في عالم الكحول، هناك أسطورة تقول أن أول كوكتيل كحولي كان بسبب ديك، ويسمى "screw driver" (مفك البراغي). تقول الأسطورة  إن سائق شاحنة روسي كان في طريقه إلى سيبيريا برفقة ديك، وفي الطريق تعطلت الشاحنة، تمدد السائق أسفل الشاحنة ليصلحها ووضع بجانبه قدح فودكا كي يطرد البرد قليلاً من جسده، وفي تلك الأثناء خرج الديك من غرفة السائق وقفز على صندوق العدة وأصاب بقدمه علبة عصير البرتقال التي كانت موجودة فوقها، وانسكب القليل منها في قدح الفودكا، وحين مد السائق يده من الأسفل ليخرج المفك من الصندوق، لمس بيده قدم الديك، وقف لكي يعيده إلى غرفة السائق كي لا يبرد، ورأى لحظتها أن الديك يحاول أن يلتقط بمنقاره العصير المسكوب فوق الصندوق وفي قدح الفودكا، جرّب السائق الفودكا مع العصير وأعجبه الطعم، وروى القصة لصديقه البارمان حين عاد وانتشر ذاك الكوكتيل في العالم كله إلى يومنا هذا.

وفي التراث المسيحي يرتبط الديك بإنكار المسيح. إنك قبل أن يصيح الديك تكون قد أنكرتني ثلاث مرات (إنجيل متى). وكذلك يرمز إلى قيامة المسيح وتربعه على قمة الكنائس.

أما الأسطورة اليونانية تقول أن الكتريون صديق الإله مارس الأثير، وعشيق أفروديت كان عليه أن ينبه الإله وقت غروب وشروق الشمس، لكنه أخذته سنة من النوم، فاكتشف إله الشمس علاقتهما الآثمة، فعاقب مارس صديقه بأن مسخه ديكاً، ليصحح خطأه. ويستخدمه بعض اليونانيين وطائفة في المكسيك كقربان إلى يومنا هذا.

ومن الطقوس الدينية عند اليهود طقس «الكاباروت» وتعني الــ «كفّارة»؛ يقوم اليهودي الآثم بتدوير الديك حيّاً حول رأسه ثلاث مرات، وخلال ذلك تتلى بعض المزامير وفقرات من سفر أيوب، ثم يعود تدوير الديك الأضحية حول رأس الشخص، ويُتلى الدعاء التالي «هذا هو بديلي، قرباني، الذي ينوب عني في التكفير عني»، وثم يقومون بذبح الديك، ويعطوها لأحد الفقراء، والأمعاء تقدّم للطيور؛ ويجب أن يكون الديك من اللون الأبيض.

وتقول حكاية شعبية كُردية أن الديك كان يملك ذيلاً طويلاً ملوناً، فزاره الطاووس يوماً، ولم يكن يملك ذيلاً جميلاً كهذا، ورجاه أن يعيره ذيله الجميل لأنه سيحضر حفلاً بين الطواويس ويريد أن يتباهي به على أن يعيده له بعد الحفل. صدَّق الديك كلام الطاووس وأعاره ذيله الجميل الذي أحتفظ به الطاووس ولم يعده بعد ذلك إلى يومنا هذا.

وأثناء زيارتي إلى أوكرانيا قبل عامين، قضيت ليلة في قرية زاليشتشيكي Zalishchyky بالقرب من الحدود الروماينة في الجنوب، علمت من سكان القرية ان الديك في معتقدهم ينذر بالمشكلات، ولا سيما إذا كانت الديكة تتعارك وتتصايح فيما بينها، فذلك قد يشير إلى شجار قادم بينك وبين أعدائك.

وفي كتاب تفسير الأحلام لأبن سيرين نجد أن معنى عراك الديك في المنام يعني الحث والتحريض على النزاع بين الأصدقاء المقربين أو الزملاء، أو أنها يمكن أن يعني العداء إثارة بين العلماء أو نزاع بين دولتين.

لكن كعادة سليم في جميع أعماله التي لا تنتمي إلى أي مدرسة في عالم الأدب، أراد أن يوظف ديكان في روايته «معسكرات الأبد»، الديك «رَشْ» أي الأسود، والديك «بَلَكْ» أي الأبلق، ويمنحهم خلوداً في أعماله.

يبدأ الرواية بصراعٍ بينهم، وفي بداية كل فصل من فصول الرواية الخمسة أيضاً صراع بينهم، مذعورين، قلقين، كما لو أن عراكهم نذير شؤم لحدثٍ ما: «لم يكن في عيونهما أي ملمح للحقد، وهما يدوران أحدهما على الآخر. كانا ذاهلَين حتى أعماقهما، كأنّما هما منكفئان إلى داخليهما للإعداد. طويلاً، وعلى نحو محبوك ـ للضربة القادمة. وفي دورانهما المتوفز كانا يتركان آثاراً خشنة في الطين الخريفي على الهضبة المشرفة على الجسر، الذي يصل للسهل الكبير بالبلدة المتناثرة شمالاً، في آخر حقول القمح المشطور بالطريق الإسفلتي، المتعرج كخاطرة لن تُسْتَكْمَل». الصفحة (7).

ومن خلال سرده لوقائع هذا الصراع يحدد المنطقة الجغرافية التي ستدور عليها أحداث الرواية؛

و يترجم لنا سبب عراك الديكين، أن الشخصيات مكسورة، ومقبلة على مَغَبَّة تراجيدية، وفي النهاية تثبيط لكل البطولات الخرافية التي تقوم بها هذه الشخصيات.

يعود في هذه الرواية أيضاً إلى القامشلي ليسرد فيها حياة عائلة كُردية. عائلة موسى موزان المكونة من خمسة بنات وحفيدته؛ ست نساء يعشن في منزلين، بعد مقتل الأب والأم وزوج ابنته على أيادي أشخاص مجهولين بالقرب من ثكنة عسكرية فرنسية، أحداث الرواية في نهايات الوجود الفرنسي.

رواية لا تخلو من الرموز والإسقاطات، تتراكم فيها الصور الواقعية أحياناً، والخيال في أماكن أخرى.

شخصيات مُرْتَابة ومضطربة في الرواية، بشراً كانوا أم حيوانات، تقوم بشيء وسرعان ما تندم عليه وتجمح منه. كل فصل من الفصول الخمسة يضيف حالات الانطواء والانزواء في نفوس أشخاصها، «الموازين والسلالم، المياه وحرائقها، كمائن الفراغ، أحلاف الغيم، القيامة».

تتوزع الأحداث بين بنات موسى موزان، وبين موسى موزان وزوجه وصهره الذي يترك والديه بعد زواجه، ويعودون أشباحا بعد وفاتهم؛ وضيوف طارئون مؤلفون من رجل مكين وأخته نفير وكليمة ومعهم حمال الأمتعة والأقفال يدعونه بـالكلب؛ يدخلون منزلاً من منازل بنات موسى أثناء وجودهم في الخارج، وحين تعود النساء ويجدون الضيوف، يقوم نقاش بينهم عن سبب دخولهم المنزل، ويحسمون النقاش بتأجير المنزل لهم، ويبدو أنهم بعثة لكشف الآثار، إذ يحملون معهم خرائط وأقفال ومعادن، بعد أن دفع الفضول ببنات موسى لاكتشاف أسرارهم، فيرسلن حفيدة موسى هبة في اليوم الأول لهم في المنزل، لتأخذ لهم الطعام، وحين تدخل الغرفة تجد أنهم قاموا بتغيير كل شيء، وإحدى النساء تتكئ على وسادة وأمامها رقعة جلدية مستطيلة عليها رسوم وخرائط وعليها إشارات ومربعات وخطوط، وتقول كليمة أخت مكين لحفيدة موسى هبة أن هذا الجلد مرسومٌ عليه منزلهم، وتحدد لها مكان المنزل والجسر أسفل المنزل، والنهر، وتخبرها عن موقع الجن القريب من النهر، حينها رددت هبة الكلمة لتتأكد ما سمعته، الجن! وتحدّثها عن البيت القابع بين أشجار التوت، وتسألها أن زار أحداً ذاك البيت، فتقول هبة إن جدها ووالدها كانوا يزورون البيت؛ وحين تعود هبة إلى المنزل تكتفي بالإجابة على الأسئلة باقتضاب، بعدها تذهب إلى النوم، لكن وجه مكين لم يكن غريباً عليها، وحاولت معرفة أين رأته من قبل، وتسأل أمها إن كان لوالدها غمازات، شعرت كما لو إن مكين يشبه والدها. وهناك أحداث تتعلق بأعمال الحامية الفرنسية في المنطقة، وأحداث يشترك فيها الديكان وثلاث إوزات وكلبان، وأحداث متفرقة تتعلق بثورة الشيخ سعيد آغا الأقوري، وغجر، وسائق سيارة نعمان حاج مجدلو.

ينضم موسى وصهره بانتفاضة سعيد آغا الأقوري في عامودا ضد الفرنسيين، لكن الانتفاضة تفشل ويتشتت المنتفضين بين قتلى وجرحى وفار إلى تركيا، ويختفي سعيد آغا من الأحداث، ليعود بعد فترة بهيئة شبح يشارك الأشباح الثلاثة (موسى وصهره وزوجه) في تحريك أقدار الذين على قيد الحياة.

بعد فشل الانتفاضة يعود موسى وصهره إلى البلدة المتناثرة لفتح مجرى مائي من الهضبة إلى بيت غامض تخفيه أشجار، حيث يصدر أصواتاً من هذا البيت. وفي هذا البيت مخلوق ناري كما يطلق عليه سليم، والغاية من توصيل الماء هناك كانت ليبقى ذاك الكائن مختبئا في البيت. «ويظل المخلوق الناري مختبئا في ذلك البيت المهجور، وكأنه القدر الأخير لشعب كامل، يخفي آخر أثر منه كي لا يلفيه المتسلطون وقد قرروا أن يلفوا ويمحوا كل ما يدل على معالم وهوية هذا الشعب».

بنات موسى يحركن الأحداث من خلال أحاديث غالبها أثناء الرقود في أسرتهن ليلاً، يستعيدون الأحداث والتفاصيل التي حصلت معهم لينسجوها في خيالهم، ويتكلمون عن أشياء يتداخل فيها الخيال بالأسطورة بالواقع.

على الهضبة المجاورة للمنازل، عمال يعملون على المداحل والآلات ليجعلوا السهل مستوياً، لا أحد يتجرأ ليسأل عن السبب، ينفذون ما قيل لهم، رغم أن الجميع يدرك السبب.

الوحيدة التي استطاعت رصد عراك الديكين هي شبح خاتون نانو، أدركت إن عراك الديكين نذير الأحداث التي تحصل أسفل الهضبة بين كل فترة وفترة. ويحاول الأشباح بإخبار البشر بطريقةٍ ما، ويتلاعبون بأقدارهم أحيانا.

يبني الروائيون روايتهم التاريخية من الحقائق والإبداعات والخيال؛ ومن الدوران حول الأفراد والأحداث، لكن لسليم ركن خاص يبني عليه روايته التاريخية، هي ضرب من القوة التي يستمدها من أفكاره التي يستند عليها لأنه فاتحٌ في تاريخ الأدب، سيكلل بوسامٍ لن يمنح لأحدٍ آخر. ففي «معسكرات الأبد» ميزة وصف المكان بشكلٍ دقيق، كما لو أن سليم كان في الأمس هناك، في الجزيرة السورية، رغم أنه كتب الرواية بعد خروجه من القامشلي بعشرين عاماً تقريباً، وهي أكثر رواية استغرقت وقتاً معه – حسب معلوماتي – كتبها في نيقوسيا، من شهر شباط 1990م إلى شهر آذار 1992م. هي رواية يمزج فيها الخيال بالواقع، لكن يعطي للمكان كعادته لون يناسب مخيلته، التي لا تشبه أحداً في ذلك (المكان هو الذي يرانا)، (حين نعرف شخصاً ما، نعرف المكان أيضاً).

والمكان في الرواية تحتاج إلى دَأْب كبير ومخيلة أكبر ليستطيع الكاتب أن يؤثر بالأحداث، ولسليم فلسفة عظيمة في هذا الشأن. يقول الفيلسوف والمؤرخ الأميركي هايدن وايت في كتابه «ما بعد التاريخ»: «النزعة التاريخية تقول بأن الإنسان كائن تاريخي، مرتبط بالتراث ومتأثر بالماضي. وهذه النزعة ترفض وجود غاية عامة للتاريخ، وتتبنى منهجياً تفسير الأحداث التاريخية بالتعاطف وتَفَهُّم الأحداث والشخصيات والأزمنة التاريخية المختلفة». وبما إن الإنسان مرتبط بشكل أو بآخر بماضيه وتراثه، فأنه يقوم بالتعبير عنها والحديث فيها دائماً؛ وبالأخص الشعوب الشرقية، هناك لمسة عند الغالبية العظمى منهم، مرتبطين بالماضي والتراث بشكلٍ كبير، إذ أن أغلب الشرقيين يأبوا الخروج من ماضيهم وتراثهم حتى ولو كان استخدامها في زمان ومكان غير تلك البيئة كلياً، وغير ذلك يحاول إدراج ما تعلمه في الماضي على الحاضر، بعضها خاطئة، لكن لا أظن إن الإنسان بشكل عام يستطيع الخروج من تلك المنطقة التي كبر فيها وتعلم فيها أبجديته وتراثه وعاداته وتقاليده؛ ومن المعتاد أيضاً في اللاوعي أن نعود إلى تلك الحقبة الزمنية مهما تقدم الزمن، من الصعب جداً الخروج من دائرة الماضي في أفكارنا ومعتقداتنا؛ لكن الذي يميز سليم من هذه الناحية أنه يذكر أدق التفاصيل عن المكان والعادات والتقاليد. والنزعة التاريخية غير تعريفها عند الفيلسوف هايدن وايت، هي اتجاه يرمى إلى تفسير الأشياء في زمنها الماضي، ولو تلاشت تلك الحقبة الزمنية، فإن وجودها واضحاً في كل شخص رغم محاولات الأنظمة الدكتاتورية محو أي تاريخ. وتاريخ تلك المنطقة لن يتلاشى، أعطاها سليم خلوداً أبدياً في أعماله ولو أتى على ذلك المكان ملايين البشر والأنظمة لن تتبدد ولن تختفي، لأن سليم أراد أن يخلدها بطريقته الخاصة، التي تليق بها.

كانت إستراتيجية الفيلسوف الألماني هردر قد اتجهت نحو دراسة الروح الإنسانية، بدءاً من أهمية العلاقة بين الواقعة التاريخية والطبيعة، وصولاً للكشف عن الطبيعة البشرية وهكذا جعل الماضي كله رمزاً، يمكن من خلاله أن يصل الإنسان إلى الغايات التي ينشرها وبلوغه المعنى التاريخي لا يمكن إدراكه إلى عن عملية التغلغل في الطبيعة البشرية. لهذا السبب يتغلغل سليم في تاريخ وأفراد تلك المنطقة، ليجعل منها رمزاً أبدياً.

وكما عوّدنا بركات في كل عمل من أعماله أن يضيف إلى التاريخ لمسته السحرية، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بذاك المكان، أراد أن يوثق تاريخ تلك المنطقة (الجزيرة السورية) برواية أخرى. جسّد المنطقة من جديد ومنح التراث ديكين جديدين «رَشْ وبَلَكْ» لنقول كلما رأينا ديكاً أسود وديكاً أبلق أنهم من القامشلي، من هضبة «معسكرات الأبد» التي كتبها بركات.

«معسكرات الأبد» هي الرواية الرابعة من أعمال سليم بركات، جاءت في 286 صفحة.

كما ذكرت سابقاً أن الرواية مكونة من خمسة فصول وفي كل فصل يبدأ فيه صراع الديكين الذين ينذران لأحداث الفصل، صراعاتهم عنيفة، إلا النهاية، فأراد بركات أن ينهي الرواية بصراعٍ بينهما بصمت، وكأنما الديكين هما الشاهدان الذين يتعاركان على الحقائق المخفية في ذاك الشمال الذي خرج منه سليم بجسده، وبقيت ذاكرته عالقة فيها «كانا دون صوتٍ في عراكهما هذا، على غير عادتهما التي دَرجا فيها على الصياح الاستعراضي الكثير. كانا صامتين مرتعشين، يفتحان منقاريهما ليتزوَّدا بهواء أكثر لم تعد رئتاهما تتحصَّله من المناخير. وكانت ضربات قلبيهما أشبه بنقرٍ على نحاس أجوف. أمّا ريشهما فلم يكن ريشاً ذلك اليوم، بل حالات من شحوب الغيم تمسُّ جسديهما وتنفصل، تتمزّق وتلتحم، وهما يتدحرجان دائرياً على الطريق الإسفلت المنحدر شمالاً صوب الجسر الصغير الذي لا عمر له. وحين جاوزا الجسر انحدرا غرباً، من الحافة العليا للطريق، ليغيبا بين شجرات التوت».


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية