في هذه الخيمة؟ كيف لا يسمحون لي بالوصول إلى أبنائي في حلب ويتركونني أسير هذا المخيم الحقير؟ حقلي راح، ومعصرتي نهبت بلا شك، وبيتي صار ملكاً للغرباء. هل تقبل بهذا يا الله؟". ص49

في ذلك اليوم تفقدتُ طبشورتي الصفراء فلم أجدها. تذكرت الأماكن التي تجولت فيها في المخيم. وتتبعتها في كل مكان يُحتمل أن أجدها فيه. بحثت عنها في كل ركن من أركان الخيمة عبثاً. لقد اشتقت إليها. كانت رفيقتي خلال رحلة النزوح. وكنت أحكي لها كل شيء. كنت أصف لها الناس، الطرقات، حقول الزيتون، الخضرة الرائعة التي مررنا بها من عفرين حتى عين دارة، الأمور الحزينة والبهيجة على حد سواء. جئت بها معي إلى المخيم لتكون رفيقتي التي أسرد لها أحزاني وأفراحي، فجائع النزوح ومباهج مغامراتي في قرية شران. أردت أن أحكي لها كيف أنني رأيت رجلاً يموت من القهر. بحثت عنها كثيراً فلم أجدها. ترى أين اختفت؟ أردت أن أتحدث إليها عما جرى لنا منذ وصولنا إلى هذا المخيم وأكتب بها عبارة ترن في بالي مثل جرس المدرسة الكهربائي. أردت أن أكتب على خيمتنا من الخارج: "أنيك هذه الخيمة". بل لو وجدت طبشورتي لكتبت في مدخل المخيم: "أنيك المخيم".ص50 ).

وما يرتد إلى الواقع، إلى الوراء، أو إلى هذه الجهة أو تلك، بصدد السخرية الممثلة في عملية " غصن الزيتون " والفقرة تتعنون بالتركية " Zeytin dalı[1] " لتعزيز السلبي وسبر العائم فيه " أي القول الشعاراتي ":

( لقد تعودتُ على أن تتركني في فراشي منذ أول يوم اكتشفت فيه أنني مصاب بسلس البول الليلي. كانت تعلم أن الموضوع محرج فتركتني على راحتي. أصبحت تظهر نفسها على أنها مشغولة بأعمالها المنزلية بينما أتحين أنا الفرصة لإلقاء حفاضتي اللعينة في حاوية القمامة والاهتمام بفراشي وتبديل أغطيته. صار بيننا اتفاق غير مكتوب التزم كلانا به بصمت وتواطؤ جميل.ص52

في بداية إقامتنا في المخيم ظننتها طفلة شقية أثرت الحرب عليها فأصبحت شرسة. كان عمرها حوالي سبعة أعوام ولم يفارقها غصن الزيتون ولو لحظة واحدة. ولم يكن ذلك الغصن سوى غصن طري بطول ثلاثة أشبار تقريباً. رأيتها مرات عديدة تغرزه في الأرض وتبتعد عنه حوالي مترين ثم تقوم برميه بالحجارة وهي تصيح:

هذا قاتل أبي. هذا مجرم. الغصن قتل أبي. خذ هذا الحجر أيضاً. تفو عليك.

وأحياناً كنا نراها بين الخيام تمسك بالغصن وتضرب به على حجر أو حديدة أو أي قطعة صلبة تصادفها، وحتى على الأرض وتصيح:

-سأقتلك كما قتلت أبي. سأحولك إلى أشلاء.

-كانت تنتابها بين الحين والآخر نوبات صرع خفيفة سرعان ما تفيق منها لتبكي وتختبئ في حضن أمها. لكن نوبة ذلك الصباح لم تكن عادية أبداً.ص52

قالت الخالة فريدة باعتداد كبير ثم توجهت صوب خالي وصارت تسرد:

"يا إبني والله أنا رأيت بعيني عشرات القذائف تنهال على الحي قبل أن تسقط قذيفة وسطنا ونحن في الشارع نستعد للهرب. لا أتذكر عدد الضحايا بالضبط لكن الشارع امتلأ بالجثث وأصبحت الدماء تسيل مثل ساقية. حفيدتي الصغيرة اليتيمة حميدة فقدت عقلها لما رأت أباها غارقاً في دمه. أصبحتْ تركض في كل الاتجاهات وتصرخ. تركتُ إبني وصهري الغارقين في دمائهما وصرت أركض وراء المسكينة حتى أمسكت بها. في تلك اللحظة وصل طاقم طبي من مشفى آفرين لنقل الجرحى وإخلاء الجثث. أركبونا سيارة بيكاب أخذتنا مع الأشلاء والجرحى والقتلى صوب المستشفى. لم تهدأ حميدة حتى حين وصلنا إلى المشفى. تبللنا من زخات المطر ونحن في صندوق البيكاب. أحد الأطباء قال إن حميدة مصابة بانهيار عصبي. كانت تصرخ وتولول وتهذي حتى ضربوها إبرة فهدأت ونامت. ماذا فعلنا حتى حلَّت بنا كل هذه المصائب؟ ما ذنبنا في كل ما يحصل؟ لم نكن نعرف من الدنيا سوى جني الزيتون. نعتني بالأشجار الخضراء، ننتظر الموسم لنقطف حبات الزيتون ونرسلها للمعصرة. نخزن من الزيت مؤونتنا لعام كامل ونبيع ما تبقى. هكذا كنا نعيش بأمان حتى هاجمتنا الذئاب. ليتني مِتُّ في قريتي ودفنت تحت شجرة زيتون في ترابها ولم أخرج منها إلى ذل النزوح والعيش كالقرباط في الخيام".ص54 ).

ويكون المتعلق بأم كاميران في فقرة " الخرساء " تنامي السخط والاحتجاج على الجاري، وتبيان القهر الحاصل:

إنها أمي.

هذه المرأة التي سحقتهْا الحربُ الكاملةُ فأحالتها إلى نصف إنسان. هي المرأة التي أفقدتها الحربُ الثرثارةُ لسانَها وحديثَها العذبَ حتى صارت النساءُ هنا في هذا المخيم لا ينادونها إلا بالخرساء.

الخرساءُ هي أمي التي تخرجت من جامعة حلب، كلية الآداب فرع الأدب الإنجليزي بامتياز. الخرساء هي أمي التي كانت تتقن أربع لغات حديثاً وكتابةً. الخرساء هي أمي ليلى التي كانت تُخْرِسُ الجميعَ بمنطقها القوي حين تبدأ الكلام.

لكنها صارت أشد صمتاً من مقبرة.

لم يُخرسْ أمي هديرُ الطائرات ولا أخرستْها أصواتُ القنابل ومشاهدُ الموت في منبج....

أخرستها شظية برميل متفجر في عيد ميلاد شقيقتي الصغيرة ميسون. شظيةٌ ربما بطول طبشورة شطرت جسد أختي ذات الخمسة أعوام إلى نصفين.ص55

في منبج، أتذكر جيداً، كانت أمي ليلى امرأة لها مهابة ويحترمها الجميع. لأنها كانت قبل كل شيء زوجة الدكتور الجراح فرهاد صاحب مستشفى ابن سينا. ثم إنها كانت الأستاذة ليلى مدرسة اللغة الإنجليزية. حتى داعش بكل جبروته كان يحسب لها ألف حساب. حاول عناصره كثيراً أن يخرجونا من بيتنا فلم يستطيعوا أمام إصرار أمي وتمسكها ببيتها. تحصنتْ فيه، تحصنت برائحة أبي وذكراه ولم يخرجها من البيت إلا جدي الذي أخذها كُرهاً إلى حلب.ص56

كان المسؤول الحزبي قد اطمأن إلى تجمهر العدد الكافي لسماع خطابه فبدأ ينظر في وجوه المحتشدين المنهكة ويسعل في محاولة منه لتجميع بعض الأفكار. ما إن تناثر رذاذ سعاله حتى فاحت رائحة كريهة ساعدتْ نفحةٌ من الهواء على نشرها في أرجاء المخيم.

أصابتني الرائحة الكريهة بالغثيان فقفلتُ راجعاً إلى الخيمة دون أن أسمع خطابه.

تناهى من الخارج أصوات المحتشدين يطلقون شعارات ضخمة ويصفقون مهددين ومتوعدين الجيش التركي.

قال خالي بلهجة منكسرة وهو يمسك بلطف يدَ أخي:

-المصيبة الكبرى هي أن لا تعلم شيئاً عن حجم مصيبتك.ص58 ).

وما يكون نهاية منطقية لما ليس منطقياً، في فقرة " السيل " فالسيل ليس نهراً، إنما ما يشكل تخريباً، وليس نماء أو علامة خير، وحيث إن مخيم اللاجئين شاهد إدانة مباشرة لهذا " الوباء " المنظم والمجتاح للمكان، ونشهد فيه حضوراً للتناقضات، للموت الأشد درالميكية " نهاية كاميران " والحياة الأكثر تعبيراً عما ينبغي استمراره، مع مزيت وهي حامل من كاميران، وهو المرتجى والمؤمل، إن جاز التعبير.

( مع اتساع رقعة الحشود التي جاءت لاستقبال المسؤول الحزبي الكبير وترديد الحناجر المرهَقة شعاراتٍ تطالب بالانتقام من المحتل التركي والعودة إلى عفرين، ازدادت رقعة التكلُّس في جسدي بدءاً من القدمين وصعوداً إلى الساقين فالركبتين فالفخذين والإليتين. وبالرغم من أن التكلس العميق في ذلك النهار الغائم كان بطيئاً جداً إلا أنني شعرت به جيداً وصرت أراقبه لحظة بلحظة وأرى كيف يتمدد على مهل كما يتمدد البياض مثل الدخان في كأس ماء حين تلقى فيه قطعة كلسية. كان جلدي يبيضُّ ويتيبس ولكن بدون ألم، بل حتى أن كل ذلك التحول رافقَتْه متعةٌ فائقة لا يمكنني وصفها ولا مقارنتها بأي شيء إلا بالمتعة التي وهبتني إياها الأرملة مَزْيَتْ أيام إقامتنا في بلدة شّرَّان.ص58

أنا حامل يا كامو. حامل منك وفي شهري الرابع.

فتحت مزيتْ أزرار المعطف المبلل وأرتني بطنها المكور.

ما هذه الليلة يا رب السموات؟ كابوسٌ يليه كابوس. ماذا سيقول خالي لو جاء الآن. كيف سأبرر له وجود مزيت أنا الطبشورة الخرساء؟

-أتوحم على الطباشير يا طبشورتي.

قالت مزيت مبتسمة ثم أضافت:

-اشتريت حبوب الكالسيوم وتناولتها بانتظام. لكنها لم تؤثر على وحامي بالطباشير. أستمتع كثيراً حين أقضم الطبشورة وأسمع صوت تقصفها وطقطقتها بين أضراسي. لكن لسوء حظي حدثت هذه الحرب اللعينة فأغلقت المدارس أبوابها. لولا ذلك لذهبت إلى أي مدرسة لكي أطلب من تلاميذها أن يعطوني ما يتبقى من قطع على حافة السبورة لأتناولها وأقضمها بدل حبوب الكالسيوم الحقيرة.ص60

لم أستطع النوم بعد خروج مزيت. ليس بسبب الأرق بل بسبب تحولي المدهش إلى قطعة طباشير.ص61

بسبب المطر الغزيز كان هناك سيل

رمى خالي اللحاف عن نفسه وركض إلى باب الخيمة ليستطلع الموضوع.

-يا لطيف. يا لطيف. المخيم يطوف.

ثم صاح بنا جميعاً:

-انهضوا. السيل سيداهمنا. ليلى. كامو. آلان. هيا.

وقفت أمي في فراشها حائرة ثم انحنت وصارت تهز آلان الذي كان لا يزال غارقاً في النوم إلى أن أيقظته.

فرك أخي عينيه بيديه المضمدتين ثم استلقى من جديد ليكمل نومه. صاح خالي من جديد:

-المخيم يغرق. لا تنم يا آلان. استيقظ يا كامو. قم لتساعد أخاك وأمك. السيل على وشك أن يغرق المخيم.

حين لم يسمع مني أي رد تقدم نحوي. عرفت أن لحظة الحقيقة قد حانت. بقيت هادئاً. وماذا عساي أن أفعل إن لم أبق هادئاً؟ أنا طبشورة والطباشير لا تنام ولا تستيقظ ولا تهتم بالسيول ولا الحرائق ولا تخاف من أحد.

انحنى خالي فوق سريري وصاح مرتين:

-كامو. كاميران.

ثم رفع اللحاف بعنف.

اتسعت حدقتا خالي حين رآني على تلك الهيئة. بقي ساكتاً لثوانٍ عديدة كأنه فقد النطق ثم صاح بجزع تخالطه الدهشة:

-كاميرااااااااان.

في تلك اللحظة ضرب السيل خيمتنا.... بقيت وحيداً في فراشي. لم أعرف كيف يجب أن أنهض. لم تكن لي قدمان ولا يدان ولا جناحان بطبيعة الحال. كنت مجرد عمود أبيض متمدد بلا حراك أحتاج إلى من يدحرجني أو يدفعني أمامه أو يحملني على كتفه. ص62

-لقد ابتعدت كثيراً عن المخيم وسرت مع السيل دون مقاومة. العودة مستحيلة. والنجاة مستحيلة. الذي ليس مستحيلاً هو الذوبان البطيء في مياه السيل أي الموت فقط. إنها النهاية إذاً.

-النهاية خرافة يا ولدي. ليست هناك نهايات. ألا يقولون " لقد انتهت الحرب الفلانية؟" إنه أمر نسبي، فالحروب لا ولن تنتهي، الموت كذلك. المجازر. شرور بني البشر وهذه الدورة التي ليست لها بداية، أقصد الوجود. أتعتقد أن الوجود سينتهي؟ لا أبداً. لا فناء لا فناء.

-كيف يا أبي؟

-يعني أن الوجود دائرة. كل ما فيه دائري: الزمان والحركة والمكان والمادة. ليست المادة سوى دائرة بدءاً من الذرة وحتى الكون اللامحدود. حلقات ضمنها حلقات. لذلك لا تؤمن بشيء اسمه نهاية ولا بالفناء.

لم أفهم حديث أبي الغامض. كنت أذوب. أفنى. كنت أتلاشى كلياً فكيف يزعم أبي أنه لا فناء؟ ما هو الفناء إن لم يكن ذوبان قطعة طباشير في ماء السيل؟ وتبدد ماء السيل في السهول الممتدة هنا!

إنني أفنى. وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي أعيشها الآن يا أبي. إنها نهايتي. نهاية حكايتي.ص63).

لقد أوردت مقاطع طويلة نسبياً إضاءة لما تقدم، وبغية النظر في بنيانها اللغوي والحواري والجمالي أكثر، كما هو تقديري للنص طبعاً!

ومن المكان إلى المكان، من المكان المستقر بأهله وكائناته، وباسمه، و لغته كذلك، إلى المكان اللامكان بوجوه غزاته، وأفخاخهم، وقتلتهم، وسفلتهم، ورعونتهم، ووأهوائهم، ومفارقات سلوكياتهم ومن يوجهونهم، والذين يستمرون في تسمية ما كان تغطية لسلبية قاتلة فيهم، من يستمرون في نعي ما كان، تجنباً لمساءلة، من يفصح عن إنسانية لا قبَل للمحيطين بها، تعبيراً عما هو شعاراتي بالمقابل، وحيث تتضاج رغبات، وتتصارع، ووسائط تصل ما بين المعلَن عنه، والجاري التكتم عليه، أو المتفعَّل في بنية الأحداث، بين المكانين حيث لا حوار، حيث لا مجال متاحاً لقياس المسافة، جرّاء الفوضى، والموت الذي تم استحداثه بألوانه، وهوان المواقف .

في كل ذلك، وأكثر مما جرَت تسميته، تعِدُ الرواية بما لا يمكنها تسميته مباشرة، لأن ذلك من مهام قرائها، ومن يخرجون الرواية من صمتها، أو لغتها الفنية، إلى فضاء المعاني، حيث أقلها مكانياً، لا يُطمَأنّ إليه!





مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية