أن يكتب الروائي عملاً تاريخياً ليس بالأمر السهل، وأن يحاول تجسيد العمل لحقبة زمنية ما، يحتاج الأمر إلى جهد كبير وشاق وخلفية ثقافية كبيرة مُلّمة بالتاريخ والجغرافيا بشكلٍ كبير، فالمهمة لا ترتكز على سرد الأحداث فقط، بل في إحاطة العمل بكل التفاصيل التي تناسب تلك الحقبة من الزمن. ليس من السهل إضافة عمل أدبي تاريخي لحقبة زمنية معروفة لأغلب الناس، وقديمة جداً، يترتب على الكاتب أن يكون حاذقاً في التاريخ والجغرافية وكل تفاصيل الحروب التي كانت في الماضي، من عتاد وسلاح ولباس وطعام وشراب وأساليب تعامل البشر مع بعضهم البعض. لا أذكر على وجه التحديد من قال من الروائيين المشهورين عالمياً بأنه لا يحب الكتابة في زمنٍ ماضي لم يعشه، لأن الخوف يمتلكه في أن يقع في مطبات تضعه في خانةٍ لا يحسد عليها. لكن ماذا لو كان العمل يعود إلى حقبة زمنية مرَّ عليها مئات الأعوام ومعروفة في أغلب تفاصيلها للناس؟

 

     الناصر صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية، القائد الذي فتح القدس واستعاد معظم الأراضي في فلسطين ولبنان، ووحد مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن في ظل الراية العباسية. وتعددت الكتب والروايات التي تروي عنه وعن حروبه ضد الفرنجة. وكعادة سليم في نحته بإزميله الخاص في عالم الأدب، وسيره في طريقه الخاص الذي لا يشبه أي طريقٍ آخر في عالم الأدب، أرادَ أن يعود إلى الماضي مئات الأعوام، ويجسد رواية تاريخية تروي عن الحروب التي خاضها الناصر صلاح الدين، عن طريق الجندي توران موسى شير مُعتمد عُشارية في إحدى السرايا التابعة لجيش الناصر؛ ليضيف لقائمة أعماله بشكلٍ خاص وللأدب بشكلٍ عام رواية تتكلم عن حروب الناصر صلاح الدين الأيوبي.

 

     يقول الفيلسوف هايدن وايت في كتابه ما بعد التاريخ: «المؤرخ لا يمكن أن يكتفي بدقة التفاصيل المُفرَدة، بل يجب عليه أن يُرَتّب ويُنَظّم مادته؛ بحيث يربط ويجمع السمات والوقائع والأفعال المفردة، بحيث تقفز أمام أعيننا صورة واضحة لأمة أو لفترة. باقتران هذه المحتويات مع صورة العرض التي تتجمع فيها معا بشكل مناسب، يستطيع المؤرخ أن يبني سرداً يتقدم بفضل التوتر بين تجليَّيْن عينيين لحياة إنسانية تحديداً. هذان التجليان جزئيان وعامّان معاً».

 

     ولم يكتفِ سليم بذكر أدق التفاصيل عن المكان والزمان وأشكالها والبلدات والحيوانات والبشر والشجر والحجر، ولم يكتفِ بترتيب وتنظيم مادته لربط وجمع السمات والوقائع والأفعال المفردة لتقفز أمام أعيننا صور واضحة لذاك الزمن، وإضافة الصفات بشكلٍ جزئي وعام للمكان والشخصيات وكل المعدات، بل أحاط الرواية المكونة من جزأين وأربعة عشر فصلاً، وفيما يقارب من ثمانمائة وخمسين صفحة و أكثر من سبعين شخصاً يقودون أحداث الرواية بشكلٍ منتظم كما لو أنه كان حاضراً في ذاك الزمان، وصورَّ الأحداث بعدسة عينه وجسدها في رواية تتكلم عن ذاك الزمان بأسلوبه الخاص، ملأها بالرموز والألغاز التي تضع القارئ في كل مرة في خانة الحيرة والدهشة من تلك الأفكار والأساليب التي تنتهي بسؤالٍ واحد، وهو: من أين يستمد خياله هذا العبقري؟

 

     يقال إن الجراد هو الحيوان الذي ينقاد لرئيسه، فيجتمع كالعسكري إذا ظعن أوله تتابع جميعه ظاعناً، وإذا نزل أوله نزل جميعه، ولعابه سم قاتل، لا يقع على شيء منه إلا أهلكه. وفي الجراد خلقة عشرة من جبابرة الحيوان مع ضعفه، ففيه وجه فرس وعينا فيل، وعنق ثور، وقرنا أيل، وصدر أسد، وبطن عقرب، وجناحا نسرٍ، وفخذا جمل، ورجلا نعامة، وذنب حية. وإذا أردنا تفصيل خلقة الجراد أكثر، سنجد أن الفرس يرمز بأنها حيوانات اجتماعيّة تعيش ضمن قطيع يحكمه ويقوده تسلسل هرمي فيما بينهم، ويمكن تمييز الأفراد المهيمنة عن الأفراد الخاضعة عن طريق ملاحظة سلوكها ولغة الجسد لديها، ويساعد التّسلسل الهرمي ومعرفة كل حصان رتبته ضمن القطيع على تقليل السّلوك العدواني.

     والفيل يرمز إلى الحكمة والمثابرة والتصميم والتضامن والتواصل الاجتماعي، والصداقة الحميمة والذاكرة وطول العمر والقوة.

ويرمز الثور بالطاقات الشمسية، والتصميم، والقوة، وبالطبع الفحولة.

والأيائل حيوان الروح والرمزية والمعنى، ويعتبر أحد أقوى الحيوانات الروحية.

والأسد إله الحرب وسبب انتشار الأوبئة والأمراض.

وعند اليهود يرمز العقرب إلى رؤساء القبائل.

والنسور ترمز إلى الحروب والقوى الامبريالية منذ العصر البابلي.

و صفات الجمل أنه يخزن الطاقة والماء، لا يلهث وذاكرته قوية، يغار ويبكي وينتقم.

أرجل طائر النعامة طويلة، ورفيعة، وهو ما يساعده على الركض بسرعة كبيرة تصل إلى 64.3 كم في الساعة، كما تُساعد على حمل الجسم الكبير بتوازن.

 

     ومن المعروف أن ذنب الجراد يستعمله للغرز كي يبيض، ولكن منحوا صفة ذنب الحية للجراد في التفسير. وفي كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين قال:

    «في حال كان الجراد يطير في الحلم، فيشير الأمر إلى عيش الرائي في بلد محفوفة بالمخاطر وله الكثير من الأعداء، ولكن الأمر تحت السيطرة بسبب الجنود الذين يبذلون أرواحهم من أجل سلامة المواطنين».

  

     «السماء شاغرة فوق أورشليم»: أراد سليم بركات أن يطلق هذا العنوان على روايته التي تتكلم عن حروب الناصر في القدس، المدينة التي مُنِحت قدسية من السماء، وعلى مرَّ الزمان تناوبت الأديان للسيطرة عليها بشكلٍ أو بآخر، ورغم كل تلك الحروب والمصائب التي توالت على تلك المدينة، بقيت كما هي لم يتغير فيها شيء من المقدسات الدينية، فيقول سليم في الصفحة 225:

     «هذه المدينة تحتمل إرثاً مجنوناً لا يُحتَمَل. لم يُحمّل اللهُ مدينةً، مذ خطر بباله الموحش بناءُ المدن، ما حَمَّل هذه المدينة. لقد أكثر من الوعود لأُمم شتى، في الآن ذاته، أن تكون لواحدة منها لا للأُخريات. ما الحكمة، يا ربّ؟».

 

    وإذا عدنا لتفسير الأحلام لابن سيرين عن الجراد في الحلم، بأنه يرمز إلى العيش الرائي في بلد محفوفة بالمخاطر وله الكثير من الأعداء، سنجد أن اختيار سليم لبدء الرواية هذه بفصل يحمل عنوان «الرُّسُل الجراد» لم يأتِ عن عبث، بل كان اختياره مبنياً كالعادة على خطط أعدها قبل الخوض في الكتابة.

 

     وبين اجتماعية الفرس، وحكمة ومثابرة وتصميم الفيل، وفحولة وقوة الثور، وروحية الأيل، ورمزية العقرب في رئاسة القبيلة، وذاكرة وغيرة الجمل، وسرعة النعامة، منح سليم تلك الصفات  لتُوران موسى شَيْر ورجال عُشاريَّته، وأراد أن يفتتح روايته بالجراد، إذ انه بدأ في مقدمة الرواية عن هذه الحشرة التي قيل عنها في الأديان أنها جند من جنود الله.

     «نشر الجرادُ أجنحةً شفيفةً، مائيةَ اللون، من تحت الأجنحة العليا الغمدية القاسية. نشر أجنحةً مراتب لا تُحصى في مراقي ألوانها، طائراً طيرانَه الثقيلَ، القويَّ، مرتطماً بكل شيء.» (ص9).

 

     يبدأ الرواية في هذا الفصل من بحيرة طبرية، بدردشة بين رجال عشارية توران، الذين جاؤوا من أصقاع الأرض لمساندة الناصر صلاح الدين في حربه ضد الفرنجة، يتحدثون عن الجراد ونوعه وبجانبهم أربعة أشخاص سيقوم الجند بقطع رؤوسهم بالسيوف، بعد أن سرقوا من مؤن الجيش وباعوها للفرنجة. توران هو قائد العشارية، يروي سليم الرواية عن طريقه إلى النهاية (كما ذكرت سابقاً).


     بين كردي وفارسي وقوقازي وشركسي وقوميات أخرى يسرد سليم روايته، ويخصص الفصل هذا لرجال عُشارية توران، وكيف يأتي الأمر على لسان طغرل آمر المعسكر في شرق البحيرة للالتحاق بجند الملك الناصر صلاح الدين.

     «إحدى وعشرون عُشارية ستلتحق بجند الملك الناصر صلاح، من سريَّتنا. أنت منهم. قال طغرل سليلُ الجدود من سنجار، وهو يدفع الهواء بأصابعه العشر مرتين، أمام صدره، ثم يُبقى إصبعاً واحدة مرفوعة ويطبق الأخرى». (ص١٧).

ويرتبط هجرتهم من هناك للالتحاق بجيش الناصر بهجرة الجراد:

«فلحق به تُوران، معتمدُ العُشارية: يا جناب طغرل. متى موعدنا للرحيل؟

سننتظر قليلاً. سننتظر أن يبدأ الجراد هجرةَ العودة، ردَّ الرجل». (ص ١٨).


     وبين بقائهم هناك إلى موعد الرحيل يسرد بركات روايته بصورةٍ تفصيلية كيف يقوم الجنود بالأحاديث الجانبية وهم يملؤون أوقاتهم بين التحدث عن الحروب وعن الجراد، ويتهمون الفرنجة بأنهم أرسلوا الجراد إليهم، وعن نية كل شخص بما سيفعله حين ينتصر في الحرب، ويتساءلون فيما بينهم أن قام بقتل احد في معركة ما، وكيف يقوم كل شخص بالصلاة، وعن أشكال النساء اللواتي يتمنون أسرهم.

     «إنه، يا جناب توران، إمام مسجدنا، الذي لا يترك خطبةً من غير وصف الحوريات، من أصابع أقدامهن إلى بطونهن البلور يرى الناظرُ مسيل الماء في أحشائهن إذ يشربن، إلى شعورهن المسك. ويكرر، دائماً، أن لا حرجَ في الدّين إذا وصف فروجَهن الفستقَ، البندقَ، اللوزَ الجوز، والسميدّ المُحلَّى بالقطر والعسل، يا جناب توران. ما يكاد يُنهي إمامُ مسجد بلدتي خطبتَه حتى يكاد الواحد منا أن ينكح أقرب رجل إليه أن كان أعزب، أو يركض إلى زوجته حاملاً حذاءه بيده، من العجلة، ليطرحها أرضاً وهو يصرخ: الجنة. الجنة». (ص 146).


     وفي فترة الانتظار، يُدخل سليم قردة البابون إلى المعسكر في الصفحة (٤٢)، ليضيف حياة الجنود لوعةً وتسلية، لوعة من وجودها في المعسكر، وتسليةٍ إضافية للجنود للحديث عنها؛ يطرأ على تلك الفترة عدة أمور بين أحاديث الجنود والبابون وغيرها، إلى الصفحة (٥٥) حين يقتل احد رجال عشارية توران عزيز أكبرهم سناً، مدحت أصغرهم سناً، لأنه قال له في الصفحة (٤٥): «أكره ابتسامتك يا عزيز».

     

     حاول عزيز معرفة السبب، فلم يحصل من مدحت على أي جواب، إلى أن استفرد به بجانب الخيمة وقطع رأسه.

     يقع توران ورجاله في حيرةٍ من أمرهم في العقاب الذي يستحقه عزيز لقتله مدحت، ينتهي الأمر بموت عزيز على يد نديم بُراق قائد الكوكبة بعد أن رفض وصولهم وعرضه للقاضي ليحكم عليه، حين كانوا في طريقهم للالتحاق بجيش الناصر وهو مقيد اليدين؛ يحدث شجار بين نديم وتوران لان نديم قتل عزيز، وينتهي الشجار بينهم بتقييد نديم بعد ذلك ويأمر توران بفك قيده لدفن عزيز وإكمال مسيرهم للالتحاق بجيش الناصر.

     يدخل بعدها سليم في بعض التفاصيل عن معركة بين الناصر و جيش دي لوسينيان من جيوش الفرنجة:

     «الناصر صلاح الدين لم يُعْفِ البحرَ من مساءلات الغضب فأهاجَه بأسطول يقوده أخوه الملك العادل، متعقّباً أسطول ربابنة رينالد. جعل في سلاحه العرَّادات الصغيرة ترمي بحجارة مضرَّجة بالنفط المشتعل، وعلَّق إلى حيازيم السفن أعمدة صَدْم ضخمة كالتي يهشم بها المحاربون بوابات الأسوار. أحرقتْ عرَّادات اللهب بعضاً من أسطول رينالد، وشقَّت أعمدةُ الصَّدْم - التيوسُ جوانبَ بعضٍ آخر من سفن رينالد. تنفَّس البحرُ عميقاً بعد هياج إذْ هدأ خيال الناصر صلاح الدين رِضاً، بعد مساءلاته الغاضبةِ الشكوكِ للبحر عن حياد البحر». (ص ٦٩). وينهي المعركة بتعادلٍ من تسويات السماء، على قوله.


     يحط الجنود رحالهم عند مغيب الشمس للراحة، ويتسامرون فيما بينهم عن الجياد وقدوم المسيح، ينهي سليم فترة استراحتهم بسردٍ روائي أقرب للشعر، كما لو أن الأمور اختلطت لديه وهو يملئ صفحتين (٧٤ و ٧٥) عن سهرة الجنود، ليشحن الرواية بالمحادثة التي جرت بينهم رموزاً تضع القارئ في خانةٍ مذهلة. وأعتذر عن نشرها هنا لضيق المساحة ولكي لا تصبح القراءة طويلة.


     في طريقهم للالتحاق بجيش الناصر، يسأل توران وبعض الجنود نديم عن علامة اللقاء، يجيبهم أن علامة اللقاء هي الطيور، بين حيرة ويقين يلتقي نديم بالعلامة، وهم جنودٌ مثلهم، يرأسهم رجل المطرقة يدعى عقاب. حين يسألوه عن موعد التحاقهم بجيش الناصر يقول بأنهم لن يلتحقوا بجيش الناصر صلاح الدين، يزفر الجنود لخيبة أملهم من سماع الكلمة، بعد أن ملأوا خيالهم بالمعارك التي سيخوضونها مع الناصر صلاح الدين، ولكي يتدارك الأمر يقول عقاب: «لدينا شيء آخر نفعله».

     يجلس الجميع للتحدث عن المعارك والجنود، ويقطع حديثهم صوتٌ يأتي من مؤخرة السرية صارخاً: «هناك من يتبعنا».

     يستدير الجميع ليروا من الذي يتبعهم، كان سبعة فرسان من جنود حاميات الفرنجة بالقرب منهم، يقسّم توران ونديم الجنود إلى مجموعات للحاق بهم وليتأكدوا أن كان هناك احد غيرهم، توقعوا أن يكون كمين، لكن بعد المطاردة وقتل فارس منهم لم يكونوا أكثر من جنود استطلاع فروا هاربين. بقي رجال السرية حذرين في مسيرتهم، وأرسلوا كشافين ليتفقدوا الطريق أثناءها.


     لم ينسَ سليم كالعادة دجاجاته، كما لو انه مدمن دجاج، ففي كل عمل هناك دجاج، أدخل سبع دجاجات إلى الرواية حين أستقر الرجال في بيوتٍ مهجورة داخل حصن وجدوها في طريقهم. نقنقة أصواتهم والطريقة التي تكلم فيها عنهم كانت برهاناً أن سليم كتب السطر ذاك وهو جائع و يفكر بالدجاج.


     في اليوم الثالث عشر أثناء رحلتهم إلى شرق بحيرة طبرية، تصادف السرية دسكرة في طريقها، فيها كنيسة وبعض المنازل يتصاعد الدخان من فوهة المداخن على الأسطح، يدخلون الدسكرة حذرين بمجموعات صغيرة من الجهات الأربعة ، يسمعون وقع حوافر جياد على الأرض من جهة الكنيسة، يظهر ثلاثين فارساً فرنجياً بلباسهم وعتادهم الكامل، تحدث معركة بينهم، تنتهي بانتصار رجال السرية، لكن يقتل خمسة منهم وبينهم نديم قائد الكوكبة، و يجرح آخرون من بينهم سور ميزون، وبينما كانوا يضمدون جرحه داخل الكنيسة، يسمع الرجال صوتٌ من غرفة، يقتحمون الغرفة يجدون فيها امرأة مع طفلٍ رضيع و قس، يقوم القس بخياطة جرح سور، ويتفق رجال السرية بإطلاق سراحه وتزويده مؤنة تكفيه الى ان يصل الى الناصرة، بينما يقرر توران اصطحاب المرأة مع طفلها معهم إلى بحيرة طبرية. يمكث الرجال ثلاثة أيام في الدسكرة بعدها يغادرونها بعد ان يحرقوا بيوتها و أشجارها وكل ما فيها كي لا يستفاد الفرنجة منها بشيء.


     ينتهي الفصل بالتكلم عن توران وعائلته وكيف ماتت زوجته وأوصى أخته بالعناية بالأولاد حين كان جندياً في قلعة جعبر حينها، يعود للصفوف الخلفية ليتحدث مع المرأة الفرنجية بلسان خياله ويده وهو يحاول أن يفهم منها أو يفهمها ما يريد، فتذكره المرأة بابنة صديقه في قريته حين ساعدها في ملئ دلو الماء، وأوصى أخته بالفتاة كي يطلبها من والدها حين عودته، تاركاً لخياله يتذوق لوعة الحنين في وعاء الحرب.

 

الفصل الثاني: عَرَبات:

     يُدخل سليم في هذا الفصل شريكين من الباعة الجوالة إلى الرواية، كرياكوس متَّى النصراني، وشريكه اليهودي ساحاك بن عاميت؛ لا دور لهما في هذا الفصل سوى محادثات بينهم وبين رجال المحمية وبعضٌ من النقاشات التي تحدث بين تجار وجنود، في إحدى المحادثات يجري حوار بينهم عن فكرة مدينة أورشليم:

     «متى تريد أن تستعيد أورشليم؟ قال ساحاك الشيخ المبتسم، ابن السابعة والخمسين عاماً. فوجئ طغرل. تطلع إلى مجاوريْه: (لا تتصنعوا أنكم لا تعرفون متى سنستعيد بيت المقدس. لكن سأسال نزيل حمى معسكرنا عن الأمر)، قال. حدَّق إلى ساحاك الممتلئ الجسم في قفطانه الصوف السميك، معقود الخاصرة بوشاح:

ما تظنُّ أنت؟ متى سنستعيد بيت المقدس؟

(حين تفكرون، بثقة مطلقة، أنكم استعدتموها)، ردَّ ساحاك المبتسم، ذو العينين الجاحظتين، واللحية المدبَّبة من كثرة اعتصارها براحة اليد، واللمس عليها بأصابع مطبقة.

تفكَّر طغرل في جواب التاجر اليهودي. لكن توران تكلم واصلاً ما انقطعَ برهةً: (ثم ماذا؟ أنكون استعدنا بيت المقدس إن فكَّرنا في ذلك بثقة مطلقة، أم سنستعيدها؟)، ساءله، فردَّ كرياكوس نيابة عن شريكه:

أورشليم مدينة لم تعثر على نفْسها بعد. لن يعثر عليها أحد، بل تُستعاد فكرةً.

شدَّ طغرل بثقله على ساقه العرجاء قليلاً، كأنما يستعير منها صواب الفهم:

لِمَ هذه الحرب كلها، إذاً؟

(للإلهاء عن التفكير في امتلاك أورشليم))، ردَّ ساحاك». (ص131).

 

     إذ إن سليم يرمي بسهمه إلى فكرة لم يكررها أحد من الأدباء سابقاً، فكرة إن أورشليم مدينة لا يملكها أحد، بل هي فكرة، والحروب التي تتعرض لها هذه المدينة ما هي الا لصرف الأنظار عن امتلاكها، لو دققنا في الأمر قليلاً لوجدنا أن الفكرة هذه تناسب تلك المدينة تماماً، المدينة التي لم تهدأ من الحروب منذ مئات السنين، والحروب ليست إلا إلهاء البشر عن امتلاكها.

 

 في هذا الفصل أيضا يبدأ سليم بنسجٍ تفاصيل صغيرة لأحداث كبيرة تنتهي بقطع أعناق رجال عشارية توران وطغرل ماعدا توران، لأنه كان في إجازة حينها.

     يرسل توران المرأة الفرنجية مع أبنها الرضيع برفقة كرياكوس البائع المتجول يصطحبها معه إلى الناصرة بناءاً على طلب توران.

 

     «ظنونُ العسل» هو عنوان الفصل الثالث من الرواية، حيث يدخل سليم في رسم المكان في هذا الفصل، عن طريق توزيع العسل للسرايا، مجاوراً فيها لأحاديث تتكلم عن القلاع وأورشليم ورينالد دي شاتيون أمير كرك، وبعض الأحاديث الجانبية التي تحدث بين توران وطغرل وبعض التجار. ويتكلم عن كيفية خطط صلاح الدين في حروبه مع الفرنجة، وكيف حاصر قلعة الكرك مرتين دون ان يستطيع اقتحامها.

 

     «لا تبدأ الفتوح من ثغرة في جدار حصنٍ، أو من خلع باب قلعة نطْحَاً بالصَّوادمِ الخشبية الأكباش، أو من تمزيق الحجر الأمين في الأسوار بالعرَّادات والمجانيق، أو مِنْ هَتْك طليعة جيش، أو من شَقّ صفوفه، أو من تجويع محاصَرين، أو من رجم المتحصنين بجثث الكلاب تتفسخ في ساحات القلاع، والحصون، فيغرّقها الوباءُ، أو من حيلة تستدرج الأقوياء إلى كمين أخير، أو من سم يضع حداً لعناد الحاكم المتأبّي فيستخلفُه مِنْ نسله، أو من قرابته، مِنْ يسلَّم المفاتيح إلى القاهرين طوْعاً فيأمَن.

تبدأ الفتوح برصد الفاتح للصور في خياله. وهي صور ليست لقلاع، أو أسوار، أو خنادق، أو جسور، أو أبراج، أو منْعة مِنْ سلاح ومقاتلة، بل صور القائد الغريم، المُجابه، المُدافع، الضدّ قوَّةً، بشخصه. قد لا يعرف الفاتح القائدُ غريمهُ القائد المجابه، وقد يعرفه. لكنه هناك بقدرة ممكناته خسارةً، أو مفاجأةً أيضاً. ممكناتُه هي هناك كصورته في خيال القائد الفاتح، المتهيءِ لقهره. المنازلة الأصل، الأولى، تجري متخيَّلةً في أرض متخيَّلة، بأسلحة من نَظْم البوح بين الأرواح. نزالٌ شطرنجٌ، في المخيلة، بشاهاتٍ، وفرازين، وفيَلة، وأفراس، وبياذق، ورِخاخ لا تطير. قهْرُ الغريم يَنضج خيالاً، في المتَّسع الممكن لخيال الفاتح. يكبّلَّ الفاتحُ الغريم بتتابع مستحوذٍ من الصور، ضربةُ الخيال تفتح، أخيراً، ثغرةً في نظام الغريم المُدافَّع ضد الفاتح. ينتصر الفاتح». (ص 158).

 

الفصل الرابع: إيزابيلا:

     في هذا الفصل يبدأ سليم بحبكة النهاية لطغرل والرجال الذين أوكلهم لنقل المؤنة إلى جنود أشباح من المسلمين المتنكرين داخل إمارات الفرنجة؛ يبدأ الفصل بحيرةٍ تملئ طغرل آمر المعسكر، بعد المهمة الخامسة بنقل المؤنة إلى الأشباح، بعد تلك المهمة لم يظهر الدليل الملثم في الموعد بينه وبين طغرل من أجل النقلة السادسة من مؤنة الليل، ثمانية أيام مضت على الموعد ولم يظهر الملثم. يكتشف طغرل حينها بأن الملثم لم يقدم له اسمه ابداً، «تمتم إيزابيلا قدَّم لي الرجل اسم فرسه، ولم يقدّم نفسه باسم». (ص 187).

 

     يرسل طغرل توران إلى الناصرة مع التاجران النصراني واليهودي، للبحث عن الملثم صاحب الجواد إيزابيلا، بعد أن أخبر توران طغرل أن التاجر النصراني رأى وجهه؛ يمضي توران عدة أيام في الناصرة يتردد أثناءها إلى الحانة بعد إصرار من التاجران، وفي فضولٍ منه، دون الوقوع في الشرب خوفاً. يقيمون خلالها في نزلٌ داخل المدينة، ليعودوا كل مساء إليها ثملين يتمددون في ساحة النُزل فوق الُلُبود ليثرثروا إلى أن يسرقهم النوم. 

 

     يلتقي توران والتاجران بالملثم صاحب الفرس في إحدى الأيام في سوق الناصرة، ويتردد توران فيما سيفعله معه، ويضيع بين الجموع بعدها، يحاول بعدها أن يجده مرة ثانية لكن دون جدوى.

     بعد أحد عشر يوماً في الناصرة يعود توران ويخبر طغرل عن تجَّار يصادفهم في طريقه ينقلون مؤنة في الليل من نواحي بحر لوط إلى إمارات الفرنجة، ولكي يبدد طغرل الشبهات من حوله وربما يستطيع الإيقاع بالملثم بطريقة ما، يرسل رسالة إلى سور ميزون أمين خزنة السلاح والمؤن في قلعة عجلون،ليخبره عن سرقات من خزائن العسكر إلى الفرنجة، ليرد أمين الخزنة بعد اثنين وعشرين يوماً على طغرل. يرد عليه أمين الخزنة برسالة مفادها، أنهم قبضوا على اللصوص، وتم قطع رؤوسهم، وعُلِقت على الرماح، وهو ممتنٌ جداً لطغرل على تنبيهه بالسرقة.

 

«قلوبٌ متقاطِعة» عنوان الفصل الخامس.

     بعد عودة توران من الناصرة، يطلب من طغرل إجازة ليزور بها أولاده في ضيعته جعبر. يرافق توران صديقه وربيب ضيعته مراد، ليحدّثه في طريقه عن نيته في الزواج من أبنة صديقه في الضيعة، بعد أن رآها في إجازته الأخيرة، ويخفق قلبه حباً بها، رغم إنها من عمر بناته، وتصغره بعشرين عاماً على الأقل، وينوي الزواج بها في الإجازة التالية، ويوصي أخته توهين بها إلى أن يعود، كما كان يوصي بها أولاده الثلاثة في غيابه. يصل توران ومراد سالم باديدي إلى ضيعة جعبر، ليتصالب قلب توران مع قلب أبنه زُهْراب في حبهم للفتاة ماسيني التي كان ينوي الزواج منها، بعد أن أفصحت توهين أخت توران عن نية أبنه زُهْراب في الزواج من ماسيني، الفتاة التي احبها ولم تغب عن خياله رغم قرع طبول الحرب والانتقال هنا وهناك، ليسلم حبه إلى الريح، وينثرها بعيداً عن عالمه، ليقضي إجازته في الكروم مع حصانه وهو يبوح له عن جرحٍ سيضمره في قلبه إلى الأبد.

     بعد إعلان الخطبة وتحديد موعد الزواج في الصيف، أعلن توران العودة إلى المعسكر قبل أن يبدأ الطقس بالبرود، مصطحباً معه أبنه زُهْراب إلى المعسكر، مفاجئاً الجميع بقراره، وكانت نيته كي يشتد ساعده ويصبح رجلاً بعد أن أصبح عمره في السابعة عشرة، لينهي سليم الفصل بعودة توران إلى المعسكر مع أبنه ليفاجئ طغرل آمر المعسكر أيضاً عن اصطحاب أبنه الصغير معه إلى منطقةٍ لا تضمن بقاءها لساعات إن قرعت طبول الحرب. ليخبره توران عن نيته في إرساله لإعداد وتوزيع الطعام للجنود ويكسب خبرةٍ تضعه موضع الرجال. 

 

البريدُ والعَدَّاء: الفصل السادس:

ندمٌ يكبر ويكبر داخل توران، لأنه جلَبَ أبنه زُهراب معه إلى المعسكر، اقتصرت مهمته في توزيع الطعام على الجنود، راكضاً به من المطبخ إلى الخيم؛ لم يذق توران طعم السكينة منذُ أن جلبه معه، فقرر ان يعيده في بداية الربيع، ليعود إلى خطيبته ماسيني. لكن تمشي الرياح بما لا تشتهي السفن، إلى ان حلَّ الربيع واستطاع توران ان يجد من يرافق أبنه إلى جعبر، كان قد وقع الاختيار على زُهراب من قبل وكيل البريد كوتين، ليلة رحيل زُهراب، ليعمل رسولاً وساعي بريد بين طبرية وصحراء التيه وبحر قُلْزم. لم يستطع توران رفض الطلب بعد تدخلٌ من طغرل. وبين حيرةٍ في إرساله مع كوتين أو إلى جعبر قرر أن يعود إلى طغرل ويطلب منه إعفاء أبنه من المهمة، لكن زُهراب رفض فكرة والده كي لا يحشرجه، موضحاً له ربما يكون الأمر خيراً له. فيذوق توران طعم المرارة برحيل أبنه في تلك المهمة.

 

     في نهاية الفصل يأتي تحرّيان إلى المعسكر ليصطحبوا معهم الدفتردار إلى عجلون بناءاً على طلب الأمير عز الدين، ليسمع منه أحوال المؤن على حد قولهم، يستغرب طغرل من الأمر ويحاول التملص من الأمر بزعم انه يسمع من الدفتردار ويؤمن له كل ما يلزم، لكن التحرّيان يحسموا الموضوع باصطحابه معهم تنفيذاً لأوامر أمير عجلون. يحاول توران معرفة إي شيء من التحرّيان عن أبنه زُهراب، لكن يعود إلى خيمته خائباً، منكسراً لانهم لا يعرفوا عنه شيء. 

 

     هو فصل المرارة، يقود فيه سليم لوعة الأب وندمه على قراره في اصطحاب أبنه معه إلى المعسكر، السير فيه كالسير في حقل ألغام، تنفجر الكثير منها أسفل أقدام توران، وتقطعه إلى شظايا، لكن بلا صوت ودون أن يموت.

 

«رنينٌ في الأكياس الصغيرة»: الفصل السابع:

     يهدي مقدَّم فرسان الهيكل في بيت المقدس صندوق عسل إلى الأمير عز الدين، من التي وصلت إليه هديةٍ أيضاً من آمر حامية الفرنسيين، ليكتشف الأمير عز الدين أنها من بيت المؤنة الخاصة بجيش الناصر، بعد نقاشٍ عن طريقة صنع الصندوق بينه وبين طبيبه، ليتساءل عن طريقة وصولها إليه، ليأتي الجواب من التحرّيان بعد عملية بحثٍ في المعسكرات، عن عمليات تسليم الصناديق الفارغة، أن معسكر طغرل ينقصه ثلاثة صناديق، وبعد استدعاء الدفتردار في معسكر طغرل وأستجوابه يعترف بأن طغرل طلب منه إرسال الصناديق بقيادة رجلٍ مُلثم مع رجال عشارية توران إلى جنود مسلمين يختبئون في كمائن بين الفرنجة، ومن خلالها يعترف الدفتردار أن المهمة لم تكن غايتها غير بيعها للفرنجة لينعم طغرل بالمال.

 

     يعبر جيش الناصر صلاح الدين حينها نواحي طبرية صوب الناصرة، وتتوالى الأخبار في سقوطها على يد الناصر، بعدها يأتي التأكيد أن الخطط المُعلنة عن منازلات كبيرة ستحصل بين الناصرة وطبرية، وتقع القرعة من معسكر طغرل على توران لقيادة عُشاريته للالتحاق بجيش الناصر؛ هو خبرٌ ذو حدين، من ناحية جاء اليوم الذي تمنى فيه الالتحاق بجيش الناصر، ومن ناحية أخرى لم يأتي زُهراب لينعم براحة البال، وبعد يومين من اختياره آمراً، تفتح الأرض قلبها بوصول زُهراب إلى المعسكر مع سعاة البريد وصديق توران مُراد، ليصطحب الأخير زُهراب معه إلى جعبر، ويقود توران رجال عشاريته إلى الناصرة.

 

     بعد أيامٍ قليلة يصل إلى معسكر طغرل أربعون فارساً يقودهم صاحب المطرقة عقاب حميد الدين خانجي، ومعهم الدفتردار في المعسكر، يقرأون على الجنود نبأ عزل طغرل عن قيادة المعسكر بأوامر من الأمير عز الدين، وتكليف عقاب بالولاية على سرية الجيش.

 

     في اليوم التالي بعد صلاة الفجر، تجتمع السرية قرب السرادق بناءً على طلب عقاب، و ينادي بأسماء ثمانية أشخاص من بينهم اسم توران، هم نفس الأشخاص الذين كانوا ينقلون المؤنة ليلاً بقيادة المُلثم صاحب الجواد إيزابيلا؛ يخبر طغرل عقاب أن توران ألتحق بجيش الناصر، ليأمر الجنود باصطحاب الأشخاص السبعة ومعهم طغرل إلى خيمة يقف أمام مدخلها حارسان، ليتم تجريدهم من عماماتهم في غرفة الدفتردار واحداً تلو الآخر بعد أن يتم تسجيل الأموال التي لديهم لتسليمها إلى أهاليهم، وبعدها يتم قطع رؤوسهم واحداً تلو الآخر دون أن يدرك الثاني ماذا حصل بالأول. «واحداً واحداً جيءَ بالسبعة الأعوان في نقل مؤن الليل إلى وسطاء الليل مُقتطَعَةً غدْراً من مؤن العسكر، إلى الجهة الغربية من الهرم، ثم نُقلت جثثهم، واحدة بعد واحدة، إلى الجهة الشمالية لا يلحظ القادمُ، التالي، إلى نهايته من أثرها، إلَّا الدم على الأرض بركةً وروافد». (ص 287).

     

     لكن كان لطغرل توصية خاصة من الأمير عز الدين في قتله، أوصى بأن يتم خنقه بعمامته، لإهانة العمامة التي خاضت معارك، بناءاً على قوله.

بعد أن ينتهي عقاب من تنفيذ المهمة ينهي سليم الفصل على لسان عقاب وهو يقول:

     «نظرَ عقاب إلى الأفق الغربي، أبعد من برزخه المتشقّق بين براثن الأرض وبرائن السماء. تمتم بلسان أعماقه: لا تَعُدْ يا توران. مُتْ في معركة». (ص 295).

 

العَشَاءُ الأخير: والفصل الثامن والأخير من الجزء الأول.

بحسب الأناجيل إن يهوذا الإسخريوطي التلميذ الذي خان المسيح وسلمه لليهود بعد العشاء الأخير، ندم بعد ذلك على فعلته، و أعاد المال لليهود وذهب وقتل نفسه. لكن يهوذا قام بفعلته تلك طمعاً بالمال لنفسه؛ أمّا ندم توران لم يكن مثل يهوذا، بل بقي هناك خيطٌ رفيع من راحة الضمير، بأنه كان جندياً مأموراً ولم يقبض المال ثمن خيانته، لكنه ترجم الخيانة بأن الملثم هو كان الدليل بين جيوش الفرنجة ومستودعات جيوش المسلمين، فأراد الانتقام لحظة لقاءه به، بعد أن عُلم من آمر حاميةٍ صغيرة يدعى نور بأنه تم قطع أعناق سبعة رجال من جنود معسكر طغرل، أثناء عودته إلى المعسكر وفي نيته بأن يطلب من طغرل إجازة يزور بها أولاده. بعد أن يعلم بالأمر يقرر أن يبتعد عن المكان ويغير وجهته إلى صور مع التاجر النصراني وثلاثة آخرون شركاءه. في تلك الأثناء يلتقي توران بالمُلثم صاحب الجواد إيزابيلا، ومعه قافلة صغيرة وبغال ينقلون فيها أمتعة وأكياس، حين كانوا في استراحةٍ في طريقهم إلى صور. يذهب توران إليه بعد أن يتأكد من أنه هو نفسه الدليل الذي كان يرشدهم ليلاً في الطريق أثناء نقل المعونة، ليقوم توران بقطع يديه من الرسغين، بعد معركة صغيرة تحصل بينهم. 

     تنتهي الرواية بوصول توران إلى صور برفقة تاجران ميمو وماريو، تعرف عليهم من خلال التاجر النصراني. 

     «مالك صامتاً؟ أخطفك تنّينُ البحر الليغوريّ، يا حضرة توران؟

ساءله ميمو.

لم يُجبُ توران. حسرَ خمارَه عن شعره البني الطويل، المتماوج. ربت على عنق جواده: ميلينا، همسَ بلسانه الثاني ــ لسان الحقائق المحتجبةِ ــ لظاهر يقينه. ابتسم لنفْسه امتناناً أنه لم يخطئ في لفظ اسمها بالحروف المتكتّمة على منطق الصوت. أدار وجهه غرباً.

عضَّ البحرُّ بأسنان اللانهائيّ على خيال توران.

عضَّ توران بأسنان بصره على البحر». (ص 393).

 

     لم يكن اسم جواده ميليلنا، ولم يذكر سليم اسم جواد توران، لكنه أطلق على الجواد هذا الاسم حين تذكر المرأة النصرانية التي أصطحبها معه أثناء اقتحامهم الدسكرة والتقوا فيها المرأة النصرانية ميلينا مع طفلها الرضيع و القس. كما لو أن الندم عضّ بخيال وذاكرة توران أنه لم يتزوجها، وأرسلها مع التجار إلى الناصرة.

 

     في مقابلة سليم مع محطة كوردسات قال: «لست ضد التكنولوجيا، لكن بقيت في زمان ومكان ما ولم أستطع الخروج منها».

 

     هذا القول يجعلني أقف حائراً حين اقرأ أعماله، بسبب القدرة التي يمتلكها في الدخول في تفاصيل الأشياء وترتيبها وسردها بالحجم والشكل واللون عن الماضي، لا ينسى شيء، كما لو أنه ولدَ في ذاك الزمان وبقي إلى يومنا هذا ليكتب لنا روايات عن ذاك الزمان.

 

     وفي كتاب المحاورة بينه وبين الشاعر والروائي وليد هرمز «لوعة كالرياضيّات وحنين كالهندسة»، يقول بركات عن راويته السماء شاغرة فوق أورشليم: 

«لم أفهم (بقدْرٍ من المرارة) كيف لم تحظ هذه الرواية الواسعة عرْضاً باهتمام النقد العربي على دقَّتها، وصرامة بناء جزأيها، فيما حظِيَت رواية «الصليبين» للبناني الفرنسي أمين معلوف بكل ذلك التقدير على مادَّتها (التجميعية). 

لو كُتِبت روايتي باللغة الإنكليزية، أو الفرنسية، أو الإسبانية، أو الألمانية، لاحترقت قلوب النقاد العرب هياماً بها». (ص 80 و 81).

 

     بعد قراءتي لهذه الرواية أستطيع أن أجزم أنه لو اكتشفها أحد النقاد أو المخرجين أو شركات الإنتاج، لوضع يده عليها، لتحويلها إلى عملٍ درامي، ومن المؤكد إنها ستحصد الجوائز. ولكن للأسف مرَّ على صدورها أحد عشر عاماً إلى اليوم ولم أجد حتى مقال عنها، أو قراءة، رغم أنني صادفت الكثير من الأصدقاء قرؤوها، لكن لم يتجرأ أحد عن الكتابة عنها، لربما لمتانة وصرامة الرواية، والطريقة التي قام بها سليم بإضافة ميزات أخرى غير مود مشحون يتميز عن باقي الأعمال بكثرة الأشخاص والأماكن والقوميات وتفاصيل الأشياء التي كانت تُستخدم في ذاك الزمان، سارداً عن طريق جندي من الجنود حكايات وأحداث الحروب التي حصلت في ذاك الزمان.

 

     هي ليست رواية تتكلم عن الماضي فقط، هي خريطة رسمها سليم بأسلوبه الخاص وخياله، ليدل القارئ إلى وجهة نظره عن الحياة في ذاك الزمان، عن تلك الحروب والحياة التي كان يعيشها البشر. تاركاً للقارئ أحداثاً مليئة بالتشويق، يسردها بطريقةٍ ذكية، يضعنا في ركن التاريخ، على أننا نحن التاريخ، ولماذا ما نحن عليه. تاركاً أبواب التاريخ مفتوحة على مصراعيها لجميع الناس. يجيب فيها عن كل الأسئلة التي تطرح في التاريخ. ليترك للأجيال مفتاح زمنٍ ما لا يجب تجاهله. لأن الذي يتجاهل تاريخه لا ماضي له ولا مستقبل. وإذا أردنا أن نفهم اليوم، علينا أن نبحث عن الأمس. وهذه الرواية عن أمس المدن التي خاض فيها صلاح الدين حروبه. مزج فيها الأحداث والأخطاء والمفاجآت، ليفرض فيها نظامه الخاص الذي يبني عليه خياله. تاركاً لنا رواية ستبقى خالدة للأبد.

     السماء شاغرة فوق أورشليم وغير شاغرة فوق سليم.

 

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية