تبدأ فدوى الزيّاني مجموعتها الشعرية الصادرة عن دار المتوسط في إيطاليا، باقتباس مما قاله الشاعر الفرنسي رينيه شار: ( إن الشعر لاينمو إلا بين النوائب/ ولا ينبت إلا على أرض محروقة)، وقد يبدو ذلك كوضع عتبة تتابع على منوال أجوائها رؤيا قصائدها، إلا أن الشاعرة الزيّاني تأخذ القارئ إلى "مدينتها" مقدمة له قصائد ونصوص طازجة تفوح منها رائحة "الراهن" عبر صرخات من نوافذ وثقوب هذه المدينة "ضد الوحدة" وتداعياتها.. وبفنتازيا خاصة تارة، وبيوميات معاشة تارة أخرى، تنسج قصائدها، متكئة على ذاكرة الطفولة وذاكرة الأمكنة.. وإن بدا أن الأبنية والجدران الإسمنتية تقيّد المفردة ببيئة محدودة، ضمن موضوع معيّن يشكل معه عنوان الديوان تناصاً عن ومن "الوحدة"، إلا أن الزيّاني تفلت من ذلك بمستويات لغوية متعددة، وبتراكيب ومقاربات ومجازات موحية، ودلالات متباينة. 

فنتازيا خاصة 

 اللافت في ديوان " ضد الوحدة" تسخير الزيّاني لمفرداتها في تراكيب أقرب إلى الفنتازيا منها إلى الغموض، وبمقاربات ومفارقات لغوية في آن، مشكلة بذلك ما يشبه الفنتازيا الخاصة بها.(( لم يكن في المدينة بحر/لكننا وجدنا أنفسنا وسط قارب/ لم يكن في القارب ثقب واحد/ لكننا غرقنا.)). وربما ساهم ذلك في تعدد "رؤيا" القصائد والنصوص، فثمة حكاية يأخذها كل قارئ تبعاً لمرجعياته، وثمة وخزات تتسلسل مقدماتها من العناوين مروراً بالمتن .. لتباغت القارئ في نهاية الرؤيا/الحكاية، كما في قصيدة " أمام الحب وخلفه". وثمة كلمات بسيطة لكنها تشكل بتراكيبها تأويلات مفعمة بالإشارات تترك عند القارئ أسئلة مواربة.. كما في قصيدة "أصبح شفافاً": 

((لا ينقصك سوى/ أن يجعلوك عربة لأغنية قديمة/ يعرفونك بها/ ونعشا لأسمائهم/ أولئك الذين صنعوا ذاكرتك/ إنهم يدفعون بجسدك الآن/ ستشرع في الانحدار /لامعاً على انعكاس الضوء/ خفياً وشفافاً.)). 

بين الفنتازيا واليوميات بمشهديتها وأمكنتها، تشكل القصائد الأولى في الديوان ما يشبه السيرة الذاتية، إنها حكاية الكاتبة لتي توزعها( ولا تفككها كما يرى بعض تفكيكي جاك دريدا) توزعها لحكايات أما بالتناوب أو بالتضمين، وتتحدث من خلالها عن ولادتها وطفولتها، مدونة مقاطع جميلة من التراث المغربي وطقوسه.. وهنا تغيب الفنتازيا وتسود الحكاية، لكن اللغة تبقى ثرية بتراكيبها ودلالاتها، وسلسة برشاقتها، كما في قصيدة "كأن العالم تنقصه امرأة"، التي تربط عنوانها بخيوط غير مباشرة بمتنها وحبكتها، وتختمها بوخزة مباغتة، وبعفوية ممتعة.. فبعد اليوم الثالث من ولادتها، ووضعها في منقوع زعفران يثير غرائز الرجال.. وبعد إرضاعها من سبع نساء زنجيات كان حليبهن ثقيلاً من لبن الأشجار.. تعود المولدة إلى ثديي أمها، ولكنها "شَرْقت"!! فكحلوها ووضعوا العقيق على معصمها، ووبر الزرابي على جبينها.. وأشعلوا أعواد القسط الهندي .. 

((.. جعلوا النار في رجليفي يدي، على رأسيوخلف عنقي.علَّقوني كمصباح بينهن وزَغْرَدُواأثقلوني بالنُّذور وزَغْرَدُواوضعوا مِلحاً في مخدتي وزَغْرَدُوانامى فغداً أنتِ امرأة./ منذ ذلك الوقت تماماًامتنعت عن النمو.)). 

وإن بدت القصائد الأولى بمجملها كتمهيد للدخول فيما شكل معه عنوان الديوان تناصاً واضحاً "الوحدة"، لكن الشاعرة بعد قصيدة " التعريف المفترض للوحدة" تعود وتكمل من جديد سيرتها في المدينة، كما في " استنكار أخطأ توقيته"، وعلى القارئ أن يجمّع تلك الحكايات كي يشكل تعريفاً مفترضاً للشخصية التي تتحدث عن الوحدة وتعيشها وتكتب عن تداعياتها في حالات نفسية واجتماعية متباينة، وفي أوجه متعددة من الحياة في ظلال المدينة.. 

وفي الكتابة عن الوحدة وأسبابها وتداعياتها.. ثمة فنتازيا خاصة أيضاً ، أو ما بين الغرائبية والمفارقات اللغوية وانزياحاتها.. وثمة تراكيب سهلة ممتنعة، كما في قصيدة" الذين طعنتهم من الخلف يد رفيقة".. وثمة مفارقات في طرح أسئلة والاجابة عنها بمنظور مختلف عن توقعات القارئ، أو وضع مقدمات واضحة لنتائج غامضة، أو لوخزات متتالية، كما في قصيدة "أصبح حراً": 

‏((لم يُعر لسانه لأحدلكنَّهم يتحدثون عن رغبتِهِ الأخيرةتلك التي لم يقلهالا يملك حذاءلكنَّهُ يَعرفُ الطَّريقويعرفُهُم، أولئك الذينأنكَرُوا اسمه منذُ الليلة الأولى./ يمشي سريعايقفز الموانع بخفةلقد فَقَدَ عَرَجَهُ الخفيفلُثغةَ لِسَانِهخُشُونَةَ يَدَيهوالنَّدْبَةَ البارزة فوق حاجبهليس عليه أن يدفع بالذكريات إلى الخلفبالوُجُوهِ إلى النسيانأسماء الموتى الذِينَ سَقَطُوا قَبْلَهُ…)). 

وقلما نجد قصائد تتداخل فيها الأجواء والأمكنة والأزمنة..  لتنوء تحت الغموض تارة وتنفلت فيها المفردة من بيئتها، ودلالاتها السائدة تارة أخرى،  كما في قصيدة "أوهام المدينة" حيث القطارت والبداوة والأشجار والعواء.. والنخيل والذكاء الاصطناعي والكعب العالي والواتساب ودبيب القبلة.. 

المفردة وبيئتها 

يمكننا القول إن ثمة علاقة جدلية، في المجموعة الشعرية، بين المفردة وبيئتها، فهي التي تأخذ المسميات للأشكال والحانات والقطارات والسلالم والجدران والبيوت، وقاع المدينة بمختلف أمكنتها.. تنشر غسيل بوح سكانها وتداعياتهم ومشاعرهم وأوجاعهم ووحشتهم.. بعيداً عن المكونات الكونية الأخرى، وإن فلتت المفردة من مشهدية المدينة إلى الطبيعة، يكون ذلك كرمجعيات مقارنة أو كأمثلة أو كتشبيه، وفي كل تلك الانفلاتات لاتوفّق القصيدة بتجانس منطقي أو عفوي مع أجوائها مثل " لسعة نحلة في عنق زرافة" أو كما في قصيدة "ثعالبك التي تخدش وجه النهر": 

((.. خِلتُكَ ستكتب عن قصتنا/ عن عن شعري القصير الذي يفضح نصفي الذكوري/ عن سُخرية القدر في اختياراتنا الموسيقية/ وعن الرغبة في صُنع أطفال بعُيُون تُشبهُ الشَّمس/ عن قلقك الأبوي، وعن ثعالبكَ التي تخدِشُ وجهَ النَّهْرِ كلَّم بكت طفلة في هذا العالم..)) 

ثمة تكرار لمفردات بعينها، لكن هذا التكرار لاينحو نحو الرتابة شكلاً، ولا يعيد نفسه بدلالات المفردة ذاتها مضموناً، فثمة إعادة تدوير لتراكيب الجملة التي تحمل المفردة ذاتها، وبمعان جديدة وتأويلات مغايرة.. الصرخة ضد الوحدة ومسبباتها وتداعياتها، تخرج من نوافذ المدينة..(( تشبهنا كثيراًهذه النوافذكلنا نعانق البردوفي الداخل شيء ما يحترق..))، وهذه النوافذ ذاتها، التي لم تشعر بارتجاف الضوء ورعشة الستائر.. تشعر بالصرخات ضد الوحدة التي تكون ضد الخوف الذي يطل منها وتصبح بيته المهجور.. والخوف الذي يتسرب من جرح في ركبة البيت، أو من ثقب في الحائط.. 

وكلمة "الوحدةالتي قد تسقط ثقيلة كخبر الحرب، تأتي في العناوين وبين السطور وفي اكتمال المشهد وفي الخواتيم والوخزات، لكنها تأتي ومعها أسئلة جديدة ورؤيات مغايرة، وتكون لحالات متباينة وبتعابير مختلفة.. وقراءة نفسية لتداعيات تلك الحالات في شخوص وأحداث وتاريخ وحاضر، وسلم وحرب.. وموت وحياة وخوف وطمأنينة.. وفي الهوس الاكتئابي، وفي التوحد،  وفي شفقة العناكب على مكان مظلم، وفي الحب أيضاً: ((..هكذا نتبادل الحب/ مثل كلبين ضالين يعضهما الخوف/ يروضان وحشة الليل/ ويلبسان عراءه/ كما يفعل غريب وغريبة.)). 

إضافة إلى كل ما تمحورت عليه "الوحدة" كمفردة وكمصطلح، وما خصصت له الشاعرة فدوى الزيّاني من قصائد "كالتعريف المفترض للوحدة، وقبل الوباء ستأكلك الوحدة".. كيف كانت القصيدة التي شكل مع عنوانها عنوان المجموعة الشعرية تناصاً كاملاً؟ هل يمكن بعد هذا الزخم من رؤيا ورؤية القصائد أن ترتقي قصيدة " ضد الوحدة" للإجابة عن التساؤلات، ومتابعة المفارقات والمقاربات..؟ هل من حلول منطقية أو واقعية للإشكاليات هذه الظاهرة؟ يبدو أن اللجوء إلى إعادة صياغة الكون من جديد أو ابتكار طريقة مغايرة للتكاثرهو ما رأته الشاعرة: 

((.. بحجر يبحث عن صوته/ بفردةِ حِذاء تَجَهَلُ الوُصُول/ كطفل لم يعتَنِ بهِ أحد/ أعود إلى البيتِ سَيْراً على العُشب/ ألعن المسافات بالشباب والشتائم البذيئة/ ثم كإله لم يَهْدِهِ أحدٌ لعبة ما /أَعْجُنُ جسدي/ أخلط الطين بالطين/ وأبتكر طريقة للتكاثر.). 

نصوص وقصائد 

تمنح فدوى الزيّاني لعملها الجديد "ضد الوحدة" تسمية مجموعة شعرية، فهل حقق عملها هذه التسمية فعلاً، وكيف علينا التفريق بين النصوص والقصائد؟ وهل تسطير النص يكفي  كي يمنحه شكل "قصيدة النثر"؟ 

يبدو إننا سنعود إلى إشكالية لن تتسع هذه القراءة للبحث فيها، ويبدو أن الزيّاني لا تأبه لذلك أحياناً، فثمة نصوص أقرب إلى الخاطرة أو القصة أو الحكاية، كما في نص "جمرة سابعة لفك اللعنة"، وفي حكاية " لم تكن حرباً" : 

((نَجَوْنا فُرادَى ومتنا جماعات، عَلَتْ جَلَبَةُ الموتِ على الصُّراخ، ولَسَعَتْ صافرات الإنذار نوافذنا وآذاننا، صَرَخَ أَشخاص مجهولون في وُجُوهنا بكلمات غير مفهومة، الرّجالُ بيزاتهم الرمادية والخضراء مروا بشوارعنا، وكانوا يجرفوننا إلى الداخل بالدباباتِ ، رَكضُنَا جميعاً…)). 

وثمة قصائد يأتي تسطيرها بعفوية تلقائية تارة، وبعفوية مدروسة تارة أخرى.. فإضافة إلى رشاقة اللغة في مرورها بين السطور، ثمة موسيقى داخلية تستجيب لتقطيع القصيدة ووقفاتها وانتقالاتها.. أكان بعد اكتمال الجملة نحوياً أو دلالياً، أو بطرح سؤال واستدراكه، أو الإجابة عنه في السطر التالي.. أو باستخدامها لعلامات الترقيم الظاهرة والمخفية، أو بتكرارها لمفردة ما والشغل على معانيها المتباينة في جمل شعر جديدة، كما في قصيدة "قبل التمادي في حب العالم". وقصيدة " يحدث في ساعة متأخرة". وثمة قصائد أقرب إلى النص ونصوص أقرب إلى القصيد، كما في " وكان لجلدها رائحة الخشب المنشور".. وثمة قصائد ترتقي إلى " قصيدة النثر" من حيث التسطير والوقفات الخاصة بالقصيدة، كما في " أوراق قديمة للإبادة". ومن حيث التكثيف الدلالي الموحي، والانزياحات والمجازات، والرشاقة اللغوية والموسيقى الداخلية.. كما في قصيدة" مايحدث في غرفة علوية". وثمة قصائد لها خصوصيته وتفرض تسطيرها الخاص، بغض النظرعن طول أو قصر السطر أو الجملة الشعرية، كما في قصيدة "بورتريه لامرأة خائفة": 

((..لم أكن امرأة بعد/ حين خَالَفَ جَسَدِي وَصَايَا الطُّفُولة/ وشمت الأشجار شتات أغصانها على جلدي الأفريقي/ من الخوفِ فَعلتُها بفراشي/ حين قَفَر طولي مثل صرخة وعل في وادٍ/ قدمي بإصبع وسطى طويلة ومضحكة/ لي حدبة كبرت، ولم تزعج أحداً حين بدأ نهدَاي بالظهور / ساقاي طويلتان كساقي جندي/ وعيناي الآسيويتان لم يطلها تَمَدُّدُ الجغرافيا رغم ارتفاع مستوى سطح الماء ..)). 

وبين النص والقصيدة تتباين موضوعات وأغراض ورؤيا المجموعة، ومنها ما يحاكي أجواء ما بدأتها به الشاعرة ، أي مما قاله الشاعر الفرنسي رينيه شار.. فثمة قصائد ونصوص تنمو بين النوائب، وتنبت على أرض محروقة، كما في قصيدة " لم تكن حرباً".. وثمة تفاصيل عن قاع المدينة وأحداثا ويومياتها ومشهدية أمكنتها، كما في قصيدة " يحدث في ساعة متأخرة": 

((ثمَّةٌ مَنْ يَرْقُصُون بجُنُونٍ،/ يَعجِنون الحُزنَ في صَخَبِ الحانات. / ثمة من يتقارعُون مع القناني، / لتسقط من رُؤُوسِهِم خَيبَاتٌ ونِساء .../ ثمة مَنْ يَعبُرُون إلى النوم ليُخدَعُوا مرَّةً أخرى./ ثمة ليلٌ تَنهشُهُ وَحدة…) 

 ويمكننا القول إن الزياني تحاول في تقصّيها للوحدة  الإحاطة الشاملة بتلك الظاهرة وتداعياتها، فهناك الكثير من المفارقات والمقاربات التي تفتح أبواباً مواربة لأسئلة من جهة، وتكثيف بدلالات عالية التقصي لمفردة ما من جهة ثانية، كما في " ليس صفراً خسارة الأشياء": 

((.. ‏الصفر كوة شك في جدار اليقين/ مطرقة نحاس على باب السؤال/ نصف علامة استفهام/ حين ينعطف الكلام في الفم/ الصفر فكرة الله في صنع الأرض/ الصفر تفاحتك/ حجة هروبنا من الجنة..)) 

ومن ثم تعود إلى الوحدة وتبعاتها وتداعياتها: 

(( .. الصّفر بؤبؤا عينيك الضيقتين/ حين غادرتا إلى البعيد/ الصفر التواء ضلعين في صدري/ يئنان حين أضاعا دورهما في العناق.)). 

نبذة عن الشاعرة: 

فدوى الزياني شاعرة مغربية من مواليد مدينة زاكورة سنة 1975. رئيسة جمعية "زاگورة الشعرونائبة رئيس جمعية منتدى الهامش القصصي. لها نصوص مترجمة إلى الفرنسية والإنجليزية والفارسية والألمانية والرومانية. 

نُشر لها مجموعة شعرية "خريف أزرق" عن دار سما الكويتية سنة 2013، ومجموعة "إيماءات شعرية" عن جامعة المبدعين المغاربة الدار البيضاء سنة 2014، ومجموعة "أسبق النهر بخطوة " سنة 2015 عن دار مرسم الرباط المغرب، ومجموعة " خدعة النور في آخر الممر" سنة 2017عن دار سليكي أخوين، ومجموعة "ماتريوشكا" سنة 2019 عن دار المتوسط في إيطاليا. 

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).