طيلة مسيرته الشعرية لم يتّخذ موقفاً متعصباً متحاملاً على مدرسة شعرية بعينها، إذ يقرأ لأشهر الشعراء، ولأصغرهم، كما لم يعد يجد الإعلام والشهرة على درجة كبيرة من الإغراء، حتى يسعى دائماً لتعزيز تواجده الشعري.

لا يتوقّف عن كتابة الشعر، إذ يجد نفسه جندياً مجهولاً من جنود الشعر، يعاقره صباح مساء، ولا يمكن له تصور الحياة دونه، ولأن الحزن يعتصر قلبه على ما خلّفته الحرب من دمار كبير في بلاده، يهرب في كل دقيقة وساعة إلى الشعر، علّه يجد فيه خلاصه وراحته.

تنوّع في القصائد

يكتب الشاعر جميل داري الشعر بنوعيه العمودي والتفعيلي، وفي التفعيلة ينوّع في الروي والقافية، وتتنوع قصائده في درجات الجودة، حسب رأيه ومعظم المتابعين لتجربته، ويقول: "إني أتعامل مع هذا الشعر من موقع القارئ والناقد، وأعرف ما له وما عليه، كما أن نقد الآخرين بنوعيه الموضوعي والمتحامل أتقبله بروح رياضية وشعرية، وأستفيد من بعض الآراء، وأعيد النظر في القصيدة بناء عليها أحياناً، وأحياناً أخرى أكتب قصيدة وأعود إليها بعد فترة فأراها لا تمت للشعر بصلة، أو تكون كمية الشعرية فيها قليلة، فأشطبها نهائياً دون ندم، لا سيما عندما أرى أنه لا يحمل من الشعر إلا الوزن فقط، ومن هنا فالوزن وحده لا يصنع قصيدة، لأن عناصرها كثيرة مرئية وغير مرئية، لذا قد أجد في نص نثري جماليات غير موجودة في الشعر الموزون، وأنا لا أسمي النص شعراً إلا إذا كان شعراً حقاً من وجهة نظري".


يجد داري نفسه يتعامل بعدالة مع كل طرائق الشعر وأساليبه، فما يهمه في النص هو أن يحركه ويزعزعه ويوقظ في دواخله أفكاراً هاجعة ومشاعر نائمة، ويعلق: "كثيراً ما أقرأ نصاً بديعاً يجعلني أهذي ببدايات نص لم يكن في البال قط، كما لا تهمني مسألة الحداثة الشكلية والقفز على حبال اللغة، بل مايهمّ مقدار الشعرية في النص الأدبي، وقد أرى هذه الشعرية في ومضة ما أو قصة قصيرة أو رواية أو طائر غريب بعيد عن سربه أو زهرة على ناصية الدرب أو شجرة وحيدة تعاقر ظلها المنحني أو وجه امرأة تنتظر حبيبا بعيداً... إلخ".

حديث مع الأموات

تظهر جرعة الحزن والحديث مع الأموات بكثرة في قصائد داري، خاصة أنّه يجد الموت كثيراً في حياتنا..! لا يقصد موت الجسد فحسب، بل موت الروح، والقيم، والطفولة، وإنسانية الإنسان، يتساءل: "كيف يمكن للشاعر أن يقف مكتوف اليدين أمام هذا الموت الزاحف الذي يأكل الأخضر واليابس ..؟"

يردّد داري أنّه يعيش الحزن قبل القصيدة وبعدها، لكن في أثناء القصيدة يقف وجهاً لوجه أمام الحزن، يحاوره، ويتقمصه، بل يتغلغل فيه، وفي هذه الأثناء يشعر أنه يتخفف من أعبائه، وكأنه بحواره معه يريد أن يمنحه الفرصة ليعبّر عن موقفه منه رضىً، وسخطاً، وصداقة وعداوة، وقد اختصر ذلك في كلامه: "الشعر هو رسول الروح إلى العالم، والروح الحزينة تضفي ظلالها من خلال النص الشعري، وكم من قصيدة تجعلنا نبكي، وحين نبكي.. فإن الكثير من غيوم الحزن تتلاشى، فيشعر الشاعر ببرد اللحظة الهاربة، لأن الحزن هو القاعدة وسواه الاستثناء..".

قصائده عامة تدور في فلك الحزن والكآبة والتشاؤم ويعلق على ذلك: "هذا لا يعني أن بيني وبين هذه الأمور اتفاقيات ود ومعاهدات سلام...أنا لا أرى حولي إلا هذا السواد المضرج بالسواد.. فالحياة مكتظة بالمآسي الحبالى، وأنا دوري هو إجراء حوار معها، وإقناعها بأن تولي الأدبار.. ومع ذلك بعض القراء المحبين يطلبون مني أن أتخلى عن حزني وكأن الأمر بيدي.. هل يمكن للإنسان أن يتخلى عن لون عينيه أو عن نبرة صوته ونبض روحه؟"


نشوة روحية

تأثر داري بالعديد من المدارس الشعرية المختلفة، فكلّ مدرسة شعرية تصل إلى حد التناقض الفني، لكن ما يهمّه هو الشعرية التي تجعله في حالة من النشوة الروحية، بغض النظر عن اتفاقه أو اختلافه الفني والفكري معهم، حيث تؤثر به بشكل عامّ الروح الإنسانية والنزعة التواقة إلى الحرية بمعناها الإنساني الشامل.

الشعور بالغربة والاغتراب يلازمانه منذ وعيه بالحياة، وربما كان هذا الشعور أحدّ وأمرّ وهو في مدينته عامودا، أو في أي مكان في سوريا، وهذا عائد إلى عدم الانسجام مع الواقع الذي كان يرفضه نهائياً بيده ولسانه وقلبه، كما عبّر، مضيفاً: "فكم صعب على نفس الشاعر أن يقاد مع القطيع إلى حظيرة الإهمال، وهو يرى حوله أشباه بشر يسرحون، ويمرحون، ويتشدقون بشعارات فظة قميئة لا يمكن أن تسايرهم على طول الخط، لهذا توضع الخطوط الحمراء تحت اسمك بكثافة، لأنك مشكوك بوطنيتك أو ولائك لمن يتاجر بالوطنية، ويبيعها في أقرب سوق.."

مواجهة الفساد بالقلم

أشار جميل داري إلى أن النظام في سوريا والمتاجرين بالإسلام وغيرهم شوهوا سوريا، ولايجد أن بلاده ستنهض بسهولة من تحت هذا الركام، إلا بعد زمن طويل، بسبب حجم الدمار الذي لايزال مستمراً.

وأضاف معلقاً على مشاهد متعددة في سوريا: "عندما يكون الوطن مسرحاً لممثلين فاشلين ومزرعة لتجار السياسة والمبادئ، لا يمكن لك إلا أن تواجه هذا الفساد بقلمك، أو على الأقل برفضك الصامت لما يجري، وإلا كنت شريكاً صغيراً لتلك الشرائح الغبية التي لا يظهر ذكاؤها إلا في تمييع الواقع وتجريده من كل قيمه الأصيلة، حتى يغدو الواقع قمامة، ويختلط الصالح بالطالح، والشريف بالوضيع، وهنا أتذكر مقولة للطيب تيزيني: "هدف السلطة هو إفساد من لم يفسد بعد" سواء أكانت سلطة سياسية أو فكرية أو أدبية وعندما يعم الفساد براً وبحراً وجواً فأين المفر؟"

الحبّ محرّك الإبداع

يرى داري أن الشاعر، أي شاعر في حالة حب دائمة، لأن الحب هو المحرض الرئيسي للفن عموماً، والشعر خصوصاً، ومن دون الحب لا يستطيع أي مبدع أن يكتب شيئاً ذا قيمة، سواء الحب بمعناه الخاص أو العام، وهو بدوره كتب قصائد حب كثيرة للمرأة، والوطن، والحرية، فهي الأقانيم الثلاثة المقدسة عنده، ويقول: "قد أكتب قصيدة حبّ في امرأة من وهمي وخيالي، ومن ضلوع اللغة التي تقفز بين الحقيقة والواقع، ففي حياة كل شاعر امرأة رحلت أو لم تحضر بعد، فالمرأة في نظر الشاعر رمز إلى الجمال الغائب والفردوس المفقود .."

ويجدر الذكر أن جميل داري من مواليد مدينة عامودا السورية (1953)، حصل على الإجازة في اللغة العربية من جامعة حلب 1978، صدر له: "السفر إلى عينيك بعد المنفى" (1984)، "إن القرى لم تنتظر شهداءها" (1993)، وديوان "حرائق" في 2014.  ينشر منذ أوائل السبعينات قصائده وكتاباته الأدبية في الصحف والمجلات الصادرة بالعربية، يعيش الآن في إمارة دبي.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية