"في ذات ليلة" وبينما كان المواطنون الأتراك نياما وقع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، مرسوما رئاسيا قلب فيه التوقعات المالية رأسا على عقب، وأعطى صورة قد تكون فريدة في عالم الاقتصاد، بإقالته محافظ المصرف المركزي، ناجي أغبال، بعد خمسة أشهر على تعيينه.

قرار الإقالة هو مؤشر على عدم استقلالية قرار المصرف المركزي، حسب مراقبين أتراك، وألقى بظلاله على الأسواق التركية صبيحة، الاثنين، وبشكل خاص على قيمة الليرة التركية في سوق العملات الأجنبية، والتي تجاوز سعر صرف الواحدة منها 8.4 مقابل الدولار الواحد، في تدهور رافقه تعليق التداول لمدة وجيزة في بورصة إسطنبول، بعدما هبط مؤشرها الرئيسي بأكثر من ستة في المئة.

تخبط ووجوم يقابله ترقب في الأسواق لما سيكون عليه سعر صرف الليرة التركية في الأيام المقبلة، وأيضا لما ستكون عليه السياسة الجديدة للمحافظ الجديد، شهاب قافجي أوغلو، والذي يعتبر من مناصري فكرة عدم رفع سعر الفائدة، وهو التوجه ذاته الذي يصر عليه إردوغان، حتى أنه اعتبر في وقت سابق أن سعر الفائدة هو "أب وأم كل الشرور".

وفي الوقت الذي لم يخرج به المحافظ الجديد بتصريحات إلى الواجهة، أعلن وزير المالية التركي، لطفي علوان أن الحكومة التركية "ستواصل تنفيذ السياسات المالية الهادفة لدعم استقرار الأسعار بطريقة مكملة للسياسة النقدية".

وأضاف في تصريحات لوكالة الأناضول الاثنين: "أولوية خفض التضخم الذي نطبقه في إطار السياسة الكلية، مستمرة حتى يتم تحقيق انخفاض دائم في التضخم".

ويرى اقتصاديون أن رفع سعر الفائدة من شأنه أن يثبت سعر صرف الليرة التركية في سوق العملات الأجنبية، ويحد من انهيارها مجددا.

وفي المقابل هناك رأي آخر رأى يفيد بأن ما أقدم عليه المحافظ السابق، ناجي أغبال برفع السعر إلى 19 في المئة لمواجهة التضخم يعتبر "خيارا مرا" سيهدد بمزيد من البطالة في البلاد، لاسيما أنها تعاني من ارتفاع معدلها إلى نحو 13.2 حسب بيانات "هيئة الإحصاء التركية".

"لعبة شد حبل"

بالنظر إلى مسار سعر الفائدة في تركيا منذ عام 2020 وحتى الآن، يلاحظ مروره في سلوكين متناقضين، الأول على عهد وزير المالية السابق، بيرات ألبيرق ومحافظ البنك المركزي الأسبق، مراد أويصال، أما السلوك الآخر فجاء من المحافظ السابق، ناجي أغبال، ووزير المالية لطفي علوان الذي استلم عقب استقالة "ألبيرق".

ومنذ شهر يناير 2020 وحتى مايو شهد سعر الفائدة انخفاضا، من 11.25 وصولا إلى سعر 8.25، ليبقى على هذا السعر حتى شهر سبتمبر ليتم رفعه من جديد إلى نسبة 10.25، وفيما بعد إلى 15 و17 في الأشهر الأخيرة من 2020 من جانب ناجي أغبال، وصولا إلى رفعه منذ أيام إلى 19 في المئة.

أستاذ الاقتصاد في جامعة ماردين، مسلم طالاس، يرى أن إقالة محافظي البنك المركزي التركي بصورة متكررة يشي بحالة تخبط ناتج عن التوتر بين السياسي والاقتصادي في القرار.

ويقول طالاس في تصريحات لـ "موقع الحرة": "هناك ساسة لهم أجندات وأيديولوجيات سياسية وحسابات انتخابية، يحاولون لي عنق قوانين الاقتصادية، وفي المقابل ترد قوى الاقتصاد بحالات من الحمى الاقتصادية، أي التضخم وهبوط سعر الصرف، مما يجبر الساسة على مهادنة الاقتصاد إلى حين ريثما تهدأ الحمى نوعا ما".

ما سبق وصفه أستاذ الاقتصاد في جامعة ماردين التركية بأنه "لعبة شد حبل".

ويوضح أن بقاء المحافظ في موقعه هي "علامة إيجابية على استقلالية واستقرار السياسة النقدية، ومن ثم ينعكس إيجابية على قيمة العملة والثقة بها، وينعكس لاحقا على تحسن المناخ الاستثماري".

أما كثرة تغيير المحافظين يتابع طالاس أنه "علامة على تآكل استقلالية البنك المركزي، الأمر الذي يضعف من الثقة بالعملة وقيمتها، ويحفز الميول التضخمية، ومن ثم تكبح الاستثمار لاحقا".

ثلاثة محافظين بالتدريج

في علم الاقتصاد لا يمكن أن تحقق السياسة النقدية في أي بلد نتائج سريعة، وعلى الأقل يجب أن يبقى المحافظ على رأس البنك المركزي لفترة زمنية من 6 أشهر إلى 12 شهرا، حتى يكون هناك نتائج مرجوة للسياسة التي يسير فيها.

وفي حالة الاقتصاد التركي يشير اقتصاديون إلى أن الفترة الزمنية المذكورة قد تتطلب إطالة أكثر، وهو الأمر الذي لم يتم، بل كان العكس إذ تم تقصيرها تدريجيا بعد عام 2016.

مراد تشتين قايا الذي تولى منصبه في أبريل 2016 ظل به لمدة ثلاث سنوات ونصف، وتلاه مراد أويصال لمدة نقل عن عام ونصف، أما ناجي أغبال فلم يبق في منصبه سوى خمسة أشهر فقط، بمعنى أن الفرصة لم تتاح له لإنهاء ما بدأه.

ومما سبق فإن التغيير السريع لمحافظ البنك المركزي يعتبر علامة على انجراف السياسة النقدية والافتقار إلى التخطيط، وفق خبراء اقتصاد.

الخبير الاقتصادي التركي، علاء الدين شنكولر يرى أن المشكلة موجودة بين فهم وطلبات الحكومة التركية والرئيس إردوغان، وبين استقلالية وحياد قرار البنك المركزي التركي.

ويقول شنكولر في تصريحات لموقع "الحرة": "النظام والقانون في تركيا يعطيان للبنك المركزي استقلالية تامة، من أجل اتخاذ قرارات تصب في مصلحة البلد اقتصاديا، سواء فيما يتعلق بحدود الفائدة أو أمور أخرى كالمخزون من العملة الصعبة، ومقدار الذهب الموجود".

ويتابع الخبير الاقتصادي: "الحكومة والرئيس إردوغان يريدون خفض نسبة الفائدة بشكل مستمر. النقاش والمعارضة الفكرية تأتي من قبل البنك المركزي والحكومة. هذه المعادلة تجعل المصرف المركزي ومن يديره في مشاكل مستمرة مع مسؤولي الحكومة التركية".

ولن تنتهي المشكلة المذكورة بسهولة، لاسيما أنها تمتد لعامين مضيا، وزاد عليها تداعيات الإغلاق المرتبطة بانتشار وباء "كورونا".

وزاد الخبير الاقتصادي متسائلا: "سنرى كيف سيستمر المعيّن حديثا (المحافظ الجديد)، والذي وضعوه على رأس البنك المركزي. كيف سيتصرف وسيحاول حل المشكلة. الحكومة كذلك يجب أن تتراجع شيئا ما من هذا الطلب".

قفزات للتضخم

تعتبر الفائدة أداة من أدوات السياسة النقدية ضمن السياسة الاقتصادية، ويستخدم عندما يكون الاقتصاد في حالة ركود (ضعف النمو الاقتصادي).

ومع ازدياد مؤشرات البطالة في البلاد يتم خفض معدل الفائدة، من أجل تحفيز الطلب الكلي ومن ثم تنشيط الاستثمار والنمو الاقتصاد وفرص العمل.

وعندما يكون هناك تضخم، أي الارتفاع المستمر للأسعار، فإنه يجب رفع معدل الفائدة لكي يتم كبح الطلب الزائد في السوق، ومن ثم تهدئة الأسعار والتضخم.

"هيئة الإحصاء التركية" وفي آخر إحصاءاتها، مطلع مارس الحالي، كانت قد أعلنت ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين في تركيا خلال فبراير الماضي 0.91 في المئة، ليصبح التضخم 15.61 بالمئة على أساس سنوي.

وأوضحت الهيئة أنه بالنظر إلى متوسط الأشهر الـ 12 خلال العام المنصرم، فقد ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة 12.81%، وكذلك أسعار المنتجين المحليين 15.14 بالمئة.

"علاج مؤلم"

خلال حديثه لموقع "الحرة" أشار طالاس إلى أن الحالة التركية شبيهة بدرجة كبيرة لحالة "الركود التضخمي"، أي ترافق البطالة وضعف النمو الاقتصادي مع الارتفاع المستمر بالأسعار.

ويقول طالاس أن "حالة الركود التضخمي علاجها مؤلم، ويستحسن أن يتم الاعتماد فيها على السياسة المالية، بدلا من السياسة النقدية".

ويكون الحل في هذه الحالة، حسب طالاس باعتماد سياسة مالية تعتمد "تخفيضات مستمرة للضرائب على قطاع الأعمال، فيما يتم رفع معدل الفائدة لمكافحة التضخم".

وعلى الرغم من كونها علاجا إلا أن طالاس يعتبر السياسة المذكورة "مؤلمة"، من حيث أنها قد تسبب المزيد من البطالة.

ويستدرك بالقول: "يمكن أن يتم التخفيف من أثرها بتخفيض الضرائب على قطاع الأعمال، وشد الأحزمة لفترة ريثما يتم السيطرة على التضخم".

ويوضح أستاذ الاقتصاد أن خفض معدل الفائدة، وهي السياسة التي يصر عليها إردوغان هي خيار "ليس عقلانيا" من المنظور الاقتصادي في تركيا خلال سنتين على الأقل، بل "يجب التقشف في الموازنة الحكومية وخفض الضرائب".

"الدولة أصبحت مسرفة"

من جانبه يرى الخبير الاقتصادي، علاء الدين شنكولر، أن الحل للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد يكمن في إقدام الحكومة التركية على تقليص مصروفاتها وتحديدها، على أن تنتقل فيما بعد للتفكير وتنفيذ التدابير الاقتصادية".

ويقول شنكولر: "يجب أن تترك الحكومة التركية الحال المبني على إقامة مشاريع جديدة وتوسيع الاقتصاد، وفي الوقت ذاته يجب أن تنبه الشعب التركي بضرورة الاقتصاد والتوفير، والاكتفاء بما لديه من عقارات وأموال".

"الدولة أصبحت مسرفة ولا بد أن تقلص وتتقلص المصاريف والميزانيات"، ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن الحكومة التركية يجب أن تستدرك وتعترف بأن عليها ديون، ومن الواجب تسديدها.

ويتابع: "يجب أن تتجه الحكومة للأمور اللازمة والضرورية، وأن تبين للشعب أنها مرتاحة وليس لديها مشاكل. مع أن المشكلة موجودة".

ويتوقع شنكولر أن تؤدي الهزة التي شهدها البنك المركزي منذ أيام بإقالة أغبال إلى حالة من عدم الاستقرار، وبالتالي سيكون هناك أثر كبير وسلبي على المستثمرين، أو الراغبين بالاستثمار، بالإضافة إلى حالة شك في مستقبل الاقتصاد التركي.

وسبق وأن أعلن إردوغان أن تركيز الحكومة التركية في المرحلة المقبلة سيكون على الاستثمارات الخارجية، موضحا أنه مصمم على جعل تركيا مركز جذب للمستثمرين المحليين والدوليين، بمخاطر منخفضة وثقة عالية وأرباح مرضية.

وإلى جانب ذلك، قال إردوغان في نوفمبر 2020: "سيرى الجميع أنه عندما يتم الاستثمار على أكمل وجه، سنرتقي إلى مصاف الدول التي توفر أعلى نسبة من الأرباح الآمنة".

المصدر: الحرة

الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).