عبدالحميد محمد

سُئل شيركوه بيكه س (1940 – 2013)، ماهي كردستان؟ فأجاب أسد الجبال الوحيد (هذا ما يعنيه اسمه): “وطنٌ من ضباب”
وكأنّ كردستان التي تراوده في الحلم أجمل، من تلك التي تُهرق الدماء في سبيلها.

الضباب يروح ويجيء باستمرار، بينما لا تكفّ كردستان أن تكون جزءًا من لعبة المصائر، في شراكة مع عثرات الموت، ليصبح شيركوه الشاعر “وسيطًا غير مكلّف”، يُوصل معاناة الكرد للآخرين.


اختلطت أنفاس شيركوه كلّها بكردستان وسحر الوجع الذي تكتنزه بين جوانحها وفي تاريخها:
“جاء التاريخ وقاس قامته بقامة أحزانك كانت أحزانك أطول وعندما أراد البحر أن يقيس عمق جراحاته مع جراحاتك صرخ لأنه كاد يغرق فيك”.


من الأنفال إلى حلبجة، لم يتوقّف قلم شيركوه، فأرّخ للمأساة في ملحمة “مقبرة القناديل”، ولمن أُطفئوا وطُمروا قناديلَ في الثرى الذي سرقه اللصوص، عقابًا لهم، إذ لمحوهم وهم يسرقون الغيمة وما في جعبتها من مطر.

حوّل صدّام حسين كردستان إلى جنّة مشوّهة، والعراق إلى مملكة أرامل، ليغدو كـ “أنفاس الرماد في تأريخ الفحم”.
شيركوه، الذي عدّ نفسه مسؤولًا؛ حتّى عن قتل فراشة، ومن واجب الشعر أن يبكي أبعد وردة مقتولة في العالم، وجد نفسه أعجز-أمام أهوال الأنفال وحلبجة- من أن يُعيد للقناديل بعض ألقها، وللحياة بعض قدسيّتها.

بشرٌ وأطفالٌ فُطموا عن الحياة بقسوة، مثلهم مثل من يُسفح دمهم في سوريا، بينما اللغة، تعجز عن مقاربة ثورة وجدها عظيمة، وليس من قصيدة تُقارَن بنقطة دم لطفل بريء في حمص، أو في القامشلي أو في أيّ منطقة سورية.

فالشعر ليس أقدم من دم الطفل الذي يُراق في قريته.
كاد شيركوه ينهار، مع مقبرة القناديل:
“يا لون الموت
انتظرني في نقطة مندهشة
كاندهاش بلادي أمام تاريخ السكاكين”
شغلته هواجس الأشياء الصغيرة وهوامشها، ليمنح قدسية زائدة لشعره، بعينين ثاقبتين تُشرفان على الألم، على سرّ الموت والوجود، مثّل ضمير الكرد، حتى تكاد لا تجد شاعرًا كرديًّا، سواه، يُجمع الجميع على رشاقة لغته وذهنيّة مفرداته تتسرّب عذبة إلى قلوبهم، بسموّ إنسانيّتها المفرطة.


سار إلى الشعر بقلق العاشق، يخاف مطاولة الحلم في أوّله، قبل أن يغرق في خواتيمه، كسنبلة في مخاضها الأرضيّ العذب، إلى أن تدخل في تكوين الخبز، لتُسعد الآخرين.

وحكاية السنبلة هي حكاية شيركوه بيكه س.
لم يُقنعه كلّ ما أنجزه لدرجة شعوره بالخواء، وبلوغ حافّة الجنون واليأس، وقلق لا حدود له؛ حتّى لحظةَ داهمهُ الموت، فاستسلم للسرطان القاتل بفرح، على غير ما يُسمع عادة، عن قصص الصمود في مواجهة المرض الفتّاك، كأنّما سرّه جمال الموت في هيبته، وهو يُوشك أن ينام نومته الأبديّة.


كشاعر لغة وأرض وتاريخ، تلطّخت كلّها بالدماء، أدرك شيركوه أنّه أمام عالم متغيّر على الدوام، لا أمام له، فغدا كلّ شيء كالسراب، يزيد من قلقه، ليقترب من ضفّة الضياع، فيهجس بالسؤال:
انا شاعر فماذا أفعل؟!
كيف نكتب شعرًا للحرية والقضية ولا نساوم على خطابها الفني؟!
رفض شيركوه جائزة قادسية صدام، وآثر أن يذهب بحلبجة وغزلان سهولها وسلال غيومها البيضاء إلى بغداد، ليستنهض دجلة من نومه، ويُناجيه ليغتسل من وجله، قبل أن يُعرّج على النجف، وعلى السيّاب في البصرة.
التحق بالمقاومة الكردية المسلحة، كبيشمركه، في العام ١٩٦٥ ثم في العام ١٩٧٤، ولم يحمل بندقيّة قطّ، ليُشهرها في وجه أحد، وحين سُئل عن البيشمركه، شرد قائلًا: “أمي وهي تخاطب الخريف “، أما الخريف، فروائي عبثيّ، ينفعل، في منتصف ليلة ما، ليُمزّق كل أوراقه ويطلقها للريح.

لم يملك شيركوه، ريشة فان غوخ، ليمنع تعفّن الأشياء، إذ تغدو مع الزمن باهتة باردة، فاستعان بلغة يخلق بها بهجة ما، أو شيئًا جديدًا دافئًا، يغيّر من ألوان الشعر، حيث لم يعش إلا لتهطل خيالاته، أمّا الشعر فوطنٌ تذروه الرياح.
تحاشى شيركوه كلّ غامض مُفتعل، فكتب بلغة بسيطة عميقة، ميّزته عن كلّ أقرانه، وبشفافية شعرية حسّاسة تستهدف أن يُفهم، ما يكتبه، في إطاره العام الجامع، بحيث لا يفتح الأبواب كلّها، ولا يغلقها كلّها.


راجع شيركوه كلّ تجارب الشعر الكرديّ -قديمها وحديثها- ليجد سذاجة كبيرة تطبع قسمًا ساحقًا منها، تستنسخ كلٌّ منها سابقتها، كبركة مياه راكدة. تعافُ نفسه ما سمّاها ألغازا ومجازات ملتوية ورؤى ضبابية، سوى حداثة عبد الله كوران، المتأثّر بالسيّاب ونازك الملائكة، وحداثة كلّ من شيخ نوري وشيخ صالح، والحداثة المبكّرة لـ “بيره ميرد” صاحب اللغة النقية.

كان شيركوه يُدرك أنّ الحداثة تستوجب تغيير النظرة للحياة، والركود الذي وجده في جيل الستينيات، وهو المنتمي لجيل السبعينيات، يستوجب تجاوزه وزحزحته، بفكر ورؤية حداثوية، إذ لا يصحّ أن يكون للشعر حديقة واحدة، فيذبل، “وما الحداثة سوى كأسُ شعر مسكوب” يقول شيركوه بكثير من السورياليّة.


وكانت البداية الحداثوية الحقيقية مع بيان حركة / روانكه _ المرصد / التجديدي عام 1970، الذي أصدره شيركوه بيكه س، مع مجموعةٌ من شعراء الكرد، أبرزهم القاصّ حسين عارف والشاعر جلال ميرزا كريم والقاصّ كاكه مم بوتاني، والشاعر جمال شار بازيري وآخرون.

استهدفت الحركة غربلة الواقع الفكري الثقافي الكردي وخضّه، بهدف إعادة الإعتبار إلى الموضوعات والنزعات الإنسانية، للحدّ من تأثير الأيديولوجيا والولاءات السياسية والاجتماعية.

وأوضح أعضاؤها المقيمون بغالبيّتهم في بغداد، أنّهم يتطلّعون إلى تجديد البنيتين الفنية الجمالية واللغوية للشعر والأدب الكرديين، عبر رفض الأنماط السائدة واستنباط أشكال إبداعية عصريّة جديدة، تُحقّق الانسجام بين الشكل والمضمون، بين النوايا الطيبة والأفكار الثورية، واحترام الفرد، وعدم التفريط به، على مذبح الجماعية التي تبشّر بها الأيديولوجيات، بوعيها الزائف.


جُلّ المؤسّسين كانوا قد خرجوا، لتوّهم، من تجارب حزبية أيديولوجية فاشلة. كان حسين عارف، قد ترك القيادة المركزية في الحزب الشيوعي العراقي، أمّا شيركوه بيكه س، فانسحب من حركة (/KAJYK كازيك) القومية الكردية المتطرّفة، وكانت حزبا سرّيا تأسّس في السليمانية عام 1959، ودعا لاستقلال كردستان، وإقامة دولة كردية.
أيقن شيركوه -وكلّ المتحزّبين منهم- أنّ أحزابهم أداة تسلّط، تُصادر إرادتهم وحرّيتهم، دون احترام أو مبالاة بخصوصيّتهم وذواتهم الفرديّة، وفي ذلك ما يناقض تلهّفهم لحداثة شعريّة أدبية ثقافية.

شكّلت حركة /روانكه/ أنضج حركة كرديّة أدبيّة واجتماعيّة، لكنّها تعرّضت لسيل من الانتقادات، تعدّتها لخطر التهديد بقتل أعضائها ومؤسّسيها، بعدما أصدر رجال الدين في السليمانية فتاوى تُهدر دمهم، بتهمة التحلّل الأخلاقي، ومسّ روح الجماعة، والوحدة القومية والدينية، ونشر الزرادشتية والمسيحية والقيم الغربية بين الكرد، والدعوة لتحرّر المرأة. كما عدّها الماركسيّون حركة بورجوازية، تُضعف جذوة الوعي الطبقي لدى الكادحين.

أمّا قوميّو الكرد فوجدوها تُوهن من عزيمة الشباب الكرديّ واستعدادهم الروحي لفداء كردستان والذود عنها بدمهم. كتب حسين عارف عن الحركة:
“المؤيدون يُزكّونها إلى حدّ التقديس، المعارضون يُفنّدونها إلى حدّ دفعها بالكفر والهرطقة بحق الأدب الكردي”.
تحت الضغط الشديد أُجبرت الحركة على التوقّف، لكنّها شكّلت تعبيرًا عن الحاجة الملحّة للتغيير ونقطة التحوّل الأهمّ في حياة شيركوه بيكه س، وموقفه من قضايا عصره؛ ولا سيما علاقة الكرد بشركائهم العرب.


ما بين الفراشات والتحزّب الأيديولوجيّ الضيّق، انحاز شيركوه -بسعة قلبه- للفراشات بفسيفساء سماواتها وفضاءاتها الرحبة، مُفضّلا أن يموت ثلاث مرّات كلّ يوم، جامعًا كلّ الفصول بين يديه:
“لو أخرجتم من قصائدي الورد،
لمات فصل واحد من فصولي الأربعة
لو أخرجتم منها الحبيب،
لمات فصلان
لو أخرجتم منها الخبز،
لماتت ثلاثة فصول
وإن أخرجتم الحرية منها،
لماتت فصولي الأربعة دفعة واحدة
وأنا في الحال”
وإذا كان عبد الله كوران، مثلُ شيركو الشعريّ، الأحبُّ إلى نفسه، والأقرب إلى ذائقته، ونزعته الحداثوية، قد وضع عنفوانه الكردستانيّ في مواجهة العالم كلّه، فإنّ شيركوه، ومثلما ذهب بحلبجة إلى بغداد والنجف والبصرة، ذهب بكردستان كلّها إلى قلب دمشق.


أرّخ عبد الله كوران لعنفوانه، متحدّيًا:
كرديٌّ وكيس تبغ
حفنة زبيب وبندقية
ثمّ صخرة
وليأتِ العالم
كلّ العالم
أمام نشرات الأخبار، وقبل رحيله بقليل، ذرف شيركوه دموعًا مدرارة، على حال السوريين في محنتهم، مُبديًا دهشته من تشبّثهم بالأمل وبغدٍ أفضل، على الرغم من ضخامة تضحياتهم كشعب أعزل.

وقبل سنواتٍ خلت، أوضح شيركوه، أنّه كشاعر كرديّ، حامل لقضية مصيريّة، عاش لأجلها في الكهوف وتحت وابل النيران وقصف الطائرات، من الطبيعي أن تختلف عوالم قصائده عن عوالم شاعر يعيش في دمشق، يحمل رؤى مختلفة وقضيّة تخصّه ويعيش في بيئة مختلفة، وأنّ مسألة الثورة والمقاومة، إنّما تسلّلت لقصائده رغمًا عنه، ولن يكون صادقًا إن لم تعكس قصائده، واقعًا عاشه، لا واقع شاعر دمشقيّ، من المفترض أن يلتقي معه بنزعة إنسانية مشتركة.


شيركوه بيكه س، وبسبب تلك النزعة الإنسانية، رفض الحديث عن ثنائية / كردستان والعدو /، الثنائيّة الطاغية على معظم الشعر الكرديّ الكلاسيكيّ، وربّما المعاصر منه.


لم يكن شيركوه يحتاج إثارة قضيّة بهذا الحجم من التهويل الكارثيّ، ليعترف به الكرد شاعرًا يمثّلهم وقضيّتهم، لأنه امتلك قدرة تناول موضوعات صغيرة، يُحيلها بذهنيّته المنفتحة على العالم، إلى قضيّة كبرى، دون تكلّف، من شأنه أن يُغيّب القصيدة الحقيقية، وهي الحياة نفسها.

وصفه سليم بركات الذي واظب على مراسلته، إبّان وجوده في قبرص:
” الرعويُّ المنشدُ الجوّالة في الطبائع المائية للكلمات، يُحدّث التراب بلسان الروائح التي هي قسم الكردي، وبلسان اللون الذي هو بذرة روحه”
كتب شيركوه في وصيّته، حين زاره السرطان اللعين:
لا أريد أن أُدفن في التلال والمقابر، لأنها ممتلئة وأنا لا أحبُّ الزحام.
لأُدفن في متنزّه (آزادي/ الحرّية) إلى جوار نصب شهداء 1963 في السليمانية، هناك المكان أجمل ولن أُصاب بضيق التنفس.


اتمنى أن أكون قريبًا من هؤلاء الناس، من رجال ونساء مدينتي، من صوت الموسيقى والأغاني والدبكات ومن النوادي الجميلة لهذا المتنزه.
ليأخذوا مكتبتي ودواويني الشعرية وصوري إلى مزاري.

geiroon.net

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).