بالنسبة لمهند عرابي، يمثل الفن رحلة نحو استكشاف وتعميق المعاني الإنسانية الكامنة في داخله. يعتبره ضرورة تحقق التوازن الداخلي له. يدفعه هذا الشغف المتواصل إلى أن يمسك بالريشة ويعبر عن أفكاره، ليس بقصد مخاطبة الجمهور، بل لإشباع حاجة ذاتية عميقة. ينظر عرابي إلى الفن كمشروع شخصي جداً، ينبثق وينمو في فضاء خاص داخل الفنان قبل أن يتخذ القرار بإظهاره للعالم. وهنا، قد يجد مساره يتقاطع مع وجهات نظر الآخرين.

مهند عرابي، فنان تشكيلي سوري من مواليد 1977، يقيم بين الإمارات وكندا. تخرج في كلية الفنون الجميلة في العام 2000. وحصل على الجائزة الأولى في المعرض الوطني لفناني الشباب السوري في العام 2006. أقام العديد من المعارض الفردية والجماعية في مدن عديدة من العالم. ضمن سلسلة حوارات "رامينا نيوز" مع المبدعين، التقاه عبدالله ميزر في منزله بدبي، فكان معه الحوار التالي:

عملك يتميز بتصوير الوجوه والعيون بشكل خاص، ما الذي يجذبك لهذه العناصر أكثر، وكيف تحاول أن تنقل مشاعر وقصص الافراد من خلالها، أو مشاعرك؟ 

ثمة كثير من الفنانين الذين اشتغلوا على البروتريه، وهو ربما أكثر موضوع متناول في تاريخ الفن، لكن ما يحدث هو أن كل فنان يتعامل أو يتعاطى مع هذا الموضوع بطريقته الخاصة، بشخصيته المختلفة، لنجد أن الشكل النهائي يشبهه أو يشبه خلفيته الثقافية والمعرفية وحياته اليومية. بالنسبة لي، لم أتقصد الاشتغال على البورتريه، لكن ما كان يلفتني هو حالة الأشخاص، أو يمكن القول قصة الوجه المتجسد في عينين وفم وأنف وما تحمله من احتمالات. يحدث أن تنظر إلى شخص وتشعر أنه يشبهك، وأشخاص لا تشعر بأي صلة تربطك بهم، وأحياناً يمكنك من حالة الوجه الذي تنظر إليه، أن تعرف بلحظة معينة تفاصيل الأفكار التي تدور في رأسه، وتشعر به تماماً، من هنا كانت فكرة البورتريه، وهو موضوع يستهوي معظم الفنانين. عندما رغبت في البدء بالبورتريه، درست أعمال الفنان الهولندي رامبرانت بشكل مفصل، بغرض فهم الحالة والإضاءة. يعني أن البورتريه لا يتكون من العناصر الموجودة فيه، بل يعكس جهة الضوء والمزاج اللوني العام. وحتى حينما وصلت إلى مرحلة الاختزال التي اشتغلت عليها فيما بعد، كان لابد لي أن أفهم الكل، أفهم تشكيل الحالة، كي أختزل بشكل صحيح. فكان دائماً يجذبني هذا الموضوع، موضوع كيفية التعامل مع البروتريه بطريقتك الخاصة، وكيف أن الشخص الموجود في البورتريه أحياناً يمثلني، حيث بطريقة ما أعبّر عن شيئ لا يمكنني التعبير عنه بالكلمات.

كيف تصف تطور عنصر البورتريه في أعمالك الفنية؟

صحيح أن العنصر من أكثر الأشياء الملاحظة في عملي بالبروتريه، ومؤخراً في مجموعة الأعمال التي أعمل عليها. انسحب هذا البروتريه، ولم يعد له وجود، صار أثره موجوداً، وكأنه نضج أو كبر معي، وقرر بلحظة من اللحظات أن يرسم معي؛ فهذا البورتريه مستوحى من الأشخاص الموجودين في محيطي، مستوحى من قصتي الشخصية. أحاول أن أعكس واقعي اليومي الذي أعيشه. الآن، عندما أنظر إلى مجموعة أعمال قديمة لي،  أتذكر بلحظات حتى الموسيقا التي كنت أسمعها، والمزاج الذي كنت فيه. فالبورتريه توثيق أكثر لحالتي، وأحاول أن أظهره بصدق كامل، لأنه بالتأكيد كلما كنت صادقاً بالشيئ الذي تشتغل عليه سيصل للناس. هذه النقطة مهمة للغاية، بالإضافة إلى أن هذه البورتريهات وهذه اللوحات تشبه الكثير من الفترات التي مررت بها، يعني في بعضها ترى القوة، وفي بعضها الآخر تجد الوحدة، وفي بعضها تشعر بالكآبة، أو تلتمس الغرور أو السطحية. أعتقد أننا جميعاً نمرّ أحياناً بهذه المشاعر المتناقضة.

يعني مصادر إلهامك متنوعة؟

مصادر إلهامي متنوعة بالتأكيد، لكن يمكنني القول أن مصادر الإلهام الأساسية عندي هي القصة العاطفية الأليمة التي نعيشها كسوريين. ففي السنوات العشر الأخيرة، عشنا تجارب جديدة، كان من ضمنها الهجرة، والوضع السوري العام الذي لا يشهد تغييراً أو تحسناً عاماً، ناهيك عن فترة الكورونا وما خلّفته من آثار علينا جميعاً. لا يمكن اعتبار هذه المتغيرات الجذرية ظرفاً آنياً، أو قصصاً أثرت علي شخصياً، بل على بيئة كاملة من حولنا، وهذا ينعكس على الشخص بالتأكيد. كما أنني أستلهم بعض الأفكار من علاقتي مع المكان.

مكانك القديم أم الجديد؟

أستطيع القول أنه في علاقتنا مع المكان القديم، نكون عاطفيين، لدرجة أنني مثلاً أينما ذهبت أحاول تغيير أي جزء في بيتي أو مكاني، لشيئ يشبه شيئاً آخر من ذاكرتي القديمة، من بيتي القديم، أو من فكري. كما أحاول بناء علاقة معه. لاشك أن المكان الأساسي الذي أنحدر منه وهو سوريا، مترسخ في داخلي، لكن ينتابني شعور من الحيرة وكأنني أشبه الشجرة التي نقلوها لتربة أخرى، لا تعرف هل ستخلق جذوراً جديدة أم ستظل واقفة تنتظر مصيرها لتغدو حطبة!  قطعاً لا. نريد أن نحيا. وأنا شخص أتأثر بمحيطي وأرغب في ترك تأثير على الأشياء التي تحيط بي. من هنا تصبح علاقتي مع المكان كتوثيق أيضاً.

في بداية انتقالي إلى الإمارات، أتذكر أنه كانت هناك مجموعة فنية خرجت بفكرة معرض "فاميلي بورد". بلحظة تصبح عاطفياً في حالة من التأثر بالصور لدرجة كبيرة، باعتبار أنك فجأة تضطر بظروف سريعة جداً إلى مغادرة المكان، يعني عندما تنتقل من مكان إلى آخر، تشعر فجأة أن الأشخاص الذين في محيطك المعتاد، لا تراهم بشكل طبيعي، ولا تستطيع أن تراهم بشكل طبيعي. لأنك عندما تراهم مجسدين في صور، تكتسحك عاطفة قوية، وتتساءل في قرارة نفسك كيف يمكن أن تلتقيهم مرة ثانية. في ذلك الوقت كنت أشعر بأن طاقتي مستنفذة. كنت في بداية انتقالي إلى الإمارات، وكانت البيئة العامة من حولي تفتقد إلى اللون، فنوعاً ما انسحب اللون من اللوحة، فصارت اللوحة عبارة عن رماديات وخطوط حادة جداً تشبه الأماكن والأبنية المرسومة في ذهني  بدقة.

كيف تتجلى التأثيرات في ملامح وألوان لوحاتك؟

بصراحة أنا لا أفكر كيف سأترك تأثيراً على الآخرين، لكني أحرص على أن أقدم شيئاً يعكس داخلي وتشكّلت لدي قناعة مفادها إذا كنت تتعامل بصدق وحساسية حقيقية مع العمل، بالتأكيد سيصل ما تريده للآخرين. مثلا في الوضع السوري لا أتعاطى معه بطريقة فجة ومباشرة للغاية. أردت أن أتعامل معه في جانبه الإنساني، وكيف سيترك تأثيراً علي. فجأة انسحبت الروح من اللوحات، انسحب اللون من اللوحات. طغت ملامح حزن كثيرة على اللوحات، وهذا كان يعكس يعكس ما أعيشه بشكل أو بآخر. بالتالي، لا يمكن توقع نسبة التأثير في الآخرين، لأن إرضاء الأذواق أمر صعب. ربما تصادف أحدهم منبهراً ويتحدث لك عن التأثر الذي خلفه العمل فيه، وربما يكون العكس.

لم تترك مجالاً للتفاؤل والأمل! برأيك كيف تنعكس تجارب الصدمة والهجرة القسرية على الفن التشكيلي السوري؟

أنا أتحدث هنا عن مراحل نمرّ فيها، متل أي شيء بالحياة، تمرّ بداية بحالة الصدمة والإنكار فيما بعد، وتتساءل لماذا حدث كل ذلك! عندما تحدث كارثة أو يفقد أحدنا شخصاً عزيزاً عليه، تتلقى الخبر كصاعقة، ثم تقول: لماذا صار كذلك؟ تعيش نوعاً من الإنكار، ثم تحاول أن تتعايش مع الأمر، ثم تواصل حياتك كالمعتاد! يمكنني القول أن مراحل هذه الفترة الصادمة لا ينطبق فقط على فني أو على تجربتي، بل على الفن التشكيلي عموماً والسوري تحديداً. يمكنني القول أنه خلال السنوات العشر أو الخمس الأخيرة، تركت الهجرة القسرية التي حدثت تأثيراً كبيراً على النتاج الفني، ولا شك أن المكان الجديد ترك تأثيره عليهم، وهنا ظهرت هوية جديدة لدى الفنانين السوريين.

لديك تجربة في تحويل المواد العادية إلى أعمال فنية معدنية، ما هي التأثيرات التي تركتها هذه التجربة عليك وعلى الآخرين؟

حوّلتُ بعض المواد  إلى مادة معدنية. رأيتُ هذا المعدن الذي صنعته، وأنتجت أعمالاً كبيرة من هذا المعدن. كان ما تحته مغطى بقطعة قماش، وتحولت رسمتي إلى شكل معدني. الأمر المثير هو أنه على الرغم من بساطة الفكرة، كانت متعة التجربة فائقة. ذهبتُ إلى ورش الحدادين وجلستُ معهم، وهناك واجهتُ بعض الصعوبة في التواصل حتى يفهموا ما أردت. والمتعة الأكبر هي تحويل شيئ إلى شيئ آخر. يعني لم أبق مكتوف الأيدي، فأنا عندما يتبادر إلى ذهني فكرة أجربها. وبعد ذلك، تطورت الأفكار ولكني لم أتوقف عن التجربة. أجمل ما في الأمر هو أنني أتذكر أنني بدأت هذه التجربة في ورشة عمل في الحي، واضطررت للجلوس معهم لفترة لأنهم لم يفهموا مبدأ الفكرة من البداية. حتى وجدت ورشة مستعدة لتنفيذها أو المخاطرة معي. الأمر الجميل الآخر هو أنه بعد مرور الوقت، بدأ الشبان الذين تعاونت معهم ييتواصلون معي ويخبرونني بأنهم صنعوا وردة وطائر من الحديد. يشكل هذا أيضاً نوعاً من التأثير على الأشخاص. يعني، في البداية، عندما سألوني عما كنا نقوم به خلال صنع شيء بأبعاد ثلاثة أمتار في متر ونصف، قال لي أحدهم: "أنا لا أصدق أننا نقوم بصنع نوافذ بهذه الأبعاد. كيف حدث ذلك؟" أصبح الأمر شبيهاً بالسحر لهذا الشخص. يمكن تحقيق الأمور الكبيرة بواسطة أشياء بسيطة وأدوات محددة. إن هذا هو جوهر المتعة!

هل لديك فترات زمنية محددة لتطوير شخصياتك؟

بالطبع، الشخصيات تتطور مع مرور الزمن على غرار تطور البشر ونموهم. حالياً، أرى مجموعة من القصص والمراحل في حياتي. بدأت في الاحتفاظ ببعض الأشياء لنفسي، أي أنني كنت أعمل عليها، وبطريقة ما تحولت إلى شيئ يشبه الآثار الرومانية. هذه القطع الفنية تخلق تأثيراً خاصاً، حيث تعكس الضوء وتبدو متوهجة. وفي تلك الفترة، كانت هناك روح متعلقة بالشام، تشبه "هذه الروح تشتاق إليك" وما إلى ذلك. في الواقع، اختزلت الكلام واستخدمت مصطلح "الروح والشوق" وأضفت تفاصيل، يعني أصبح لدي اهتمام بشكل الحروف، على الرغم من أنني لست خطاطاً.

هل تستخدم الكتابة كثيراً؟

لا، ليس كثيراً. لكن هناك شيئ من التوثيق والتأثير، مثلما يحفر شخص اسم حبيبته على شجرة. يعني أنا لست خطاطاً، ولكن هذا يضفي قيمة توثيقية وتأثيرية. على سبيل المثال، هناك لوحات كولاج على قماش، وأخيراً أصبحت هذه التجربة تحدث في الطبيعة مع مجموعة كاملة من الأمور.

هل رسمت مباشرة شخصيات معينة؟ 

لا، أرسم نفسي. لكن لدي تجربة كاملة تسمى "سيريس بورتريه" بالمعنى الحرفي، حيث يمكن لأي شخص أن يرى اللوحة وتتقاطع مع تجاربه وأفكاره، وبالتالي يرى نفسه فيها. أصبحت اللوحة تعكس تجارب مختلفة وآراء متعددة. وأصبحت أرسم الأمور التي لا أحبها أو التي أخشاها من خلال الفن. يعني أنني أقوم بأمور معينة في حياتي، ومن ثم أرسمها. بالنسبة لي، يمكن للفن أن يساعد في توثيق لحظات معينة. مثلاً سقطت في طفولتي من الأرجوحة، وتعرضت لضربة في رأسي، فرسمت ولداً يطير من  الأرجوحة، وحتى الآن أرسم الأرجوحة. أعتبرهذا الأمر هروباً أو شكلاً من توثيق لحظات معينة.

هل استخدمت في هذه السلسلة العديد من الأساليب؟

نعم، في هذه التجربة بالضبط، استخدمت أساليب فنية مثل الأبستراكت والإمسكيب. أرسم الشخصيات التي تظهر أمامي، وأنا أجزّء من القصة. أعجبت بفكرة الحائط الأبيض والسقف العالي، وبالمكان المفتوح على الشارع، الذي يساعدني في الشعور بوجود الناس من حولي، بدلاً من العمل بعزلة مثلما يحدث في شقق مرتفعة في الطابق الأربعين على سبيل المثال. في الواقع، دائماً عندما أكون في أي استوديو، يجب أن تكون هناك جلسة فنية. أنا أختار الزاوية التي سأرسم فيها، وأصبح مثل اسفنجة تستوعب المعرفة. أبدأ برسم مونودرامي، ممثلاً بشخص واحد فقط، على لوحة واحدة، وعندما أنتهي، أتعلم. ثم أقوم برسم لوحة أخرى. في بعض الأحيان، أشعر بأن اللوحات تتحدى أفكاري لتوليد لوحات أخرى، وأحاول تحفيز نفسي للمتابعة. يمكن أن تكون اللوحة "مشاغبة" أحياناً في هذا السياق.

كيف تستخدم الصور العائلية في عملك الفني وما هو دور الطفل في هذه الأعمال؟

بعض اللوحات تشمل أكثر من شخصية. لدي فكرة تتعلق بالعائلة بأكملها، حيث أنا جزء من القصة وأتابع تطور الأمور. بدأت بالعمل على الصور العائلية التقليدية، أقصد تلك التي نشاهدها في الألبومات العائلية. في الماضي، كنا نرسل الصور لبعضنا، ونكتب تعليقات يدوية بالقلم الرصاص للإشارة إلى هويات الأشخاص في الصورة. هذا يعكس كيف تطورت الأمور بالنسبة لنا. في الوقت الحالي، أنا جزء من القصة وتطورها.   أما ما يحدث الآن، تشعر فجأة، بأنك فقدت بعض الأشخاص من حياتك. أتذكر عندما بدأت في هذا المشروع، كنت أطلب من الناس إرسال صورهم لي، ثم بدأت في مشاهدة تلك الصور وإعادة صياغتها وتطبيقها بأسلوبي الخاص. كان هناك أشخاص كنت أسألهم: "ماذا جلبت لك من منزلك؟" ثم يأخذون الصور الموجودة ويحاولون إعادة إنتاجها تماماً مثل الصورة الأصلية. كنت أتساءل أيضاً كيف يمكن للأشخاص أن يلتقوا مجدداً ويلتقطوا صوراً تشبه تلك الصورة. عند السؤال عن كيفية اللقاء، وكأنك تعيد النظر في الأسرة كأسرة صغيرة. على سبيل المثال، لم أجتمع مع أخوتي منذ 8 سنوات. فكلهم يقطنون في أماكن مختلفة، ولكن الواقع هو أن الحياة قد تصبح أحياناً صعبة للغاية لتكون قادراً على العودة بها مرة أخرى. بهذه الطريقة أؤكد على أهمية الأسرة.  وأعمل في لوحاتي على إظهار تطورات الأسر، ففجأة، أصبحت الأسرة في قارب تتشابك أيادي أفرادها مع بعضهم البعض بشكل جميل، ثم أجدهم في مشهد عائلي وكأنهم في رحلة. هذا هو حال الأسرة، وهي أمر أساسي بالنسبة لي في عملي. أما الطفل فيكون هو حامل أساسي للأمل أو المستقبل.





مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).