سيدرك المطلع على تجربة الشاعرة الفلسطينية إيمان زيّاد، أن ديوان "كأني هنا" امتداد لعمليها السابقين "شـامة بيضـا" و "ماذا لـو أطعمتـك قلـبي"، مع اصرارها على تسمية كتبها الثلاثة "نصوص نثرية"، ومحاولاتها الدؤوبة لامتلاك لغتها الخاصة بتراكيبها الغريبة والموحية في آن، وتطوير موسيقى قصائدها الداخلية، وتجريبها المستمر في تحقيق رؤيا متناغمة مع شكل تلك القصائد، وإن تأرجحت، في انزياحات مجازاتها، بين الحلم والحقيقة، والواقع والتخييل.. وربما قد يساهم العنوان "كأني هنا"،  الذي لا يشكل تناصاً مع عنوان قصيدة ما، أو مع بعض من كلماتها، قد يساهم في تجسير تلك الحالة مع القارئ.. فهل هي هناك، أم كأنها هناك في فلسطين؟ 

ذاكرة المكان 

قد يبدو للقارئ من الوهلة الأولى أن على ابنة قريـة "يـالو" قضـاء القـدس، المهجّـرة في العـام 1967م، أن تكتب عن فلسطين وعن الاحتلال الصهيوني وجرائمه وفاشيته وعنصريته بشكل مباشر، أوتؤرخ لذاكرة المكان الذي نشأت فيه.. لكن عليه أن يتقصى قصائد الديوان ليجد ذلك، فقلما يجد أي تفاصيل عن مكان ما، وإن تم ذكر "يافا وطبريا" فقد تم ذكرهما بالاسم وحسب، وإذا كان القارئ لا يعرف فلسطين أصلاً، فالأمكنة كجغرافيا تغيب في كل الديوان، ولكن في الوقت نفسه تشير الكثير من القصائد إلى أن ثمة ماحدث ويحدث هناك، أكان ضمن تداعيات أو مونولوجات داخلية، أو مجازات توحي بذلك من بعيد، أو ضمن قصائد قد تبدو مباشرة بمعاني مفرداتها وتأويلاتها، لكنها قد تبدو عمومية وتحدث في أي بلد بالعالم، فتجربة السجون والهجرة والنزوح.. ومفردات كالرصاص والموت والقتل والزنازين.. تغدو عامة إذا لم تحددها مشهدية في مكان معين.. ففي قصيدة (200 يوم في الزنزانة)، وبعنوانها المباشر لا يصل القارئ إلى أي جديد أو الى "رؤيا خاصة عما يحدث هناك، مع أن القصيد الحاملة لها تُصاغ بلغة جزلة، وجمل شعرية معبرة، ومجازات وانزياحات موحية، وإن تأرجحت بين الوضوح والغموض، تترك للقارئ مساحات رحبة للتأويل، ودلالات متباينة عن حياة السجون وتداعياتها على من داخلها ومن خارجها.. وتضيف الكثير من الجمل الشعرية المعبرة والتراكيب المكثفة عن عتمة السجون، وربط هذه الحالة بالانتظار، انتظار الضوء وانتظار أحدهم لحريتها، أو انتظار الموت .. 

(..لا نوافذ في زنزانتي/ أنا الوحيدة نافذة مغلقة متخيلة/ وفي الخارج يرتاح على جسدي الكون./ مئتا يوم في لبّ العتمة/ صرت الليل في حضن الوحدة/ تصغي إلى ندوبي/ وتعيد كل شيء إلى موضعه العدمي/ كأنك أوقفت الانتظار فما عدت تنتظر/ وكأنك ما عدت تقتل نفسك إذا غافلتها الأحلام.. 

ظاهرة قتل الأطفال ببرود مريع وبهمجية فاشية مرعبة، باتت من يوميات العدو الصهيوني، وإن لم ترد الشاعرة الاشارة اليه بالاسم تحديداً،  فيمكنها ان تحدد ذلك القتل في شارع معين، في مخيم ما، أو قرب الجدار الشهير.. وهذا بالتأكيد لا ينفي أن التكثيف اللافت لشجاعة الطفل وللقتل برصاصة ساخنة، ووضع الجثة في ثلاجة باردة.. يلامس حالة انسانية تصل الى الكون كله مثل قصيدة "أشجع مني": 

(أشجع مني.. طفلي أشجع مني/ حين قتلوه برصاصة ساخنة/ ابتسم في وجه القاتل/ وقف معتدلا/ "لم تصبني"/ ثم اتجه إلى الوميض/ البرد مرعب هناك/ والأبدان حجارة يسكنها الثلج/ لكنه أشجع مني.). 

في قصيدة "فستان بريّ" تتابع الشاعرة ايمان زيّاد الحالات المأساوية للهجرة واللجوء، وتداعيات النجاة والموت.. وهي القصيدة الأقرب في الديوان لتناول ظاهرة صارت انسانية بكل مقاييسها وأبعادها.. وقد حققت الشاعرة بلغتها العميقة وحسها المرهف إضافات جديدة لظاهرة الهجرة عبر البحر، حيث تتعدد شواطئ الرحيل، ويصير البحر مقبرة واحدة: 

(.. مضى العابرون نحو البحر/ لم يكن البحر لطيفاً كعادة الأطفال/ كانت هناك طفلة فستانها ركام/ كان الصراخُ على شكل الأنين/ والصدور مغدورة ببقع الماء/ والرفات تسمم الأسماك حين تجوع/ وخدوش القوارب المهترئة/ يضمدها الموج/ والطحالب تعلق بثياب مجهولة،/ لم أستطع رؤية الشاطئ/ لم أهرب إليه،/ كنت اردم الماء/ بالرّمل وبالذكريات/ وبالبحّارة القدماء؛/ صمّ القراصنة آذانهم بالطين كأني سراب..). 

مفردات وتراكيب 

تختار إيمان زيّاد مفرداتها بعناية خاصة، مسخرة المرادفات والاضداد، والمعاني الطيّعة لصياغة تراكيبها وجملها الشعرية، واللغة الجزلة بدلالاتها المفتوحة لبناء مجازاتها واستعاراتها.. وصولاً إلى تحقيق "رؤيا" القصيدة.. ليبقى السؤال: أي لغة وتراكيب قد استساغها القارئ؟ وأية رؤيا قد وُفقت في ايصالها له؟  

تنجح الشاعرة في مراكمة تجاربها وإضافة الجديد لخصوصيتها، وتتفرد في استخداماتها اللغوية، أكان في توالد استعارات ومجازات مغايرة، أو في تراكيب لغوية جديدة، مسخرة التكرار لربط جملها الشعرية، ولبناء أشكال متنوعة لقصائدها.. لكن ثمة حالات تكون فيها اللغة "سحرية" وتنفلت فيها المفردة من بيئتها ومن سياقها، وتتعدد عند القارئ التصورات والتخيلات والدلالات فتضيع الرؤيا/الحكاية، ويطفوا الغبش على الوضوح، كما في قصيدة "أسنان الفراق" مثلاً: 

 ( كنت أتأمل ثغره المنطادإذ يسري بالمريدين إلى ذروة جرحوهم يتشبثون بأرجل حباريوغل في معاني الصيد، وكم كنت ألمح في قنبلتي الملح الراكدتين في عيني الذئب/ وجه لیلی…). 

وتتابع الشاعرة في القصيدة ذاتها: 

(..فلا نرد يقربه بالحظإلى مدارك الرؤىولا الماء لو تعطر بالضوءسینزح به إلى الضفة الممنوعةولا أناملي سترتل في اللّمى المنسيآيات الحياةوكلما قطعت الدقائق علينا الطريقتتسع المجرة بالندم الآن…). 

ورغم السمة الانسانية العميقة التي تتسم بها قصائد الديوان، قلما نجد مفردات وتراكيب تعبر عن حالة رومانسية، أو جمل شعرية رقيقة تصف الطبيعة وتحولاتها، أو قصيدة غزل شفيفة ترتقي لحالة عشق وجودية.. المفردات والتراكيب في أغلب قصائد الديوان قاسية، بل وقاسية جداً: (انتشل من بدني عشاء الدود.. العشب الذي ينبت على سطح الجثث.. ليل ينهش قلبك المعطوب.. الرصاصة الشهية .. مخالب تحرث ظهري.. جرعة من الطعنات..). 

وثمة عناوين قساوتها أكبر من متن قصيدتها، "كطير يأكل قلبي" وعناوين توحي بذلك، كعنوان  قصيدة "معقوف"، وثمة عناوين تتقاطع مع محتوى القصيدة وتعبر عنه، مثل "شهية القتلة" 

(لم يزل يخرج من فمي/ مبردُ لِسان خشن/ وتسقط من المقصات الصدئة/ بقايا أصابعي الملوثة بالخرس/ ومبضع منتشي بلذة الكبد/ وقطن كثير/ كثير/ غارق بانهيار عصبي،/ لم يزل يخرج من فمي..). 

ربما عدم تعبير الكاتبة التي "هي هناك بشكل مباشر عما يحدث في فلسطين، أكان بتسمية الأحداث والأمكنة بسمياتها،  أو بإدانتها لهذا الواقع القهري من فزع وقتل وظلم واحتلال وعنصرية وفاشية .. قد انعكس لا شعورياً من عقلها الباطني على وسائل تعبيرها، فجاءت لغتها قاسية وجافة أحياناً، ومعبرة عن موضوع القصيدة أحياناً أخرى، وحتى إن كان حواراً وجودياً، أو استحضاراً لمفردات من الطبيعة، كما في قصيدة " فوق آه تحت آه" تظل التراكيب القاسية هي السائدة:  

يا أيها الجرح المطل على دميأتشد حبلك واثقاً أني أموتأتجز قمحاً في عيونيطمأنه الجفافما الجفاف يا بلادي من ركود الحظ لكنمن جراد في الأقاحيدون قاعدون آخرة لهذا الجوعيأكل ما تبقى في القلوب،أتستبيح في السماء أحلام الطيورأتشرد الروح الفراشات فوق الرمادأيثقل وجه الماء جسدي المثخن بالوصايا..). 

نصوص نثرية  

تصرّ الشاعرة إيمان زيّاد على تسمية أعمالها  "نصوص نثرية" رغم أنها ضمن المعايير المتبعة والأعراف السائدة حالياً، تعدُّ كاتبة قصيد نثر بامتياز، أكان من حيث الرؤيا/الحكاية، أو من حيث مضامين نصوصها واختيارها للأصعب والأغرب من المواضيع والأغراض، وسعيها لامتلاك خصوصيتها، أكان باللغة وتكثيفها، والموسيقى الداخلية، أو من حيث تسطيرها لقصيدتها، أي توزيع " النص النثري" على سطور؛ فالشاعرة زيّاد تعتمد في وقفاتها وتقطيعها لجملها الشعرية على أساليب متنوعة، إن صح التعبير، فإضافة لاكتمال الجملة نحوياً، تشتغل على اكتمال المعنى أو الاضافة عليه، ومن ثم الانتقال لمعنى آخر، مسخرة ، بدقة متناهية، علامات الترقيم الظاهرة والخفية، كما في قصيدة "نعشي قارب نجاة" : (منذ أن صعدتُ شجرة اللوزأبتغي سماءً،لاهثةً الأرض تركض خلفيوأنا أنهرها؛ أن عودي،خطوتي سمُّ الغيابوسم فميلما يقصّ الألمغيمة تحمل جُنَّتي بإصرارفلا أقاوم،موسيقى الوهم ترافق الجنازةضحكات الضحايا تزفّنيوبلا عينين؛ كنت أراهُم..). 

وتشتغل الشاعرة على تكرار المفردة أو المفردات، أما بين عنوان القصيدة وخاتمتها، كما في أغلب القصائد، ومنها "غير أن" و"أسنان الفراق" و"به" وقد تضيف للعنوان حرفاً كخاتمة قصيدة "ذيل القط"،  أو كلمة كخاتمة "نعشي قارب نجاة"،  وقد يكون التكرار بين العنوان وسطور القصيدة، مثل "عام  آخر ينقضي".. وتأتي المفردة بتكرارها أما للتأكيد أو الاستئناف أو الاستدراك، أو إضافة معاني جديدة.. مولدة مساحات رحبة للانزياحات والمجازات، ومانحة لقصائدها خصوصية في شكلها وتسطيرها، مثل قصيدة " ليلة واحدة تكفي" 

ليلة واحدة تكفيكي أريق لهفة الماءعلى راحتيك الشغوفتين بكثافة النبضليلة واحدة تكفي لأتطهر من العتمة،ليلة واحدة تكفيلتفيض على شفة الصحراء الأنهاروتندف الجباه بالثلجليلة واحدة قاصرة اليدتكفي،كي أتمم يقيني بأنك في الجوار..). 

كما تنوع إيمان زيّاد في أغراضها الشعرية ورؤياها، وتنوع في ضمائر الروي أو البوح، فإضافة لضمير المتكلم "أنا" كما في قصيدة "ضوء"، ونحن في "من منا"، ثمة قصائد بضمير الغائب هو وهم وهي، كما في " جارة الموتى" وبالمخاطب أنت وأنتم  وأنتنّ، كما في قصيدة " المعطوبة أرواحهنّ". ويتناغم مع هذا كله تنوع في شكل القصيدة وحجمها، فثمة قصائد طويلة، مثل "قال الغريب"، وطويلة من عدة مقاطع، مثل "استراحة خوف، وقصائد قصيرة مثل "قصيدة حلوة"، وقصيرة كالوخزة مثل قصيدة "معقوف": 

 أيؤلمك الجرح؟ 

 اسحبه بهدوء 

 الخنجر معقوف في الداخل. 

 


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).