لإعادة بناء المدن بشكلٍ أفضل، يلقى مفهوم "مدن الدقائق المحددة" رواجاً واسعاً من بوغوتا إلى برلين، ومن شنغهاي إلى سياتل.

لإعادة بناء المدن بشكلٍ أفضل، يلقى مفهوم "مدن الدقائق المحددة" رواجاً واسعاً من بوغوتا إلى برلين، ومن شنغهاي إلى سياتل. تتيح هذه المدن لساكنيها قضاء تنقلاتهم الأساسية التي تغطي احتياجاتهم كافةً خلال مدة زمنية ثابتة، وذلك لحماية البيئة وتأسيس نمط عيش أكثر استقرار واستدامة.

خاض العقل البشري مغامراتٍ عديدةً في محاولة تصوّر المدينة المثالية، فظهرت نظرياتٌ لا حصر لها تحاول كلٌّ منها الاستجابةَ لتحديات عصرها ومواكبةَ تطوُّراته ورسم حياةٍ مزدهرةٍ للإنسان.

في عصرنا الحاليّ، تتمثّل أبرز التحديات بتغيّر المناخ وظروف الطقس، فيما يمكن اختصار التطوّرات بالدور الحيويّ الذي تلعبه التكنولوجيا في حياتنا. أصبحت هذه الحقائق اليوم أكثرَ تجلياً من أيّ وقتٍ مضى بعد الإنذار الذي وجّهته جائحة كوفيد-19 للكوكب ككلّ، حيث أجبرت الناس على التزام بيوتهم أو مدنهم وقيّدت تنقُّلَهُم، وبالنسبة للبعض، فرضت تغييراتٍ دائمةً على نمط الحياة الاجتماعية وتفاعلاته. وبعد تراجع الخطر، بدأت مدن كثيرة حول العالم تعيد النظر في أنماط إدارتها وتعترف بالحاجة إلى أحياء صغيرةٍ تتيح لسكّانها احتياجاتهم الأساسية.

على هذا الأساس، قامت فكرة مدينة الدقائق المحدّدة، التي تعني تصميم مساحة عيش حضرية ومنظومة نقلٍ تضمنان أن تستغرق أطولُ رحلةٍ عدداً ثابتاً من الدقائق، حيث يمكن للمقيم التنقّل بين مقرّ سكنه وعمله أو دراسته والمرافق الحيوية الأساسية خلال 15 أو 20 دقيقةً مثلاً.

لتحقق المدينة هذا الهدف، يجب أن يحتوي كلٌّ من أحيائها على الاحتياجات الأساسية للمعيشة والعمل، كالمرافق الصحية والمدارس والأسواق ومحلات البقالة وأماكن الترفيه وغيرها.

ظهر هذا المفهوم للمرة الأولى حين صاغ أحد مخطّطي المدن الأمريكية فكرة "الحي الموحّد" في عشرينيات القرن الماضي. وبعد بضعة عقود، حوّلت كوبنهاجن سوقَها الرئيسيّ إلى شارعٍ خاصٍ بالمشاة فقط، لتلقى الفكرة رواجاً واسعاً بين المدن مرتفعة الكثافة السكانية عبر الولايات المتحدة، وتنطلق في الثمانينات حركة "الحياة الحضرية الجديدة".

كانت بلدية العاصمة الفرنسية باريس من أبرز المنضمين حديثاً إلى هذا التوجُّه، حيث وضعت في جدول أعمالها التحوّل إلى واحدةٍ من مدن الدقائق الـ15 بالتعاون مع علماء وباحثين في النُّظُم المعقدة والابتكار. وقد ركّز المشروع على التنقّل النشط، وهو نمط الحركة الذي لا يعتمد على السيارات، بل على الحركة البدنية مثل المشي أو ركوب الدراجة الهوائية. لهذا، بدأت المدينة بمدّ ممراتٍ خاصةٍ للدراجات تغطّي مئات الكيلومترات، ومنع مرور السيارات في الطرق المطلّة على المناظر الطبيعية على ضفّتَي نهر السين، في حين خضعت مناطق أخرى لإعادة التصميم بالكامل لإعطاء الأولوية للمشاة والدرّاجين.

في برشلونة الإسبانية، تم تعديل الفكرة لتلائم المدينة المُصمّمةَ وفق نموذج المربعات السكنية الكبيرة. عند تصويرها من الجو، تبدو برشلونة كمجموعةٍ من المربّعات شبه المتطابقة والمصطفّة بإتقان، والتي يمثِّل كلٌّ منها حياً يتيح لسكانه احتياجاتهم الأساسية.

بين هذه الأحياء، تمتدّ شبكةٌ من الطرق الرئيسية، حيث يستخدم الناس السيارات والحافلات التي يتراجع عددُها يوماً بعد يوم لصالح أنماط التنقّل النشط. أما الخطوة التالية، فهي تحويل ثُلث شوارع المدينة إلى شوارع خضراء بحلول العام 2030، وزيادة المساحات المزروعة، وتلك الترفيهية.

أما في أستراليا، كانت الحكومة أكثرَ تريُّثاً، وربما أكثرَ واقعية، فاختارت أن تكون عاصمتُها سيدني مدينةَ النصف ساعة، وفقَ خطةٍ ستمتدّ لـ40 عاماً، وتهدف إلى تمكين السكان من الوصول إلى 3 مراكز إقليميةٍ مهمةٍ خلال أقلّ من نصف ساعة، سواءٌ أكانوا سيصلونها سيراً أو على متن الدراجة أو إحدى وسائل النقل العام.

وقد حظيت العاصمة بخطة مختلفة نظراً لخصوصيتها، فيما تتطلع السلطات، في ملبورن مثلاً، إلى كسب لقب مدينة الدقائق الـ20 بحلول العام 2050. وخلال هذه المدة، يُفترض أن يستطيع كلُّ مواطن المشي مسافة 800 مترٍ ذهاباً ومثلها إياباً لقضاء احتياجاته اليومية.

لترويج الفكرة، تعمل الحكومة على تثقيف السكان بما يميّز أحياءَهم وتأمين البنى التحتية الآمنة للتنقّل النشط ووسائل النقل وتقديم الدعم للاقتصادات المحلية وتسهيلات الحصول على السكن.

وتعمل مجموعة المدن الـ40 القيادية للعمل المناخيّ على دراساتٍ لتطوير هذا المفهوم، وأطلقت "برنامج الأحياء الخضراء والمزدهرة" الهادف لوضع إجراءاتٍ مناخيةٍ متكاملةٍ على مستوى كلّ حيّ.

قد يبدو هذا المفهوم مناسباً، لكنّه لم يسلم من المنتقدين الذين يرون أنّه قد يعوق الفرص الاقتصادية الكبرى على مستوى المدن والدول، بل وسيؤدي إلى انقساماتٍ مصطنعةٍ ومنافساتٍ تجاريةٍ مزيّفة ليعمّق الهوة الاجتماعية والاقتصادية بين الأحياء المختلفة للمدن التي تبنّته.

علاوةً على ذلك، فقد لا يكون هذا المفهوم ملائماً لأيّ مدينة، فهو يتطلّب كثافةً سكانيةً مرتفعةً وهيكليةً اجتماعيةً معينة، وهذا ما لا تقدِّمه الضواحي، ما يجعله صعب التطبيق في دولةٍ يسكن أغلبُ سكانِها الضواحي متراميةَ الأطراف كالولايات المتحدة. في هذه الحالة، يمكن أن تنضمّ مدن كثيرة إلى الركب شريطةَ أن تُقطع هذه الرحلات عبر السيارة لأنّها ستستغرق وقتاً طويلاً لا محالة عبر أنماط التنقّل النشط.

كما أنّ بعض النقاط الحيوية ستتطلّب بالضرورة أكثرَ من دقائق قصيرة، وخير مثالٍ على هذا الجامعات والمتاحف والمسارح والمواقع السياحية عموماً، حيث أنّ بعض التجارب تستحق عناء المسافات.

على أية حال، فإنّ خبراء وباحثين من حول العالم يعملون لترقية المفهوم ومقاربة تحدياته، فهو نموذجٌ مرغوب ومفيد لمدن كثيرة، ويَعِد بالحدّ من التنقّلات غير الضرورية وخفض الانبعاثات ودعم الشركات الصغيرة وتعزيز الانتماء المجتمعيّ والتأسيس لنمط حياةٍ أكثر راحة وصحة واستدامة.

المصدر: منصة ابتكر


الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).