محمد علي علي

خلال أزمة "ناغورني كارباخ" بين الأرمن والآذريين، هاجرت الكثير من العوائل الكردية من أرمينيا هربا من الاضطهاد والتصفية العرقية، فلم يكن مرحبا بالمسلمين في أرمينية المسيحية، ولا المسيحيين كانوا محل ترحاب في آذربيجان المسلمة.. وهكذا، دفعت الأثنيات العرقية الصغيرة، والمضطهدة أصلا قبل النزاع ثمنا باهظا، فقد تركت وراءها كل ماتمتلكه من بيوت وأراض وممتلكات ووجدت نفسها مبعثرة ومشتتة كلاجئين في جميع أصقاع روسيا الواسعة.


هاجرت عائلة كوردية كبيرة من أرمينيا واستقرت في قرية روسية في مقاطعة تسمى "كوبان"، وشاءت الأقدار أنني تعرفت على شاب كردي يدعى "رستم" من هذه العائلة المهاجرة. كان رستم طالبا يدرس في المعهد الرياضي في المدينة التي كنت أدرس فيها، دعاني مع مجموعة من الأصدقاء ذات يوم لحضورحفل زفاف أخيه في القرية وقد فرحنا كثيرا لهذه الدعوة السارة، فهي فرصة طيبة للتعارف باللقاء مع هذه العائلة المهاجرة في "لمة شمل" أسرية في عرس كردي نادر الحدوث في قرية روسية، وكان يراودنا فضول شديد بالتعرف على عاداتهم وتقاليدهم، نمط حياتهم، معاناتهم وآلامهم، وكذلك رقصاتهم وأغانيهم الفلكلورية.

في اليوم المحدد ركبنا باصا مهلهلا بأوجاع الشيوعية والاشتراكية التي تحمل أحلام لينين الحمراء وطغيان وتعسف ستالين المتجسدة في شواربه الكثة، فقد بدأ المحرك يشخر تعبا منذ أن أيقظه من سباته أول طقة مفتاح يدعوه للعمل، وكان سيل من سباب و شتائم السائق"ايدي نا خ.." التي انهالت عليه كافية كي ندرك نحن الركاب على متنه، بأن ثمّة معضلة ما بين المقود والقيادة في الحركة، وبعد عدة محاولات فاشلة،جلجل المحرك بصخب شديد، كشعار ثوري ساخن وشرارة نارية في مظاهرة عمالية شيوعية تدعو للثورة على الرأسمالية، ثار بالحركة والحيوية، ومشى بتراخ شديد بعجلاته المتعبة على المسير في الطريق نحو القرية النائية.

كانت الرحلة ممتعة ولاسيما في بلاد تسيّجها الغابات الفسيحة من أشجار الحور والسرو والسنديان تذكرنا بقصائد بوشكين الغزلية، وليرمنتوف الحزينة، وأشعار يسينين وبونين عن الأرض، الأم والوطن، أما الطريق الطويلة فقد فتحت في خيالي دروبا ومنعرجات قادتني إلى حكايات وروايات تولستوي، تشيخوف ودستيفسكي وشخصياتهم التي ماتزال حية تعيش بيننا،وكذلك نراها في القصص والأفلام: "القوزاق"، "تاراس بولبا""، "الخالة فانيا وبستان الكرز"، "المعتوه"، "المقامر"، كنت أحس بأن معطف "غوغل" الجديد قد أصبح رداء ترتديه السماء، لتخيّم على القرى والبيوت الريفية المتناثرة النائية على مرمى البص، معطف يغطي برودة الثلوج وزمهرير روسيا وكل حقولها وسهولها الشاسعة لتنعم الأرض بالدفء، وأن سكة القطار الموازية للطريق قد سارت عليها العربات والقاطرات في زمن روسيا القيصرية، زمن "الأخوة كارامازوف" و"أنا كارنينا"، وربما هي السكة ذاتها التي رمت "آنا" بنفسها تحت عجلات قطار البضائع لتنتحر هربا من التعاسة الزوجية في أوج صراع احتدّ مابين القديم والجديد، وتمنيت لو كنت معها، جالسا بقربها في عربة قطارلايتوقف عن المغامرة، ولربما كنت سأمنعها من الانتحار! في عهد ساد فيه الرق والعبودية بين الفلاحين، تحكمهم طبقة النبلاء وأسر من الملاك والإقطاعيين "دفاريانين" والتي جسدها العظيم شيخوف في قصته"مومو".

توقف الباص بعد مرور ساعتين في استراحة مطعم صغيريقبع في أسفل جبل وسط غابة كثيفة مزدانة بقامات عالية سامقة من أشجار البلوط والسنديان والتي ملئت المكان عطورا برية وأطيابا طرية منعشة، وعلى طرف المطعم، كان نبع ماء سلسبيل يشرشر بخريرمياهه الجبلية الباردة والتي نهلت من معينها حتى الثمالى ،كنبيذ إلهي معتق في كهف رباني يفوح منه عطرملائكي سماوي،يطهرالروح والجسد من الآثام والخطايا الدنيوية!

الوصول

"آه منك ياحبيبي،أيها اللطيف، أنت تسكن في قرية وأنا في أخرى، أنا في واد وأنت في آخر، كم هو نادر لقاؤنا، حبيبي يشبه صغيرالعجل،فهو لا يجيد سوى مضغ التبن،يمضغ ويمضغ الكلمات كلما التقينا في موعد،يودعني دون أن يرسم قبلة على شفاهي"،هكذا كانت النساء الروسيات يغنين وهنّ يعملن في الحقول والبساتين!


وصل الباص إلى القرية قبيل الظهيرة، ومنذ لحظة نزولنا، لفت انتباهنا اسم القرية"بريجينيفسكايا"،حتى أنت يابريجينيف لك اسم مسمى على قرية؟! اسم كبير على ضيعة صغيرة؟! لقد غيرت الثورة البلشفية الكثير من المعالم الجغرافية، وكذلك أسماء المدن والقرى والأماكن التاريخية، دامغة إياها بختم الثورة الأحمر "كراسنايا"، والقرية التي كانت اسمها"التلة البيضاء" نظرا لكثرة جذوع أشجار الحورالبيضاء "بيروزا" فيها، تحول اسمها بعد الثورة إلى"التلة الحمراء". وقد اغتصب اللون الأحمر الثوري عذرية اللون الأبيض، وأصبح زعيما لكل الألوان، لأن أعداء الثورة تم تسميتهم "بالحرس الأبيض"، رغم أن روسيا كلها، مسكين أيها الثلج، تكتسي ببياض الثلج في معظم أيام السنة، فلا ثلج أحمر يسقط من السماء وإن سارت الدماء في كل أرجاء البلاد..لقد حافظ الثلج على براءة لونه !


إشاعة المشاعية في ظل الاشتراكية سرت في كل خلايا جسد البلاد، حتى وصل إلى الفكر والثقافة والأدب، وكل نشاط كان لابد أن يلصق به شعارا ثوريا وطابع الثورة مرفقا بقول مأثورللقائد فقط،ولاأحد سواه! الأرض للفلاح، والمعمل للعمال، كم هي شعارات جميلة لو تتحقق، لكنها بقيت حبرا على الجدران وفي الجرائد،تزين المساحات الفارغة والصفحات البيضاء، ولا سيما عند بوابات المعامل و"السوفخوزات"أو "الكولخوزات" الفلاحية التي أنشأتها الدولة بعد الثورة كي يعمل فيها الفلاح الذي تخلص من عبودية فردية للملاّك إلى عبودية جماعية للدولة، تترأسها سلطة الحزب الواحد، فلا ملكية فردية في ظل الاشتراكية، باستثناء ملكية واحدة: ملكية الرجل علي زوجته!

عند وصولنا إلى بيت العريس، استقبلنا وفد من الرجال العمالقة، فقد وقفوا في صف متراص كسلسلة جبلية ذكرتني بجبال كردستان والقفقاس، رجال ضخام بمناكب عريضة وعضلات مفتولة، ارتسمت في محياهم كل تضاريس الجبال من أخاديد ونتوءات وصخور صلبة، وقد ضحكت وخجلت كثيرا من نفسي عندما وقفت أمام المارد العم أبو رستم كي أسلم عليه وهو يشد على يدي بقبضته كالصخرة، عندها شعرت كما لو كنت حجرة تدحرجت من قمة جبل أشم، بزفرة منه نحوقاع واد سحيق، لقد بدا لي شخصية أسطورية مثل الفارس "رسلان" عاشق "لودميلا"في حكاية بوشكين الملحمية.


جلسنا نستريح من عناء الطريق في ظل شجرة جوزهرمة على طاولات برية خشبية مصنوعة من جذوع الأشجار القديمة الضخمة، مصفوفة على رتلين، تطلعت من حولي فما وجدت سوى الأخشاب: البيت خشبي، الطاولات، الكراسي، الحظيرة، سور البيت، حتى وجوه الحاضرين تلونت بصبغة خشبية يابسة وجافة،رغم ترحيبهم الحار بنا عند الاستقبال، فقد أشرقت الابتسامات على الوجوه مثلما تتخلل أشعة الشمس أغصان الأشجار بإشراقات جميلة بين الظلال. كانت الاستعدادات قد تمت للعرس، لم نلاحظ وجود ضيوف غرباء بين المدعويين، الجميع كانوا أقارب ومن عشيرة الجلالي الكردية الكوجرية، يتحدثون الكردية بلكنة جبلية "كوجرية"، لم نجد صعوبة كبيرة في التواصل معهم، باستثناء بعض العبارات والمفردات التي تتصف بها كل لهجة من اللهجات الكردية، ولكن يمكن القول بأن الكورمانجية هي كانت لهجتهم الأصلية وكانت تشبه إلى حد ما لهجة أكراد كوباني وأغرب كلمة وتسمية سمعتها منهم هي "كلام" والتي تعني موال أوأغنية.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).