عتبة مفاهيم: 

لا تندُّ هذه المقاربة، إذ تستضيف لوحةَ التشكيلي السوري المعروف يوسف عبدلكي([1]):«العصفور والسكين،2007»([2])، عن أبعاد أساسية ثلاثة في مواجهة المرئيِّ: أنطولوجي وسيميائي وتفكيكي، وتبعاً للبعد الأوَّل([3]تتعامل القراءة مع المرئيِّ في تجنيسه التشكيليِّ بوصفه حدثاً، شَرْخاً في صلابة السَّائد كيما يكون شكلاً، كينونةً؛ إذ دونَ إحداثه ثغرةً يفتقد المرئيُّ ـ البصريُّ إلى تسميته فناً، فـ«شعرية» المرئيِّ رهنٌ بانبثاقةِ تخلخل سكونَ الفضاء الذي يحفُّ به؛ لينتقل الفضاء من طابع حياديٍّ إلى آخر دالٍّ، وهذه الانتقالة في طبيعة الفضاء تترتَّب عن «العَالم» الذي يفتتحه المرئيُّ ويُظهرُهُ ويحملُهُ على القول في علاقته بالفضاء، ذلك أنَّ المرئيَّ هو ثمرةُ نزاع حادٍّ على حافة الوجود بين الظهور والخفاء، بين الفجوة التي يبزغ منها المرئيُّ ويضيءُ ما حوله وبين الحَجْبِ الذي يحاول طمسَ إنارته؛ فأنطولوجيا المرئيِّ تكمن في هذا الصراع بين «اللاحتجاب» والاحتجاب من حيث إنَّهُ موطن الحقيقة، بالمعنى الهيدغري، الحقيقة، حقيقة العمل الفنيِّ في كونها كشفاً عن عَالَم هو عالم المرئيِّ في شواش الوجود.

ويتحدَّد البعد "الثاني([4]) ـ السيميائي" في النظر إلى "المرئيِّ ـ التشكيليِّ" على أنَّه جملةُ علاماتٍ مُسَمْطِقَة (مشفّرة) تحت وطأة العلاقات النَّصية التي تربط بين هذه العَلامات، وتجعل من المرئيِّ «نصاً بصرياً» قابلاً للقراءة والتأويل بغض النظر عن لغته، فالسيمياء تتعامل مع أيِّ ممارسة دالَّة على أنها نصٌّ يتمتع بعلاقات داخلية تحقق له نصيته textuality، وأخرى خارجية تؤسِّس لتفاعلٍ عبر ـ نصي مع البنية الثقافية، لينفتح النَّصُّ المرئيُّ، بذلك، على العَالَـم والعَالَـم على المرئيِّ؛ لتنتهي بذلك سلطة البنية المغلقة. أما البعد الثالث([5]) ـ التفكيكي؛ فيخصُّ الحركةَ الدَّلاليّةَ للنَّصِّ المرئيِّ بين الممكن والإستحالة دلالياً؛ فالمرئيُّ وفق البعد التفكيكي كائنٌ شرهٌ لايمكن إشباعه بالمعنى؛ فهو لاينفكُّ يطالبُ القراءة بالمزيد من التَّأويل والتَّأويل المضاعف، أنه لايكفُّ عن مراكمة المعنى في سيرورة القراءة.

المرئيّ والنَّص الموازي: 

على هذا النَّحو تندفع القراءة لمواجهة المرئيِّ؛ لتبدأ بأنطولوجيا هذا النَّص البصريّ «العصفور والسكين»، تتلمَّس وجودَهُ في العَالم، تتقرَّى هويتَّهُ، فوجوده يتمثَّل بهذه «الفجوة المضاءة» التي يُحدثها في فضاء الكاوس الذي يحاولَ أن يطمسها ما أمكنه سبيلا؛ فمن خلال هذه الفَجْوة يبزغُ عَالَـمُ العمل ويتثبَّتُ في شكلٍّ، فالشَّكلُ يحفظ بزوغَ عالم المرئيِّ من الاختفاء تحت قوة الكاوس/ الفوضى المحدقة به، لكن الشَّكلَ الذي يُمَفْصِلُ بين الكاوس وعالم المرئيّ يمهد العتبة لفعل التَّسمية:«العصفور والسكين» الذي يُنْجِزُ به النَّصُّ البصريُّ أنطولوجيته؛ ليغدو المرئيُّ كائناً يسعى إلى الاختلاف والمغايرة، فما طبيعة هذا الكائن البصري:«العصفور والسكين»؟.


ما يثير، اهتمامَ مُشاهد هذا النَّص البصريّ الدَّال هو النَّصُّ الموازيُّ([6]) paratext  Theالذي يرافقه، وأقصد بذلك عنوانَ اللوحة وإهداءَهَا، ذلك أنَّهما من تلك العناصر المصاحبة للنص المرئيِّ التي تكون بمنزلة ممرّات يسلكها المتلقي إلى عالمه، فالعنوان يكثِّف النَّصَّ البصريَّ في نصِّ كتابيٍّ: «العصفور والسكين»، أي الحياة في مواجهة الموت، الطراوة مقابل القسوة، الطبيعي ضدَّ الثقافي، اللحم إزاء المعدن، فكلُّها ثنائيات تتناسل من بنية العنوان وترصد الكونَ الدَّلاليَّ للمرئيِّ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هنا، لماذا لم تأتِ التَّسمية على نحو معاكس: «السِّكين والعصفور»؟ وذلك لسببٍ وجيهٍ، وهو أنَّ الهيمنةَ من حيث الاحتياز على الفضاء/ الفراغ تخصُّ «السِّكين» دون «العصفور»، بمعنى أن الاحتمال الثاني لترتيب علامتي العنوان أمر وارد، لكنَّ الفنان ارتضى الاحتمال المعاكس: «العصفور والسكين»، إذ يمكن تأويل ذلك على نحوٍ مكانيٍّ من حيث إن «العصفور» كمكوِّنٍ بصريٍّ ـ تشكيليٍّ يتقدَّم «السِّكين»، وبالتالي فانتظام المكوِّنات/ العَلامات البصريـّة ترتيباً في فضاء اللوحة قد فرض إرادته على اختيار الفنان لاحتمال: «العصفور والسكين». بيد أن هذا الترتيب لعلامتي العنوان لاينفكُّ يشرع على ممكنٍ تأويليٍّ آخر من حيث إنَّ دلالةَ علامةٍ «ما» تتبع سيرورة القراءة وصيرورتها، ومن هنا، أليس من الممكن دلالياً القول إنَّ العنوان بتقديم علامة «العصفور» على «السكين»؛ إنما يعكس انتصار الحياة على الموت مهما اجتاز الموت من أدوات القتل والإرهاب والإقصاء ؟ بل ربما يقودنا العنوان بصيغته الراهنة إلى صيرورة دلالية أخرى وهي قوة الرُّعب المحدقة بالكينونة، لذا قُدِّمَ العصفور في صيغة العنوان كتمثيلٍ لهذه الكينونة المرتعبة، ولفت الانتباه للمأزق الذي هي فيه، وفي الحالين يضع العنوان القارىء على شرخ دلاليٍّ بين علامتي العصفور والسكين، لكن لنمضِ خطوة أخرى:


يأتي نصُّ الإهداء:«إلى جميل حتمل»؛ ليوسِّع من العَالم الدَّلالي للمرئيِّ؛ فلاسم «جميل حتمل» رنينُهُ في هذا السِّياق، إذ استناداً إلى هذا الإهداء يتجاوز المرئيُّ سياقَهُ البنيويّ إلى سياقه الثقافيّ عبر تفاعل تناصيٍّ ذي منحدرٍ شديدٍ، فـ«يوسف عبدلكي» هو نفسه الذي أنجز لوحة غلاف أعمال جميل حتمل:«المجموعات القصصية الخمس، 1998»([7])، وبؤرة التلاقي بين اللوحة والغلاف يتمثَّل بالعلامة السيميائية «العصفور»؛ ففيما يستفرد هذا المكوِّن بجملة فضاء الغلاف، فإنه يتشارك و«العلامة ـ السكين» في اجتياز فضاء اللوحة، هذا التَّناصintertextuality([8]) بين العملين يقودُ القراءةَ إلى التَّأمّل الآتي: إنَّ «العصفور» ينطفىء رعباً في كلتا اللوحتين وفي الوضعية ذاتها مع اختلاف ضئيل في اللوحة قيد القراءة، وبالنظر إلى تأريخيْ إنجاز العملين، يمكننا التكهن بأن لوحة الغلاف تمثِّل نواةَ لوحةِ «العصفور والسِّكين»، إذ تكتمل عناصرُ اللوحة بالحضور الفعلي لمكوِّن «السّكين» بعد أن كان غائباً/حاضراً بالقوة/ بالإمكان في لوحة الغلاف، ومن هنا الارتباط الدَّلاليّ بين اسم العلم «جميل حتمل» وجُثَّة «العصفور» في اللوحتين، التي ليست في هذا السياق سوى جُثَّة جميل حتمل نفسه، «ميل حتمل» القاص، الطائر الأزرق الذي فتكت فيه الغربة، فعاد جثّةً إلى بيته، لنقرأ ما كتبه حتمل قبل انطفائه بسنة في إحدى مشافي باريس:

«تعبت يالله. وأريد أن أعود إلى مدينتي، أو إلى بيتي القديم.

تعبت من المترو والأنفاق والوحدة، وبرد الشتاء الدَّاهم، وحريق القلب الآخذ بالإنطفاء،

تعبت وأريد كلَّ مساء أن أهمس لابني بمساء الخير.

تعبت من الصقيع. من سياط الوحشة. من برودة الرغبات..

تعبت، فأعدني يالله

ولو جثة، أعدني..جميل حتمل في 30/11/1993.»([9]).

والاستناد إلى هذا الموازي النصيِّ تَرْكُمُ علامتا «العصفور» و«السّكين» دلالاتٍ إضافيةً، حيث ترمز «السكين» إلى سلطة الغربة والمنفى والصقيع والوحشة والبرودة، في حين يرمز «العصفور» إلى تعب الكائن وانطفائه واستحالة مقاومة الموت، ولهذا نلمس هذه الرغبة الفادحة في العودة و«لو جُثَّة»!!.

استنطاق المرئي وتحريكه:

لنأتِ الآن إلى صلب المرئيِّ، حيث تبدأ أولى مظاهره الأنطولوجية متمثِّلاً بالفجوة ـ الإطار بلفت انتباه المتلقي؛ إذ تشقُّ الفجوةُ خاصرةَ الفراغ/ الكاوس ببعدين: 190.5× 50.5 سم؛ فما الدَّلالة السِّيميائيّة المتوخاة من هذا الإطار غير الاعتيادي؟ لاشك أن هذا الإطار الفارع لم يكتسب هذا الشَّكل إلا بضغوط فادحة من قوة دلالة العَلامات المكوَّنة لعالم المرئيّ ولاسيما «السّكين»، العلامة الدَّالة على شساعة مساحة الموت في مواجهة ضِيْقِ مساحة الحياة «العصفور»، فالمساحة المعطاة لتموضع «السكين» تشفُّ عن هيمنة الموت وطغيانه وفوقانيته، قياساً للمساحة التي يحتازها العصفور في قعر/ أسفل الإطار حيث يتضاءل حيِّزُ الحياة، كما لو أنَّ الإطار في دلالته السيميائية ينبثق تمثيلاً للحياة الراهنة حيث السكين، الموت، تنذر/ ينذر الكائن «العصفور» بإخلاء ما تبقَّى من المكان بوصفه حيِّزاً لمّا يستحوذ عليه بعد، هكذا يتساوق فَرَاعَةُ الإطار مع قوّة الموت وامتداده، وسلطته في الاستحواذ على المكان والحياة وإقصاء الآخر، حيث تغدو القوة هي السُّلطان والسَّيد في فضاء يتكلّم/تتكلم فيه «السكين» فحسب. ومن جهةٍ أخرى ربما يمكن تأويل الشَّكل الذي اتخذه إطارُ المرئيِّ تبعاً لنزعةٍ ما بعد حداثية يروم الفنان من خلالها إحداث طيّة في علاقة التلقي بين النَّص البصري والمشاهد الذي اعتاد على إطار محدّدٍ يُسيِّجُ الأعمال الفنية عادةً؛ مما يفرض على المتلقي طريقةً محددةً في النظر إليها قراءةً؛ ولهذا يحتّم الإطار في لوحة:«العصفور والسكين» تغييراً في اتجاه الرؤية من الأعلى إلى الأسفل أو من الأسفل إلى الأعلى، وهذا يتعلق على الأرجح بتقنيات الفنان في صناعة نصِّهِ البصريِّ عبر التَّفاعل مع التَّجارب الفنية الأخرى، وما يعزِّز هذا الأمر تلك اللوحات المنشورة في الألبوم المرافق لمعرض الفنان مؤخراً في دمشق؛ فثمَّة لوحات عدة تنبىء بهذا المسعى في خرق علاقة التلقي المعتادة بين المشاهد والمرئيِّ.

كيف لنا الآن أن نقرأ البنية الداخلية أو المجال الحيوي السيميائي للمرئي؟. ليس أمامنا سوى توسُّل السيميائية، وعلى وجه التحديد في بعدها السَّردي، فالمرئيُّ في حال لوحة «العُصفور والسِّكين»، وإنْ كان تجسيداً مكانياً لجملةٍ من القوى الفاعلة؛ فإنه لايفتأ يسرد حكايةً «ما»، فثمَّة برامج سردية لكلِّ قوةٍ فاعلة على مسرح الفضاء البَصريِّ، ومن واجب القراءة أن تطاردَ هذه البرامج للكشف عن طبيعة عَالَم المرئيِّ، فمهمة القراءة هي تحريك العَلامات السيميائية للمرئيِّ في سكونها وإنطاقها: الفضاء، السكين، العصفور، فضلاً عن العناصر الغائبة التي تمنح المجال الحيوي للمرئيِّ كونه الدلاليّ، هذا الكون الدلالي الذي يتضافر تبعاً لاشتغال مجموعة من العوامل التي تعيننا على فكِّ تشفير النَّظام السيميائيِّ للنَّصِّ البصريِّ الذي يقتصر على تقديم بعض العوامل، ويغيِّب بعضها الآخر.

وإذا كان الأمر كذلك؛ لنتفحص البرنامج السّردي للسِّكين أولاً: حيث تتخذ العوامل السَّردية القيم الآتية([10]):

1: المرسِل (الموت) ــــــ المرسَل إليه (المستفيد من موت العصفور).

2: الفاعل (السكين) ــــــــ الموضوع (العصفور).

3 :المساعد (الذي ينتضي السكين) ـــــــ المضاد( المناهض لبرنامج السكين).

هكذا يبدأ السَّرد البصريُّ ابتداءً: بالشغب(افتراضاً) الذي تمارسه قوى الحياة متمثَّلة بـ«الفاعل ـ العصفور»، فلا يجد الموت(المرسِل) بُدّاً من إرسال رسالة إلى المرسَل إليه (المستفيد من موت العصفور) بتجنيد فاعلٍ لوضع حدٍّ لقوى الحياة، فيقع الاختيارُ على «السِّكين»؛ لتقوم بمهمة الفاعل، فتبدأ برنامجها السَّردي في البحث عن موضوع لها؛ ليتجسَّد بـ«العصفور» وفق علاقةٍ رغبويةٍ، الرغبة في إرهاب قوى الحياة، وبثِّ الرعب في أوصالها، بيد أنَّ البرنامج السردي لـ«لفاعل ــ السِّكين» يتعقّد بدخول فضاء السَّرد البصريِّ عاملين اثنين موجودين بالقوة: المساعد(الذي ينتضي السكين) والمضاد (المناهض لبرنامج السكين)، فيغدو البرنامج السَّردي تحت طائلة علاقة صراعية بين هذين العاملين؛ لينتهي المشهد السردي بتنحية "العامل ـ المضاد"؛ نظراً لعدم تكافؤ القوى بين الموت والحياة، فينتصر مشروع الموت، ويُمنى البرنامج دي لقوى الحياة بالهزيمة والفشل والإخفاق، ليغدو فضاءُ السَّرد البصريِّ محكوماً بسيطرة الموت والإرهاب والعنف، ومن هنا يمكن تفسير الحضور العنيف والجذل للسِّكين بنصلِـها الهائل والحاد واللامع المغروز في أرضية المرئيِّ، فحضوره وثباته يرمز إلى قوة سلطة الموت في اكتساح ممثّل الحياة، والاستحواذ على الفضاء السوسيو ــ الثقافي/ السياسي، فالمشهدُ البصريُّ يطيح بأية إمكانية للأمل، فالعصفور لم تنطفىء فيه الحياة بالذبح، وإنما إزاء القوة الفادحة للهلع، فطاقةُ الرُّعب الهائلة المبثوثة من السِّكين وحدها كافّية لإطفاء الحياة في جسد العصفور.

لكن ماذا بشأن البرنامج السّردي للعصفور؟ ماذا لو قرأنا العلاقة بين العصفور والسكين في الاتجاه المضاد، بمعنى أنَّ ارتماء العصفور على ظهره ليس إلا تمويهاً للإيحاء بموته؟. وبناءً على ذلك يبقى البرنامج السَّردي لقوى الحياة (العصفور) قائماً، كامناً، بمعنى الإطاحة بقوى الشر والموت «وَعْـدٌ» مؤجَّل حالما تتوفَّر الظروف المناسبة، أيْ أنَّ هيمنة «الشَّرِّ» تعاني من النقص وعدم الاكتمال على مستوى المعنى والحدث، كما أنَّ هزيمة «الخير» ليست بنهائية؛ ليتحرك، تبعاً لذلك، المرئيُّ من جهة «المعنى» على مسار غير مشبَّع بالدِّلالة؛ فالنقص ينخر انتصار الشَّرِّ، ليغدو تحت طائلة هزيمة مرجئة، وفي الوقت ذاته يعصف النقص بهزيمة قوى الحياة؛ لتبقى منفتحةً على طيف انتصار مؤجَّل. ومن هنا، لايمكن القطع باكتمال المعنى لأيٍّ من البرنامجين السرديين، لِيُقيمَ المرئيُّ في مَهبِّ دلالةٍ لايمكن الحسم بشأنها، دلالة متأرجحة بين انتصار ناقص وهزيمة غير مكتملة، فالنصُّ المرئيُّ يُشتِّتُ المعنى في اتجاهين مانعاً إياه من الاكتمال والتطابق مع نفسه، لِيُجْهِزَ على التَّماثل، ويسكن الاخـ(ت)ـلاف([11]) مأوىً له، وهذا التشتُّت هو الذي يُهيكل المرئيَّ ويهيئه لتأجيل معنى الحدث البصريِّ اكتمالاً، ومنعه من التطابق مع نفسه، كمعنًى وحيدٍ ونهائيٍّ للحدث وإلا تغدو اللوحة تذكاراً أليماً وساحقاً لهزيمة قوى الحياة أو تأريخاً بصرياً ساطعاً لانتصار امبراطورية الشَّرِّ، فمعنى المرئيِّ غير محسوم ولا يسير في اتجاهٍ واحدٍ، فحضور «السكين» بهذه العنجهية حضور هشٌّ، جبانٌ، كما أنَّ استسلام «العصفور» للهلع ليس أمراً مؤكداً، ففيه الكثير من المراوغة والتحايل، ولذلك لايمكن الحسم في انغلاق البرنامج السَّردي على نفسه لكلٍّ من قوى الخير(العصفور) والشر(السكين)، حيث يبقى انتصار قوى الموت مشروخاً بهزيمةٍ كامنة بالقوة، وكذا تغدو هزيمة قوى الحياة ملقَّمة بانتصار ممكن في المجال الحيوي لتصارع العلامات وتطاحنها، فقراءة العلامات في تعالقها السيميائي ينقذ الكون الدلاليَّ من تحكّم سلطة المعنى الواحد والحقيقة الواحدة، فالاختلاف أصلٌ في اشتغال المرئي على صعيد المعنى، اختلاف يُرْجىِءُ السيطرة الكاملة لقوى الموت، ويؤجِّل هزيمة قوى الحياة، وعلى هذا الأساس لايمكن الركون إلى استقرار البرنامج السّردي للفاعلين المتضادين على معنى نهائيٍّ، فلا الانتصارُ انتصارٌ، ولا الهزيمةُ هزيمةٌ، كما لو أنَّ العلاقة بين السِّكين والعصفور تتحدد بـ«لا ـ انتصار، لا ـ هزيمة» ؛ فثمة شرخ يضرب أطنابه بين دالِّ البرنامج السَّردي ومدلوله، يمنع من التطابق بينهما، ليقعَ الدالُّ البصريُّ في عماء أبديٍّ، فلا يجد السبيل إلى للاتصال بمدلوله البتة.

المرئي في التناص:

من جهة أخرى تستدعي لوحة «العصفور والسكين» تناصياً جداريةَ «غورنيكا» على مستوى الموضوع، ذلك أنَّ أيَّ أثرٍ لاينفكُّ مدغوماً بالآثار الأخرى، يحمل بقايا، شظايا منها بوعي أو بلاوعي من مُنْتِجِهَا، أو أنَّ الأمر يختلط على القارىء فيربط بين الأثر الرَّاهن والسَّابق عليه، هكذا يُخيَّلُ لقارىء هذه اللوحة أن ثمة تنادٍ بين العملين، وهذا التنادي/التفاعل بين العملين يرهن الذاكرة، ذاكرة القارىء باستدعاء أحداث بلدة «غورنيكا»([12]) التي دمرتها الطائرات

النازية بطلب من فرانكو، لكن بابلو بيكاسو يردُّ على هذه الهمجية بجدارية تخلِّد ضحايا الهجوم البربري، وتفضح الوجه القبيح لأعداء الكينونة، هنا يسترجع يوسف عبدلكي عمل بابلو بيكاسو ويصوغه في عنصرين فقط: العصفور والسِّكين، فالعصفور عند عبدلكي يختزل كلَّ الألم الصَّارخ في الغورنيكا: صراخ الصبي وألم الجواد وصرخة المرأة و سقوط الجندي المقاوم في حين يتقمَّص «السِّكينُ» رمزَ العنف المتمثَّل بالثور الهائج الذي يتبادل والسِّكين دلالة الانتشاء والنَّصَاعة فرحاً بالدَّمار والموت كلٌّ في موقعه البصريِّ. لوحتان تجسِّدان عنف القوة وقوة العنف في مسعى حثيث لاقتلاع الكينونة وتحجيمها، لكن ما يثير الاهتمام أنَّ جدارية بيكاسو لاتخلو من العَلامات الدَّالة على الأمل (لاسيما المصباح) والخروج من نفق الهمجية والبربرية في مقابل تلاشي ذلك في لوحة «العصفور والسِّكين»؛ حيث السيادة للشَّرِّ المطلق، إذ أنَّ الموت لايتمُّ هنا بالقتل كما في الغورنيكا، بقدر ما يتحقَّق، بإغراق الكينونة، بنفير الهلع والفزع، ولكنه موتٌ مؤقتٌ، موتٌ لمَّا يتحقق، أو لايمكننا الجزم بتحققه وفق التأويل التفكيكي لهذا النص البصريِّ.


المصادر والمراجع:

المصادر:

1ــ حتمل، جميل، المجموعات القصصية الخمس، ط1، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1998).

المراجع:

1ـــ بييقي ــ غروس، ناتالي، مدخل إلى التناص، ترجمة: عبد الحميد بورايو، د، ط، (دمشق: دار نينوى، 2012).

2ــ حسين، خالد، في نظرية العنوان (مقاربة تأويلية في شؤون العتبة النصية)، ط1، (دمشق، دار التكوين، 2007).

3ــ دريدا، جاك، الكتابة والاختلاف، ترجمة، كاظم جهاد، ط2، (الدار البيضاء: دار توبقال، 2000).

4ــ علي جعفر، صفاء عبد السلام هيرمينوطيقا (تفسير ـــ الأصل في العمل الفني)، دراسة في الأنطولوجيا المعاصرة، ط1 ، (الإسكندرية: منشأة المعارف، 2003).

5 ـ غريماس، أ.ج. (بالاشتراك)، المنهج السيميائي (الخلفيات النظرية وآليات التطبيق)، ترجمة وتقديم، عبد الحميد بورايو، ط1، (الجزائر: دار التنوير، 2014).

6ـ كلارك، تيموثي: المعتمد الأدبي في التفكيك، ترجمة وتقديم، حسام نايل، مراجعة، محمد بريري، ط1،( القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011).

7ــ هايدغر، مارتن: أصل العمل الفني، ترجمة: أبو العيد دودو، ط1، ( بيروت: دار الجمل، 3003).


([1])ـــ يوسف عبدلكي بالسريانية: ܝܘܣܦ ܥܒܕܠܟܗ‏ فنان تشكيلي سوري ولد في القامشلي عام 1951 وحاصل على إجازة من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1976 وعلى دبلوم حفر من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة. أقام أول معارضه الفردية عام 1973 في دمشق، كما أقام العديد من المعارض في تونس والقاهرة والأردن وبيروت والشارقة ودبي...، ويقتني المتحف البريطاني في لندن أربعة أعمال له (عملين من عام 1993 وعملين من عام 2004) ومتحف معهد العالم العربي في باريس عملين (1990 و1995) ومتحف دينه لي باين (Digne-Les-Bains Museum) بفرنسا عملين من عام 1986 كما يقتني متحف الكويت الوطني أربعة من أعماله (2004) في حين يقتني متحف عمان للفن الحديث عملاً من أعماله الفنية (من عام 2003) بدأ عمله في الكاريكاتير منذ سنة 1966 م، وكان ذلك بتشجيع من والده الذي أحبَّ العمل السياسي التي أدت لاعتقاله بين العامين 1978 م و1980 م بسبب مواقفه السياسية. كذلك رسم للأطفال في كتب للأطفال وفي مجلات للأطفال وشارك في عدة تظاهرات الرسوم الكاريكاتورية.

يعد يوسف عبدلكي اليوم من أشهر فناني الحفر في العالم العربي، وأبرز فناني الجرافيك وتصميم الملصقات والأغلفة، والشعارات، كما يعدّ من الفنانين المهمين في مجال الكاريكاتير كما صدرت له عدة دراسات في الكاريكاتير. (ويكيبيديا ــ الموسوعة الحرة بتصرف، شبكة الإنترنيت).

([2]) ـــ يوسف عبدلكي، لوحة (العصفور والسكين، 2007)،اللوحة منتشرة في مواقع عديدة على شبكة الانترنيت، مثل: صور لوحات يوسف عبدلكي:

https://www.google.com/search?sxsrf=ALeKk01SI_JrXsZIiWjaV4uQK

([3]) ـــ جرت الاستفادة هنا من أفكار مارتن هايدغر المبثوثة في كتاب: أصل العمل الفني، ترجمة، أبو العيد دودو، ط1، (بيروت: دار الجمل، 3003). القسم المعنون بالعمل الفني والحقيقة ص 94 ومابعد. وكذلك اعتمدنا على كتاب: هيرمينوطيقا (تفسير ـــ الأصل في العمل الفني)، دراسة في الأنطولوجيا المعاصرة، صفاء عبد السلام علي جعفر، ط1، (الإسكندرية: منشأة المعارف، ط1، 2003.). الفصل الأول (المفهوم الهيرمينوطيقي للعمل الفني عند هايدجر)، ص 37ــ 49.

([4]) ـــ نظرنا إلى اللوحة التشكيلية هنا كممارسة مرئية دالة تستوجب القراءة السيميائية وتحديداً في الحقل السردي، ومن هنا الاعتماد على السيميائيات السردية، للتفصيل: المنهج السيميائي (الخلفيات النظرية وآليات التطبيق)، أ.ج. غريماس ــ ج. كورتيس وآخرون، ترجمة وتقديم، عبد الحميد بورايو، ط1، (الجزائر: دار التنوير، 2014 ) الفصل الأول، ص 37ــ 49.

([5]) ـــ التفكيك هنا منح القراءة حريةً في تحريك العمل المرصود القراءة كعلامةٍ تمارس الانزلاق الدلالي، فالعلامة الفنية في بعدها السيميائي ــ التفكيكي لاتقف عند حد دلالي وإنما تعشق الحركة وتكثُّر المعنى؛ للتفصيل في فلسفة التفكيك: المعتمد الأدبي في التفكيك، تيموثي كلارك، ترجمة وتقديم، حسام نايل، مراجعة، محمد بريري، ط1، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011 ) مقدمة المؤلف ص 37 ومابعدها.

([6]) ـــ جرت معالجة مسألة الموازيات النصية ـــ بوصفها نصوصاً قصيرة أو طويلة (مراجعات نقدية) أو مرئية تعمل على منح العمل الفني هوية الحضور والرسوخ في عملية التلقي ــ في كتاب: في نظرية العنوان( مقابة تأويلية في شؤون العتبة النصية)، خالد حسين، ط1، (دمشق: دار التكوين، 2007 )، القسم النظري(ص35ـــ45).

([7]) ــــ جميل حتمل، المجموعات القصصية الخمس، ط1، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1998)

([8]) ـــ باتت الدراسات التناصية تقدم الكثير من الإنجازات في إطار التعالقات بين النصوص والأعمال الفنية وغيرها من النصوص وفي الحقول المختلفة للتفصيل: مدخل إلى التناص، ناتالي بييقي ــ غروس، ترجمة، عبد الحميد بورايو، د. ط، (دمشق: دار نينوى، 2012.) القسم الثاني(تاريخ ونظريات التناص)، ص، 7ــ 48.

([9]) ـــ النص منشور على الغلاف الأخير لأعمال القاص جميل حتمل: المجموعات القصصية الخمس، مصدر مذكور.

([10])ـــ من المعروف أن عالم السيميائيات أ. ج. غريماس اختصر عدد العوامل والوظائف لدى فلاديمير بروب( مورفولوجيا الحكاية) إلى ستة عوامل في أصناف متقابلة لقراءة المسارين الدلالي والحدثي تمهيداً للإمساك بالمعنى القارّ أو العميق للنص....للتفصيل: المنهج السيميائي(الخلفيات النظرية وآليات التطبيق)، أ.ج. غريماس ــ ج. كورتيس وآخرون، ترجمة وتقديم، عبد الحميد بورايو، مرجع مذكور، القسم الأول( الفواعل، الممثلون، الصور ــ المربع السيميائي) ص، 9ــ 89.

([11]) ـــ بخصوص مفهوم الاخـ(ت)ـلاف الذي يتمفصل إلى معنيين: الاختلاف (بمعنى التغاير والتباين) والاخلاف أي الإرجاء( تأجيل قدوم المعنى والحضور) للتفصيل: جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة، كاظم جهاد، ط2، (الدار البيضاء: دار توبقال، 2000)، ص 23 ومابعدها (مقدمة المترجم).

([12])ـــ(غرنيكا  (بالإسبانيةGuernica) هي لوحة جدارية للفنان بابلو بيكاسو استوحاها من قصف غرنيكا، الباسك حين قامت طائرة حربية ألمانية وإيطالية مساندة لقوات القوميين الإسبان بقصف المدينة في 26 أبريل 1937 بغرض الترويع خلال الحرب الأهلية الإسبانية [1] وكانت حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية (1931-1939) قد كلفت بابلو بيكاسو بابداع لوحة جدارية لتعرض في الجناح الإسباني في المعرض الدولي للتقنيات والفنون في الحياة المعاصرة "Exposition Internationale des Arts et Techniques dans la Vie Moderne" الذي أقيم في باريس عام 1937. وكان بيكاسو قد انتهى من اللوحة في أواسط يونيو 1937. غرنيكا تعرض مأساة الحرب والمعاناة التي تسببها للأفراد، وقد صارت معلماً أثرياً، لتصبح مذكراً دائماً بمآسي الحروب، إضافة لاعتبارها رمزا مضاداً للحرب وتجسيداً للسلام. بعد الانتهاء منها طافت اللوحة في جولة عالمية موجزة العالم لتصبح من اللوحات الأكثر شهرة كما أن جولتها تلك ساهمت في لفت أنظار العالم للحرب الأهلية الإسبانية. اللوحة تمت بأسلوب التصوير الزيتي تتكون من الألوان الأزرق الداكن، الأسود والأبيض بطول يبلغ 3.5 أمتار وعرض يبلغ 7.8 أمتار. وهي معروضة في متحف مركز الملكة صوفيا الوطني للفنون "Museo Nacional Centro de Arte Regina Sofia" في مدريد.( عن موقع ويكيبيديا ـــ غوغل).


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية