صورة الكاتب

لنفترض أننا لا نتأثر بالكثير من الآراء الجدلية أو المحافظة، أعني تلك التي تعتبر استخدام مصطلح الوسيط خارج نطاق استخدامه الأصلي، كما حصل لدى أرسطو، غير دقيقة في العديد من المعارف عبر الإشارة إلى أشياء أو وسائل مختلفة، حتى وان كان على المرء ربما حقاً اعتبار هذا النقد في بعض المواضع مبرراً، كأن نقول على سبيل المثال أن الاستخدام الشامل والغير محدود للمصطلح هو مجرد احدى علامات فشلنا في استخدام اللغة كوسيط بحد ذاته في العلاقات البشرية وأيضاً الذي أدى حسب "ديتر ميرش" إلى نشوء السبب في واقع عدم إمكاننا اليوم في التحدث عن مفهوم موحد لمصطلح الوسيط.

لذلك فإن التحدي يفرض نفسه هنا في الإجابة على الكثير من الأسئلة، منها التالية على وجه الخصوص: هل لدينا الحق اصلاً في تسمية علوم مثل التحليل النفسي والترجمة بالوسائط؟ وأين تكمن نقاط القوة والضعف في هذه المعارف كوسائط؟

ولكن ليبقى تركيزنا فقط على مدى فائدة واعانة هذه الوسائط المزعومة لنا مهماً بالدرجة الأولى كاحد شروط السماح لنا في النهاية بتسميتها كذلك، ولكن فلنتطرق قبل ذلك بإيجاز إلى الوسائط ووظائفها صدد تكوين لمحة عن هيكلها.

الوسائط وتحليل الوسائط

على سبيل المثال تتمثل مهمة التحليل النفسي في تبرير الوضع الحالي لأحد الاشخاص من خلال مسار ماضيه، لأن الطبيب النفسي يفترض أنه يمكن فقط التعبير عن الحاضر من خلال الأحداث الماضية. من المحتمل أن تكون هذه الأحداث قد امست طي النسيان أو نُقلت إلى مكان ما في اللاوعي!

في الممارسة العملية يحاول المحلل النفسي مساعدة المريض على جعل هذا الماضي ملموسًا مرة أخرى لأغراض الشفاء. حيث يتم ذلك بطريقة المفتش البوليسي في تتبع الماضي، وهذا يكون مصحوباً بالتنقيح المستمر لما يظهر بهدف بلوغ التجربة المعاشة الحقيقية بقدر الإمكان. كما يبدو من المهم هنا أن يُذكر أنه حتى استعادة هذا الماضي المكبوت يمكن أن يكون بحد ذاته جزءًا من العلاج. من خلال عملية النقل هذه يستطيع المرء أن ينظر إلى دور الطبيب النفسي المُعالج كنوع من الأدوات أو وسيط للنقل.

لا شك أن هذا النشاط يخلق أيضًا علاقة معينة بين هذين المشاركين (المريض والطبيب). وهذا مجرد دليل على ذلك، أن التحليل النفسي النظري يحاول نشر شيء خاطئ، الا وهو تحديداً، أن المحلل ليس سوى وسيط محايد وموضوعي وليس سوى وسيط للنقل.

ويكفي إلقاء نظرة على تاريخ التحليل النفسي لإثبات أن هذا التخصص لم يكن حياديًا أبدًا وأن حالة صديق سيغموند فرويد "الدكتور بروير" مع مريضته "آنا"، التي أوقفت علاجها وهربت عندما أظهرت المريضة الحب والشوق والميول الجنسي نحوه، دليل واضح على ذلك.

لذلك يجب على المرء الاعتراف اليوم أن تقنية علاج التحليل النفسي تتم في القرب والبعد بين الطبيب والمريض. لأنه على عكس عملية طرد الأرواح الشريرة، حيث يقف المعالج خلالها فقط على بعد من المريض ويعتبره شخصًا مجردًا ويحاول اشفاءه، فإن المحلل النفسي على عكس ذلك يعمل فقط كوسيط لاستقبال اللاوعي الذي اعيد انتاجه من قبل المريض، وبالتالي فانه يصبح حسب "سيبيلة كريمر" نوع من "سطح للنقل". النقل يعني شيئًا مثل "التوصيل". ولكن في التحليل النفسي يعتبر النقل أداة علاجية تخدم تكرار نمط شعوري قديم على المحلل (في الحاضر).

حيث تكمن وظيفة الطبيب في إعادة خلق ادراك المريض لما لم يكن مدركاً بالنسبة له. كما يمكن أيضًا رؤية هذه الوظيفة لدى شاهد يقوم من خلال شهادته بإعادة إنتاج صورة حدث مكتمل في الماضي بناءً على ما أدركه ورآه وسمعه وما إلى ذلك. بحيث انه دون هذه الشهادة لا يمكن بعد تكرار الحدث لاجلنا في الحاضر كمتلقين ولا الوصول إليه أو التحقق منه.

من الممكن أن يكون التصرف والعمل كوسيط ناجحًا إذا لم يتأثر المحلل على سبيل المثال، لأن الهدف لا يمكن تحقيقه إلا إذا ابتعد الوسيط بنفسه عن رسالته، أخذ مسافة منها. لأن المهم في الأمر يبقى نقل الرسالة بحد ذاتها وليس الوسيط. (فالشاهد موجود، ولكن الرسالة التي يحملها هي أكثر أهمية) وهكذا.

لكن الوضع يختلف عندما يتعلق الأمر بالآثار كوسيط! نظراً لأن الآثار قد تُركت - على الأغلب - عن غير قصد وهي مجرد متع وحاجيات وأشياء لا يمكن أن تخبرنا عن نفسها، لذا فإن المتعقب يمثلها من خلال شرحه. لذلك فانه حسب المُستقبل أو المُتعقب يمكن تفسير الآثار بشكل متباين. في شتى الأحوال يُنشئ من خلال الأثر شيئ لا يمكن التعرف عليه أو الشعور به بدونه.

كما يمكن اعتبار الأثر نوع من العلامة، لأنه يحمل في طياته رسالة أو نشاط حصل في الماضي أو يمكن نسبه لشخص معين فقط. على سبيل المثال حامل للحمض النووي أو البصمة.

الترجمة كوسيط

احد الممثلين الكبار للترجمة كوسيط هو المترجم والفيلسوف الألماني فالتر بنيامين (1892-1940). فبحسبه ليست النصوص هي التي تُترجم، بل اللغات نفسها. وتبعاً له فأن ترجمة اللغة لا تعمل كأداة، بل انها تظهر كوسيط للعيان. وبحسب رأيه فأن على "المترجم الجيد" أن يصب جام جهده وتركيزه على ترجمة اللغة، أو ما يسميه "اللغة النقية"، لأن الطريقة المثلى للترجمة تكمن في كيفية قيام اللغة بالتعبير عن نفسها لنا مباشرة، وعلى الرغم من ذلك يبقى على المترجم على عكس مُحرر المادة الأصل البقاء خارج اللغة الأجنبية المترجمة، لأن وظيفته خلال الترجمة تبقى محصورة فقط في إبراز "اللغة النقية". بهذا فأن النقطة الأساسية لم تعد نقل معنى النص المترجم، بل الكلمة نفسها. وهنا يميز فالتر بنيامين بشكل رئيسي بين المعني وطريقة المعنى لدى نقل الكلمات. بحيث يجب على المترجم التركيز على هذه الثانية (طريقة المعنى/القصد). ومن خلال "نقل-الكلمة-بكلمة" يتم تمرير غرابة لغة المصدر إلى اللغة الهدف. (لعل ترجمة بين السطور للكتاب المقدس خير مثال هنا للذكر)...

على عكس الرأي القائل بأن الترجمة الجيدة هي الترجمة التي لا يُنظر إليها على أنها ترجمة، يرى بنيامين أن الترجمة الجيدة هي التي تنقل الأصل الغريب للنص المُترجم إلى القارئ، وتعرض "اللغة النقية" من خلال عدم انتظامها، كما ينظر إليها على أنها "التكامل اللغوي".

الآن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكننا اعتبار هذا بمثابة ترجمة! أليس من الأفضل تسميتها أثر الترجمة، هذه التي تترك مهمة حل العقدة، أي فهم هذا الرمز السري الصعب أو الأثر المتروك للقارئ بمفرده، هذا الذي لا يستحوذ – على الأغلب - بلا شك على كم معرفي أفضل باللغة الأجنبية وتأثيرها، والثقافة الغريبة وفوارقها الأخرى من المترجم نفسه.

على كل حال فأن فالتر بنيامين لا يريد للمترجم السيء لعب دور المفتش البوليسي في كشف خلفيات واقعة ما للعامة أو لعب دور المحلل الذي يخفف على القارئ متاعب التفكير والتحليل للنص الغريب والانصدام بغرابة الغريب في لغة الهدف. القارئ يصبح بدوره متقفياً للآثار، مفتشاً، لأنه يواجه التحدي المتمثل في رسم صورته الخاصة به حول العمل المترجم، هذه التي يمكن بالطبع أن تختلف اختلافاً كبيراً عن صورة قارئ آخر بسبب محاولة المُترجم في الحفاظ على ما يسمى بـ "اللغة النقية" بهيكلها المعقد، وعرضه لهذه دون الاكتراث لاعطاء أي اهمية للمعنى...

لقد حذر العديد من المترجمين العرب في العصور الوسطى من مثل تقنية "الترجمة-كلمة-بكلمة" هذه. إذ ان تعدد المعاني وحتى عدم توفر كلمات مقابلة في اللغة العربية أو تلك التي ليس لها معنى مشابه أو قريب على الإطلاق كان يشكل صعوبة على وجه الخصوص عليهم لدى الترجمة من اليونانية.

لقد أدت هذه المشكلة في المقدمة إلى نقل عدد كبير من الكلمات والمصطلحات اليونانية إلى العربية دون إجراء أي تغيير عليها، وكان من المستحيل أيضاً مؤخراً الحد من إساءة استخدام أو تفسير العديد من هذه الكلمات في المجالات اللغوية المختلفة...

إذا افترضنا أن فكرة الترجمة كوسيط – هكذا كما يقترحها بنيامين - بديل يمكن الاعتماد عليه في الترجمة، فما الترجمة الحاسوبية في أيامنا هذه إلا أكثرها امانة وجودة لها، ولا هناك بعد أي مبرر للخلافات، ولا حاجة لمترجمين بشريين!

بذلك فقد فشلت بالنسبة لي محاولة استخدام النظرية الأرسطية للإدراك و "ميتاكسو" الخاصة به بهذا المعنى. لأن محاولة مقارنة الترجمة بـ "الثالث" لدى أرسطو - التي تعتبر بالنسبة له لاشيء، وفي عين الحين ليس لديه أدنى شك بأنها تلك المسافة التي تمتد بين العين والأشياء، وتساعدنا على إدراكها - لا تبدو واقعية وصحيحة. علاوة على كل ذلك فأن بنيامين لا يميز بين أنواع النصوص المختلفة في وظيفة الترجمة، بل ويتعامل معها جميعاً على اساس كونها متساوية...

من كل ما ذُكر يمكننا أن نستنتج، أنه من الممكن أن تظهر الترجمة لنا كوسيط يوضح لنا ماهية النص الأجنبي، حيث بدون هذا "الثالث" الذي يتمثل بـ "الترجمة" لن يكون الاطلاع على النصوص الأجنبية ممكنًا، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الطريقة الصحيحة أو المثالية تكمن في التعامل مع الترجمة على شكل وسيط. إذ أن عدم الحيادية بعد كل ما قيل يعني أنه ليس على المترجم أن يترجم اللغات، كما يعرضه ادعاء بنيامين، بل انه يترجم النصوص ذاتها اعتماداً على نوع النص والعميل والجماعة المستهدفة والعديد من العوامل الأخرى، التي تلعب دوراً في انتقاء التقنية المناسبة للمهمة.


المصادر المستعان بها عن الألمانية:

  • Dizdar, Dilek (2006) Translation. Um- und Irrwege. Berlin: Frank & Timme.

Krämer, Sybille (2008) Medium, Bote, Übertragung. Kleine Metaphysik der Medialität. Frankfurt (M.): Suhrkamp Verlag

Mersch, Dieter (2006) Medientheorien zur Einführung. Hamburg: Junius Verlag. Kotthoff, Helga: Kultur(en) im Gespräch. (Hrsg.): Tübingen, Narr, 200


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).