رامي زين الدين

على غرار أعراض كورونا التي تجعل المريض يفقد حاستي الشم والذوق، تُعاني المفاهيم في الثقافة العربية الحالية من وباء أفقدها أي قيمة ومغزى، حتى باتت مُغتالة في مضمونها ومبتذلة في معناها.

التجارة مثلاً، مهنة عظيمة عرّفت العالم بالحضارات والثقافات واللغات، وعولمت منذ القدم إنجازات البشر ونتاجاتهم المادية والمعنوية ونقلتها وتشاركتها المعمورة جمعاء. هذا الدور لا تزال تمارسه التجارة إلى يومنا هذا.
ورغم تسييسها وإخضاعها لرغبات الهيمنة والسيطرة، لكنها وقعت ضحية اغتيال المفاهيم، إذ تحولت في التصورات الشعبية إلى مُرادف للاحتيال والطمع والجشع، حتى أن أحدهم إذا ما أراد وصف آخر بأنه عديم القيم، نعته بـ”التاجر”، أي بمعنى، الميكيافيلي الذي يبيع قيمه ومبادئه.

وللسياسة أيضاً، نصيبها في هذه الفوضى، والتي إذا ما رجعنا إلى معناها في لسان العرب لابن منظور، لوجدناه، بمعنى السَّوس، أي الرياسة، وإذا راسوه قِيل سوسوه وأساسوه، وساس الأمر سياسة، قام به، أي السياسة هي القيام بالأمر بما يُصلحه، والأمر هنا، أمر الناس، أي الحكم والدولة. وفي أصلها اللاتيني تعني السياسة الدولة والمدنية، من المنظور الحضاري، أي الانتقال من المجتمع الطبيعي (الفوضوي) إلى المجتمع المنظم في إدارة علاقاته ومصالحه.

ولعل من الإجحاف تحميل المجتمعات العربية مسؤولية فوضى المفاهيم والمصطلحات، إذ لا يمكن مثلاً تجاهل أن الكثير منها (المفاهيم) تعود جذورها إلى لغات ارتبطت بحضارات وثقافات أخرى سابقة، ورغم تطور معانيها بتطور العصور البشرية، إلا أنها تخضع أيضاً للثقافة الشعبية للمجتمعات التي تبنتها، وهكذا ارتبط مفهوم السياسة في أصله العربي بصيغة مجتمع القبيلة وأدواته ومستوى وعيه في ذلك الوقت.

لكن كيف يُنطر للسياسة في الثقافة العربية الحالية؟ إنها الكذب أو فن الكذب كما يحلو للبعض تسميته، وكثيراً ما يَستخدم العوام كلمة سياسة لوصف شخص ما بأنه مراوغ ومُتلون ومنافق. بطبيعة الحال، تعكس هذه التصورات بشكل ما، الحقيقة البائسة لواقع النظام العربي، عبر إسهامه في ترسيخ المعاني المهينة للسياسة أو حتى لغيرها من المفاهيم، على أنّ الأخطر من ذلك، هو تماهي الشارع معها، وتعليبها وتغليفها في شكل رخيص وضحل، والخطورة هنا تكمن في تبني هذا الوعي المتأخر وتوريثه للأجيال اللاحقة.

مفهوم “الكرامة”، هو الآخر له حصة وافرة في أزمة المفاهيم. في معانيه، يمتد المفهوم عبر التاريخ العربي، من شرف القبيلة إلى غشاء البكارة، وما بينهما من تفاصيل ترتفع وتنخفض في سوق الأسهم. لماذا يصر الإنسان العربي على اختزال الكرامة بين أفخاذ النساء، أو في عصبيته البائدة والحاضرة في آن، فبينما يتحمل إذلال السلطة ومهانتها وتجويعها، قد يثور وينتفض إذا ما عرف أن ابنته تعرف شاباً. حدث ذات مرة أن قتل رجل ابنته في دولة عربية لأنه وجد رقماً غريباً في هاتفها النقال. كيف يُطالب البعض بالحريات السياسية ويتظاهرون ضد سلطات الأمر الواقع في بلدانهم، بينما في الوقت ذاته، لا يؤمنون بالحريات المدنية والشخصية ويواصلون فرض سلطتهم الذكورية “الأبوية” على النساء!

في دلالات أخرى أضيق لمفهوم “الكرامة”، قد تؤدي نظرة واحدة بين شابين في مناسبة اجتماعية بإشعال حرب بسوس أخرى، ومن الممكن أيضاً أن ينشب شجارٌ بسبب تقديم خرطوم الأركيلة دون قلبه بالاتجاه المعاكس.

لطالما ألقى المستبدون العرب خطباً وكلمات حماسية شعارُها كرامة الإنسان، بينما في الواقع، تشهد السجون و”بطولات” الجيوش وأجهزة الأمن على واقع الحال. ما محل إعراب الكرامة في العالم العربي؟ إن لم تكن مفعولاً به، فهي في أحسن حالاتها مجرد اسم مجرور بأذيال الهزيمة والذل وامتهان الذات الإنسانية. وهذا ليس سراً نكشفه، فهو مَثَله مَثلُ مفهوم “السيادة” على أرض الواقع. لا داعِ للخوض فيه، حيث الواضح لا يحتاج إلى توضيح.

وفي ظل الفوضى الهائلة التي تتفاقم أكثر فأكثر في عصر الانحطاط العربي، تبدو الحاجة ملحة إلى إعادة تعريف المفاهيم وضبط دلالتها، بعد أن جعلها سوء الاستعمال، مائعة ومتناقضة وفضفاضة. مفاهيم كثيرة كالدين والوطن والهوية والحرية والديمقراطية والحضارة والثقافة والمثقف والمؤثر والخير والشر، وغيرها الكثير، جميعها تحتاج إلى إعادة تعريف، وبناء تصوّرات تعكس إسقاطاتها على الواقع، كما يجب أن تكون، لا كما يُراد لها أن تكون عليه. لكن من يقوم بهذا الدور وعلى عاتق من تقع مسؤوليته؟

على الهامش، هناك فرق كبير بين اللهجة واللغة، بمناسبة خلط الكثيرين ومنهم من يسمّون أنفسم “إعلاميون ومؤثرون” بين المصطلحين على أنهما شيء واحد. نعم هي بدهية من المفترض أنها لا تحتاج إلى توضيح، لكن، كم من البدهيات اليوم في واقعنا العربي أصبحت هائمة في بحر الجهل بالمعنى وسوء الاستخدام.


* إن الآراء الواردة أعلاه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع رامينا نيوز.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).