هناك عدة عوامل تؤهل إندونيسيا لتصبح قوة عالمية عظمى، فتعداد سكانها يزيد على 300 مليون نسمة، بالإضافة إلى امتلاكها قدرًا هائلًا من الموارد الطبيعية، مما ساعدها على تحقيق قفزة اقتصادية هائلة جعلت اقتصادها الأكبر في منطقة جنوب شرق آسيا. ولأن القوى العظمى لا تقتصر تأثيرها على الجانب الاقتصادي فحسب، فقد أصبحنا نشهد دورًا سياسيًا متناميًا لإندونيسيا على الساحة الدولية لا سيما من خلال رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان). لذا كان من الضروري إلقاء نظرة على هذه الدولة المحورية وتطلعاتها المستقبلية. 

نشاط مكثف لإندونيسيا على الساحة الدولية

كان عام 2023 فرصة ممتازة لإندونيسيا لتعزيز دورها كرئيس لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وتظهر قدرتها على القيادة الإقليمية. في هذا السياق، لعبت إندونيسيا دورًا بارزًا في تخفيف التوترات وتعزيز التعاون الإقليمي. على سبيل المثال، في عام 2022، كانت إندونيسيا رئيسًا لمجموعة العشرين وتمكنت من تنظيم قمة بالي وإصدار بيان مشترك، مما أظهر مهاراتها الدبلوماسية في التعامل مع التحديات الدولية. وجاء ذلك في وقت تزايدت فيه المخاوف من تعرض إطار مجموعة العشرين لخلل وظيفي على خلفية اشتداد المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين وتباين وجهات النظر بشأن الحرب في أوكرانيا. ومن خلال قيادتها في آسيان، أظهرت إندونيسيا إرادة قوية لتعزيز التكامل الإقليمي وتحسين العلاقات بين الدول الأعضاء. كما أنها تعاونت مع الشركاء الإقليميين لمعالجة القضايا الهامة، مثل التنمية المستدامة والأمان الإقليمي. النجاح في هذا الدور القيادي أعطى لإندونيسيا مكانة مرموقة في المحافل الدولية وساهم في تعزيز سمعتها كدولة تلعب دورًا فاعلًا في حل القضايا الإقليمية والدولية.

وكانت رابطة آسيان قد اضطرت في السنوات الأخيرة إلى التعامل مع توترات كبيرة داخل التكتل بشأن الاتفاق على مدونة قواعد السلوك في بحر الصين الجنوبي مع الصين، بالإضافة إلى العلاقات مع ميانمار في أعقاب الانقلاب العسكري عام 2021. ولعل رئاسة إندونيسيا للرابطة في عام 2023 تمثل أفضل فرصة منذ سنوات لإيجاد حل لهذه القضايا والحيلولة دون تقسيم آسيان.

لكن في النهاية، خصص الرئيس جوكو ويدودو (جوكوي) القليل من الموارد السياسية والدبلوماسية في عام 2023 لحل المخاوف الملحة لآسيان. كان الموضوع الذي اختارته إندونيسيا لقمة رابطة دول جنوب شرق آسيا الثالثة والأربعين هو ”آسيان مهمة: مركز النمو“. وأثناء القمة، ركزت إندونيسيا بشكل خاص على حفل العشاء الذي أقيم للزعماء، والذي بدا من تنظيمه وكأنه يحظى بالأولوية حتى على اجتماعات القمة. لكنه، ومن ناحية أخرى، عزز صفات القيادة و”العلامة التجارية“ لإندونيسيا على الصعيد الدبلوماسي باعتبارها قوة قادرة على تجميع مختلف الأطراف، الأمر الذي ظهر بوضوح في النجاحات الدبلوماسية التي حققتها إندونيسيا في عام 2022. وعلى الرغم من توليها منصب الرئاسة، بدا كما لو كانت إندونيسيا تحاول تجنب التعامل مع أجندة أكثر طموحاً تركز على مواجهة التوترات التي طال أمدها وإعادة بث الروح في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).

الدبلوماسية الإندونيسية تفضل تجنب المواضيع الشائكة في الوقت الحالي

لكن عند النظر للأمر من وجهة نظر متخصصة في إدارة المخاطر، فربما كان هذا القرار حكيماً. إذا رأت جاكرتا أن القضايا التي تواجهها رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) أصعب من أن يتم حلها بشكل معقول، فمن المنطقي أن تتجنب التركيز على هذه القضايا أثناء القمة، لأن القيام بذلك سيؤدي فقط إلى خروج التوترات إلى العلن، وإذا حدث هذا، فلن تكون فقط مصداقية إندونيسيا الدولية التي اكتسبتها بشق الأنفس معرضة للخطر، بل إن الضرر ربما يلحق أيضاً برابطة دول جنوب شرق آسيا نفسها في وقت حساس. إن خطر تحول الرسالة إلى ”آسيان لا تهم“ قد يلحق الضرر بالآسيان سياسياً وحتى اقتصادياً على المدى البعيد.

ومع تخلي الولايات المتحدة والصين عن مفهوم مركزية رابطة دول جنوب شرق آسيا في سياساتهما الخاصة بجنوب شرق آسيا والتحول إلى نهج أكثر ثنائية وأحادية في التعامل مع المنطقة، أصبح الأمر متروكاً الآن للدول الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا للحفاظ على الثقل الدبلوماسي للمجموعة. ومع اختلال الحوكمة العالمية على نحو متزايد، فمن المحتمل أن تظل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) قادرة على الاضطلاع بدور مهم على المستوى الاستراتيجي في الحفاظ على السلام والاستقرار الإقليميين.

بالتالي، فإن ما كان مطلوبًا من إندونيسيا في عام 2023 باعتبارها القوة الإقليمية المهيمنة هو ضمان الالتزام المستمر لدول جنوب شرق آسيا، على اختلاف مصالحها الجيوسياسية، تجاه رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وبناء الثقة في المنظمة. وهذا ما فعله جوكوي في أبريل/ نيسان 2021، عندما قامت إندونيسيا، نيابة عن بروناي التي كانت رئيساً للرابطة عام 2021، بإحضار مين أونغ هلاينغ (القائد الأعلى للقوات المسلحة في ميانمار) إلى جاكرتا لإجراء محادثات حول الأزمة التي اندلعت في أعقاب الانقلاب العسكري في ميانمار في فبراير/ شباط 2021.

العلاقات السعودية الإندونيسية

لكي نفهم أكثر سبب تجنب إندونيسيا التعامل مع أجندة القيادة الطموحة في عام 2023، يجب علينا أيضًا أن نأخذ في الاعتبار دور السياسات والمصالح الداخلية، مثلما نفعل عند النظر في سلوك السياسة الخارجية للولايات المتحدة أو الصين.

كانت إحدى السمات المميزة لإدارة جوكوي هي تركيزها على النمو الاقتصادي، سواء لدعم شرعيتها أو لبناء إرث جوكوي السياسي. ولعل أبرز ما قامت به هو استراتيجية النمو الوطني في إندونيسيا، أو Visi Indonesia Emas 2045 (رؤية إندونيسيا 2045) التي تمت صياغتها في عام 2017، وتحدد العديد من الأهداف الاقتصادية لإندونيسيا كي تحققها بحلول عام 2045، الذي يصادف الذكرى المئوية لإندونيسيا كدولة مستقلة ذات سيادة. وتشمل هذه الأهداف تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 5% إلى 6% سنوياً، وجعل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 29 ألف دولار أمريكي في بلد يزيد تعداد سكانه على 300 مليون نسمة، لتصبح رابع أكبر اقتصاد في العالم، والخروج من فخ الدخل المتوسط للانضمام إلى مصاف الدول المتقدمة ذات الدخل المرتفع.

ولتحقيق هذه الغاية، حشدت جاكرتا مواردها السياسية من خلال التركيز على بناء البنية التحتية وتنمية الموارد البشرية. وفي المقابل، تمت صياغة السياسة الخارجية والدبلوماسية من أجل تحقيق هذه النتائج طويلة المدى. وكانت العناصر الرئيسية لهذه الاستراتيجية هي جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، والتنفيذ الناجح للاكتتابات العامة الأولية للشركات في الخارج لتمويل البنية التحتية، وتطوير الصناعات، وزيادة الصادرات. وبطبيعة الحال، فقد ركزت استراتيجية العلاقات الدبلوماسية مع شركاء الاستثمار المحتملين، أولا على أكبر اقتصادين في العالم، الولايات المتحدة والصين، تليهما العلاقات المعززة مع القوى الاقتصادية الكبرى الأخرى مثل اليابان.

علاوة على ذلك، عندما زار العاهل السعودي الملك سلمان جاكرتا في مارس/آذار 2017، بذل جوكوي كل جهوده الدبلوماسية ليحظى جلالته بترحيب ملكي حقيقي. لكن عندما أصبح من الواضح أن استثمارات المملكة العربية السعودية في إندونيسيا ستكون أقل بكثير من التوقعات، لم يخجل الرئيس الإندونيسي من التعبير عن استيائه علنًا.

كما أن عدم حضور الرئيس جوكوي ولو مرة واحدة للجمعية العامة للأمم المتحدة منذ تنصيبه في عام 2014 يشير إلى أن الأمن والقيم المشتركة لا تشكلان أولوية قصوى بالنسبة لإدارته. لقد تم تقييم نجاحات السياسة الخارجية لإندونيسيا في عصر جوكوي، في المقام الأول، على أساس الربح والخسارة بالنسبة للاقتصاد المحلي.

تأثير الجائحة على النمو الاقتصادي

في عام 2017، تم وضع استراتيجية النمو الخاصة برؤية إندونيسيا 2045، لكن التركيز السائد الآن على الاقتصاد لم يتعزز إلا في بدايات تفشي جائحة كوفيد-19. فبسبب التباطؤ الناجم عن الوباء أصبح الوصول إلى الهدف الأصلي المتمثل في تحقيق نمو بنسبة 5.1% على أساس سنوي تحديا كبيراً، وهي النسبة التي تضمن خروج إندونيسيا من فخ الدخل المتوسط بحلول عام 2038 مع تمتع البلاد بمزاياها الديموغرافية. إلا أن النمو السلبي الذي شهدته البلاد في عام 2020 وحده يعني أنه أصبح من المطلوب الآن تحقيق نمو سنوي بنسبة 7% للوصول إلى الهدف طويل الأجل.

ومع ذلك، هناك بعض الرياح الداعمة للاقتصاد الإندونيسي. إن نقل العاصمة من جاكرتا إلى نوسانتارا، المقرر الانتهاء منه بحلول عام 2045، سوف يحفز القطاعين العام والخاص، وقد تم اعتماد استراتيجية صناعية تهدف إلى وضع إندونيسيا كمركز دولي لتصنيع بطاريات السيارات الكهربائية لجذب استثمارات القطاع الخاص، إلا أن الجدوى من وراء هذه السياسات لا تزال موضع تساؤلات. علاوة على ذلك، لا تزال إندونيسيا تعتمد حاليًا على مبيعات الموارد الطبيعية مثل الفحم لتوفير احتياطاتها من العملات الأجنبية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية في أعقاب جائحة كوفيد-19 وغزو أوكرانيا. ومع معدل نمو يقل حاليا عن 5% سنويا، سيكون من الصعب تحقيق هدف الانضمام إلى مصاف الدول المتقدمة بحلول عام 2045. حتى أن بعض الاقتصاديين الإندونيسيين أعربوا عن قلقهم حيال ذلك من خلال صياغة مصطلح إندونيسيا سيما (إندونيسيا القلقة) بدلاً من إندونيسيا إيماس (إندونيسيا الذهبية) الوارد في العنوان الرئيسي لاستراتيجية النمو الاقتصادي لعام 2045.

استغلال الزيارات الدبلوماسية لجذب الاستثمارات

وكرد على ذلك، يركز الرئيس جوكوي على دبلوماسية أكثر قوة لجذب الاستثمار. فعندما زار واشنطن في عام 2022 لحضور أول قمة خاصة على الإطلاق بين آسيان والولايات المتحدة، أعلن على الموقع الرئاسي الرسمي أن أكبر إنجازاته خلال تلك الزيارة، لم تكن لقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن، بل الاجتماعات التي أجراها مع إيلون ماسك ورواد أعمال أمريكيين آخرين. وخلال زيارته إلى بكين لحضور قمة الحزام والطريق في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كرر جوكوي دعوته للاستثمار في العاصمة الجديدة وصناعة النيكل لإنتاج البطاريات.

علاوة على ذلك، خلال قمة الآسيان في سبتمبر/ أيلول 2023، بدا أن جوكوي يركز بشكل أكبر على إنجاح منتدى آسيان الهندي والمحيط الهادئ أكثر من تركيزه على الجلسة العامة لرابطة آسيان. ودعا المشاركين إلى الاستثمار في البنية التحتية الخضراء، وخطط التمويل المستدامة، والتحول الرقمي. وبذلك، يكون جوكوي قد جعل قمة الآسيان بمثابة ساحة لفرص الاستثمار بدلاً من كونها ساحة للجغرافيا السياسية، وفي نفس الوقت، يكون قد أعاد تعريف وصف ”المفتوحة“ الوارد في رؤية كل من اليابان والولايات المتحدة ”الحرة والمفتوحة“ لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ على أنها تعني ”المفتوحة لفرص الاستثمار“ للحكومات والشركات من جميع أنحاء العالم.

بالنظر إلى ما سبق، فإن موقف اليابان ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في استراتيجية السياسة الخارجية الحالية لإندونيسيا واضح. وتحتاج إندونيسيا بشكل عاجل إلى تسريع وتيرة الاستثمار والتعاون الاقتصادي الملموس حتى تتمكن من الحفاظ على معدل نمو مرتفع على المدى الطويل. بالتالي فإن أي مبادرات ومقترحات تعاون تركز على اليابان أو ذات صلة برابطة دول جنوب شرق آسيا سوف تحتاج إلى معالجة هذا العنصر الأساسي من عناصر الاستراتيجية الوطنية لإندونيسيا. وعليه، فإن كيفية قيام اليابان أو غيرها من الدول بذلك سوف تؤثر بشكل مباشر على حجم الأولوية الذي ستعطيه إندونيسيا إلى تلك الدولة.

وهذا لا يعني أن إندونيسيا غير مبالية تماما بالقضايا الاجتماعية الداخلية أو التحديات الأمنية، لكنها فقط لا تأتي على رأس الترتيب الحالي لأولويات السياسة الخارجية لإندونيسيا، حيث أن تحقيق المكاسب الاقتصادية في معظم الدول يحتل مرتبة أعلى من القيم السياسية أو الدينية المشتركة، أو حقوق الإنسان، أو تعزيز الديمقراطية، أو حتى مصالح منطقة جنوب شرق آسيا والاستقرار الإقليمي. لقد كان هذا ثابتًا خلال إدارة جوكوي وسيستمر إلى أن يتولى رئيس جديد السلطة في عام 2024. 

أهمية الانتخابات الرئاسية عام 2024

على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، أجرت إندونيسيا الانتخابات الأكثر حرية وعدالة في جنوب شرق آسيا، ومن غير المتوقع أن يكون الأمر مختلفا في انتخابات عام 2024. ونظرًا للقيود الدستورية، فمن المؤكد أن حكومة جديدة سوف تتولى السلطة في عام 2024 للمرة الأولى منذ عقد من الزمن. اعتمادا على من سيصبح رئيسا، فإن تعريف جاكرتا للمصالح الوطنية التي تحرك السياسة الخارجية والاستراتيجية لإندونيسيا قد يستمر على نفس المنوال الذي شهدناه خلال إدارة جوكوي، أو قد يحدث العكس ويتغير كل شيء بشكل كبير.

حتى الآن، تجنبت الحكومة الإندونيسية إلزام نفسها صراحة بتحقيق هدف التحول إلى قوة عظمى عالمية. ونظراً للاتجاه الحالي في الشؤون العالمية للقوى الكبرى المتمثل في إعطاء الأولوية لاقتصاداتها، فإن نهج إعطاء الأولوية للاقتصاد الذي تتبعه إندونيسيا ليس مفاجئاً إلى هذا الحد. ومن المهم أن نتذكر أن إندونيسيا هي قوة إقليمية بحكم الأمر الواقع، ولديها القدرة على أن تصبح قوة عالمية عظمى. فهي تفتخر بعدد سكانها الهائل، واقتصادها هو بالفعل الأكبر في منطقة جنوب شرق آسيا. لذلك، بالنسبة لليابان وغيرها من دول رابطة جنوب شرق آسيا، التي تدرك بالفعل الأهمية الجيوسياسية لإندونيسيا، فإن مراقبة الاتجاهات السياسية الداخلية للبلاد عن كثب ستظل أهمية قصوى بغض النظر عن أي تصريحات تتعلق بالسياسة الخارجية بشأن طموحات القوة العظمى.

المصدر: نيبون 

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية