البشر كائنات تحكمهم عاداتهم. ونحن نميل إلى تصور مستقبل يشبه الماضي إلى حد بعيد، فنتشبث لهذا السبب بالأدوات والأساليب ووجهات النظر المألوفة حتى في حين يتغير العالم. ولكن في هذه اللحظة من التحول الاجتماعي والسياسي والاقتصادي العميق، يتعين علينا أن تحرص على عدم السماح لعاداتنا بقيادتنا إلى الضلال. 

ينبئنا التاريخ بأن التحولات الكبرى ــ مثل تلك التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو في بداية تسعينيات القرن العشرين ــ لم تجعل المجتمعات في عمومها أكثر حكمة، أو حتى أكثر تشككا. بل قوبلت هذه التحولات في عموم الأمر بتوقعات مفادها أن الحياة اليومية ستظل على حالها إلى حد كبير ــ أو تعود إلى "وضعها الطبيعي" على الأقل.

كان هذا الميل واضحا خلال أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، والتي يُـنـظَـر إليها غالبا على أنها ارتباك مؤقت وإن كان دراماتيكيا. الواقع أن الجائحة كانت لحظة فاصلة ــ وهي ليست الوحيدة التي تواجهنا اليوم: فالثورة الرقمية، وحتمية إزالة الكربون بسرعة من اللحظات الحاسمة بذات القدر.

في مواجهة هذه المعضلات الثلاث الكبرى، هل يمكننا حقا العودة إلى "الوضع الطبيعي القديم"؟ أو هل ينبغي لنا أن نتوقع شيئا مختلفا بعض الشيء. ماذا لو كان المستقبل لا يشبه الماضي؟ وهل نحن مجهزون لإدارة التحديات التي يجلبها؟

هناك سبب وجيه يحملنا على الشك في قدرتنا على القيام بهذا. فبالفعل، بدأت المؤسسات السياسية التقليدية ــ الدولة القومية في المقام الأول ــ تتعثر. لقد ناضلت هذه المؤسسات لمعالجة مزالق الرقمنة (التحول الرقمي)، من خلال كبح جماح شركات التكنولوجيا العملاقة على سبيل المثال. وقد أثبتت أنها غير مؤهلة للتعامل مع الجائحة التي اتخذت نطاقا عالميا وما صاحبها من أبعاد نفسية، وخاصة تجربة العديد من الناس معها باعتبارها فكرة مجردة.

الواقع أن فيروس كورونا 2019 غير مرئي للعين البشرية. وما لم يكن الشخص مريضا، أو يعتني بمريض، أو حزينا على فقدان أحد أفراد أسرته أو شخص عزيز عليه، فقد يكون من الصعب استيعاب التهديد بشكل كامل ــ وقبول التغيرات التي طرأت على نمط الحياة والتي تتطلبها الاستجابة للجائحة. 

بطبيعة الحال، من الموت الأسود في عام 1347 إلى جائحة الإنفلونزا في الفترة من 1918 إلى 1920، لم تكن الفاشيات الـمَـرَضية غريبة على العالم. ولكن لم يسبق من قبل قَـط أن استمدت الدولة مثل هذا القدر الكبير من شرعيتها من توقعات مفادها أنها ستحمي رفاهة الناس، بالاستعانة بالوسائل التكنولوجية والعلمية، بصرف النظر عن كل ما تضربها به الطبيعة من أهوال.

وعلى هذا فإن الارتباكات الناجمة عن أزمة كوفيد-19، إلى جانب أعداد متزايدة من الإصابات بالعدوى والوفيات، تضرب في صميم شرعية الدولة. وهذه أزمة ثقة، ومن الواضح أنها تزعزع أركان المجتمعات بشدة.

تتمثل الطريقة الوحيدة لإعادة بناء الثقة وتثبيت استقرار المجتمعات في الاستجابة الـفَـعّـالة للأزمة. ونظرا للطبيعة العالمية التي تتسم بها التحديات التي نواجهها، فسوف يكون هذا مستحيلا في غياب التعاون الموسع الذي تعمل المؤسسات الـفَـعّـالة على تيسيره.

رغم كل هذا، تَـمَـسَّـك العالم بأساليبه القديمة، فانغمس في الخصومات الوطنية الضيقة بدلا من السعي وراء حلول تتطلع إلى المستقبل. ويتجلى هذا بأكبر قدر من الوضوح في .

إن استخدام الدولة القومية للتصدي للجائحة أشبه بمحاولة إسقاط طائرة مقاتلة حديثة (F-16) باستخدام بندقية عتيقة. وإذا كانت أزمة كوفيد-19 تمثل طائرة حربية حديثة، فإن تغير المناخ يمثل صاروخا نوويا. وإذا فشلنا في بناء أنظمة دفاعية قادرة على حمايتنا من هذه التهديدات الواسعة النطاق ــ بما في ذلك الأوبئة القادمة حتما في المستقبل ــ فإن البشرية تعرض وجودها ذاته للخطر.

من المؤكد أن الأصوات المنادية بإعادة البناء "على نحو أفضل" بعد الجائحة تشير ضمنا إلى بعض الوعي بالحاجة إلى التغيير الجهازي المنهجي. لكن التحول الذي نحتاج إليه يتجاوز تشييد بنية أساسية حديثة أو إطلاق العنان للاستثمار الخاص في أي بلد بمفرده. فنحن في احتياج إلى إعادة توجيه السياسات العالمية ــ إعادة اختراعها في حقيقة الأمر ــ حتى يتسنى للبلدان أن تتعاون بشكل أكثر فعالية في خلق عالَـم أفضل.

كانت اتفاقية باريس للمناخ المبرمة في عام 2015 خطوة مهمة في هذا الاتجاه. والدول القومية جزء لا يتجزأ من هذه العملية: فقد تفاوضت على الاتفاقية وهي مسؤولة عن تحديد مساهماتها في تحقيق أهدافها. ولكن يتعين عليها أن تعمل أيضا ضمن إطار عمل مشترك موحد، من أجل تحقيق أهداف لا تتعلق على الإطلاق بتعزيز قوتها الجيوسياسية أو الاقتصادية النسبية.

في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، تخلت الولايات المتحدة عن اتفاقية باريس، في محاولة رجعية لتأكيد هيمنتها. وما يدعو إلى التفاؤل أن الولايات المتحدة عادت الآن إلى الانضمام إلى الاتفاقية في عهد الرئيس جو بايدن. ولأن الولايات المتحدة تظل تُـعَـد الدولة الأكثر نفوذا وصاحبة الاقتصاد الأكثر تقدما من الناحية التكنولوجية في العالم، فإن تحرك بايدن يشكل أهمية بالغة للتنفيذ الناجح للاتفاقية ــ وبالتالي إنقاذ مستقبل البشرية.

ولكن على الرغم من اتفاقية باريس للمناخ، لم يدرك العالم حقا حجم التحول السياسي اللازم للتصدي للتهديدات الكبرى اليوم. فلا يزال من غير الواضح، على سبيل المثال، ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لكبح جماح منافستها الاستراتيجية مع الصين. في القرن الحادي والعشرين، لم يعد من الممكن أن نعتبر الهيمنة هدفا في حد ذاتها. بل ينبغي لبلدان العالم أن تسعى إلى قيادة المساعي الرامية إلى خلق عالم حيث تستحق الحياة أن يعيشها جميع البشر.

الحفاظ على قدرتنا على البقاء ــ وليس الهيمنة ــ هو الحتمية الجديدة للقيادة العالمية.

المصدر: بروجيكت سنديكيت

ترجمة: مايسة كامل    

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية