إن أول ما يفاجئنا به الأدب الموسوم بما بعد الحداثي أنه لا يعبأ بالأعراف الأدبية والتقاليد الراسخة التي تميِّز الشعر عن النثر, والنثر عن الشعر, بل على العكس تماماً يتعمَّد الأدب ما بعد الحداثي, أن يخرق هذه الأعراف, وينتهك حرمة الجنس الأدبي واستقلاليته, بجعله مفتوحاً ومضيافاً لغيره من الأجناس الأخرى, وبعبارة أدق, يجبره على استضافة نقيضه في فضائه, فيمحي المسافة بين المتناقضات, ويوطّد عرا التضافر والتناغم بينها, فيوظف شيئاً من الشعر, وشيئاً من السرد, حتى يجد القارئ نفسه أمام إبداع سمته الأساسية كسر الألفة بين النص والقارئ من ناحية, وبين النص والواقع من ناحية أخرى, وخلق ألفة بين الأجناس الأدبية المختلفة من ناحية ثالثة, وهذا مباح في عصر غدا الاختلاط والانفتاح والتجريب والتحديث والتلوين والتنوع ديدنه. 

نستعدُّ بهذه المقدِّمة للدخول إلى تضاريس فضاء شعري إشكالي, ألا وهو ديوان شعر معنون بـ "نداء يتعثَّر كحجر" للشاعر والناقد السوري: "خالد حسين", هذا العمل الأدبي الذي يفرض علينا أن نواجهه بتقنيات نقدية بنيوية وسيميائية, تعيننا على ولوج بنيته الخطابية, وتتبع العلاقات المنعقدة بين عنوانه ومنعطفاته ومشاهده وشذراته, واستكشاف ما فيه من علاقات تناص داخلية وخارجية, وكيفية انفتاحه على العالم, ومثول المرجع الخارجي في كناياته واستعارته ومجازاته, فلا بد لنا إزاء خصوصية هذا النوع من الكتابة الشعرية السردية, وتكثف الدلالات التي توحي بها القصائد, وإيغال العلامات اللغوية في الانزياح عما هو مألوف ومستقر في الأذهان, من توظيف مختلف التقنيات النقدية, التي تُعين على استكشاف ذلك كله, وتقويض صلابة هذا العمل المختلف بكليته جنساً ولغة وبلاغة وإيقاعاً.

1-عتبة العنوان الرئيس "نداء يتعثَّر كحجر":  

أول ما نبدأ بالاشتباك معه هو عنوان الديوان الرئيس, الذي يستفزُّ القارئ, ويستحثُّ معرفته اللغوية والمعجمية للبحث عن مقصد الشاعر من عنوانه المبأَّر: "نداء يتعثَّر كحجر". هذا العنوان, الذي هو في حقيقة أمره, عنوان فرعي في الجزء الأخير من الديوان, قدَّمه الشاعر وجعله عنواناً رئيساً للعمل الشعري برمته, نظراً لأهميته, ولأنه البؤرة الأساسية التي تتناسل منها قصائد العمل. يمكننا أن نتبيّن ذلك من خلال دراسته وتحليله من حيث بنيته النحوية والمعجمية والبلاغية والنصية.

أما البنية النحوية فتتمثّل ببناء العنوان في شكل جملة اسمية, حُذِف منها المبتدأ, الذي يُفترض أنه واضح ومعلوم, وتقديره: هو /أو ندائي, واكتُفي بالتصريح بالخبر: نداء, لكن معناه لا يكتمل إلا بذكر صفة متمثِّلة بجملة فعلية مكوَّنة من فعل مضارع: يتعثَّر, وجار ومجرور: كحجر, متعلِّقين بالفعل: يتعثَّر. فتكون بؤرة التركيز على الخبر الموصوف. وعليه يكون التقدير: الجزء المحذوف: (ندائي إيَّاكِ) + الجزء المذكور: (نداء يتعثَّر كحجر). 

ولا يخفى علينا أن الشاعر قد استخدم حرف الجرّ: الكاف, الذي يفيد التشبيه. إذ شبَّه النداء بالحجر من جهة تعثرهما, فيكون التقدير: ندائي نداء متعثِّر كحجر متعثِّر.

أما من الناحية المعجمية والدلالية, فيمكننا الخوض أكثر في مكوّنات العنوان, ذلك أن 

نداء من "ندي: النون والدال والحرف المعتلّ يدلُّ على تجمّع, وقد يدلّ على بلل في الشيء. فالأول النَّادي والنَّديّ: المجلس يندُو القوم حواليه, وإذا تفرّقوا فليس بنديّ".

و"(نادى) الشيءُ مناداة ونداء: ظهر. ويقال: نادى النَّبتُ: بلغ والتفَّ. وفلاناً: دعاه وصاح بأرفع الأصوات. تنادى القومُ: نادى بعضهم بعضاً. واجتمعوا في النادي".

يتكثّف لدينا معنى لفظة (نداء), من جملة معانٍ تجمع بين دعاء أحدهم للآخر, وارتفاع صوته في طلبه, والاجتماع معه في مجلس واحد ومكان واحد, وكذلك الظهور والبلوغ. وبمعنى أعمق, يمثِّل النداء فعلاً إنسانياً يدعو فيه الإنسان الآخر للقاء والاجتماع والمجالسة والمؤانسة والمشاورة. هذه المعاني جميعاً تحفر عميقاً في دلالة النصوص التي بين أيدينا, حيث كُرِّرت لفظة (النداء) بكثرة, وفي مواضع عدة, وبصيغ عدة, فقد وردت الألفاظ المشتقّة من جذر (ندي) ثماني عشرة مرة على النحو الآتي:

نداء: اسم مفرد نكرة : في العنوان الرئيس والفرعي. 

النداء: اسم مفرد معرفة, مرة واحدة. 

نداءات: جمع مؤنث سالم, مرة واحدة. 

نداؤكِ: اسم مضاف إلى ضمير المخاطب المؤنَّث, (6 مرات).

ندائي: اسم مضاف إلى ضمير المتكلِّم, (4 مرات).

نداؤها: اسم مضاف إلى ضمير الغائب المؤنَّث: مرة واحدة. 

تناديني: فعل  مضارع مسند إلى ضمير الغائب المؤنَّث: (2).

أناديك: مضارع بصيغة المتكلِّم: (2). 

من الملحوظ أن فعل النداء متبادل بين العاشقَين, وليس من طرف واحد, فهو يناديها تارة, وهي تناديه تارة, فكلاهما بحاجة لحضور الآخر, والاستئناس به, والحوار معه.

كما نلحظ غلبة النداءات التي تطلقها المرأة قياساً إلى نداءات الرجل, فمجموع نداءاتها تسعة, ونداءاته ستة, وعليه يجوز أن يكون تقدير المبتدأ المحذوف من العنون: (نداؤكِ إيّاي) أو (ندائي إيَّاكِ) نداء يتعثَّر كحجر. 

إضافة إلى أن هذا التنادي ليس ماضياً, وإنما حاضر ومستمر, فالصيغ التي جاء بها, هي صيغة الاسم والفعل المضارع, التي تدل على الثبات والديمومة والاستمرارية, ما يعني أن التنادي ليس حدثاً طارئاً أو عرضياً, وإنما فعل إنساني أساسي, لازم, مستمر ومتواصل منذ الأزل وإلى الأبد, لا مفر منه لاستمرار البشرية. 

أما لفظة "عثر: العين والثاء والراء أصلان صحيحان, يدل أحدهما على الاطلاع على الشيء, والآخر [على] الإثارة للغُبار. فالأول عَثَر عُثُوراً, وعثر الفرس يعثُر عِثاراً, وذلك إذا سقط لوجهه".

و"عَثَر- عَثْراً, وعِثاراً: زلَّ وكبا. وعثَّره: جعله يعثُر. تعثَّر: مطاوع عثَّره. ويقال: تعثَّر حظه. وتعثَّر لسانه: تلعثم".

إن نسبة التعثر إلى النداء /والحجر جاءت من حيث السقوط, والفشل في تحقيق الهدف, جاء هذا المعنى من صيغة (تفعّل) التي كثيراً ما تفيد معنى صيرورة الشيء ذا أصله, مثل تألّم, تأسّف, تفكّك, أي صار ذا ألم, وذا أسف, وذا فكك, وعليه نقيس تعثّر, أي صار ذا عَثْرة: أي زلَّة.

أما مفردة "حجر: الحاء والجيم والراء أصل واحد مطرد, وهو المنع والإحاطة على الشيء... والحجر معروف, وأحسب أن الباب كله محمول عليه ومأخوذ منه, لشدته وصلابته. وحَجْرة القوم: ناحية دارهم وهي حِماهم. والمحاجر: الحدائق: واحدها مَحْجَر". 

لكن لفظة الحجر لم ترد بمعنى واحد واضح وشفاف, فصحيح أن الحجر شيء جماد, صلب, قاسٍ, لكنه أداة ووسيلة لأغراض عدة, فهو أداة:

1-للزينة, مثل الأحجار الكريمة الباهظة والنادرة.

2-ولبناء البيوت والمساكن والقصور.

3-وللصيد.

4-وللدفاع عن النفس, فهو أول سلاح عرفه الإنسان.

5-ولصناعة التمائم والتعويذات التي تعتمد على الحصى.

6-وللتقديس والتبرك به, مثل الحجر الأسود في الكعبة في مكة. 

الأمر الآخر الذي يثير الغرابة والريبة في استخدام لفظة الحجر في العنوان, أن هذه اللفظة وردت ثلاث عشرة مرة في الديوان, وبصيغ مختلفة: 

أحجار: بصيغة الجمع مرة واحدة.

(حجراً- حجرٍ- حجرٌ):  بصيغة النكرة المفردة المنوَّنة, 7 مرات.

الحجر: اسم معرَّف بأل التعريف: 5 مرات.  

إذن, هناك تنوع في استخدامات الحجر, وتكثيف لعدد مرات وروده على صفحات الديوان, وكذلك هناك دلالات غامضة ومثيرة ارتبطت به, وأخرجته من مجرد الدلالة على شيء جامد محسوس, إذ تارة نُسِب إلى الحجر الصمت, وتارة نشيد الأزل, وتارة حمل ألغاز الكينونة, وتارة اتسم بالشبق, وبالتعثر, وبالغموض, ولعله أكثر ما اقترنت به كلمة (نشيد: أربع مرات), وقد ورد في العنوان مشبَّهاً به للنداء, على اختلاف حقيقة كل منهما وكنهه, فالنداء فعل إنساني مرتبط بحاجات عقلية ونفسية وشعورية, ويشترط وجود طرفين, أما الحجر فقد تبدّى في نصوص الديوان, وكأنه كائن له نشيده الخاص وإيقاعه وصوته وتأثيره في المدى/الوجود/ الطبيعة, مثله في ذلك مثل أي كائن من كائنات الطبيعة الفاعلة.

إن البحث في البنيتين النحوية والمعجمية كشف لنا المعاني الأولية التي ينبض بها العنوان, لكن ذلك لا يكفي, بل نحن بحاجة للبنية البلاغية الني انتظم وفقها, ذلك أن تركيب: (نداء يتعثَّر كحجر) يندرج تحت باب التشبيه تامّ الأركان, إذ يتكوَّن من:

مشبَّه+ مشبَّه به+ أداة تشبيه+ وجه الشبه

نداء+ حجر    +  الكاف  + التعثّر

بهذا التحليل البسيط قد نظن أن العنوان بهذا الوضوح, وهذه البساطة في عرض حمولته الدلالية, وأن مقصده تشبيه نداء لم يصل بحجر يسقط مباشرة, لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هذا النداء؟ وبين من ومن؟ ولماذا اختار الحجر حصراً مشبهاً به؟ وما الذي أعاق إطلاقه أو وصوله؟.

2-خيوط "النداء" ما بين العنوان والمتن:

إن تلك الأسئلة وغيرها تستعر في ذهن القارئ, فلا يجد بداً من الغوص في تضاعيف القصائد بحثاً عن إجابة شافية. ذلك أن لفظة (نداء) بصيغها المختلفة قد وردت في سياقات متشابهة ومشتركة, من حيث الدلالة والأثر والانفعال, فها هو يقول في شذرة شعرية: 

تغوصين

في الغياب كسمكة ماكرة؛

في غيابك الذي يتخثر كليلة مطعونة بعتمة, آثمة لا علامة تغيث انتباهي, لا دروب تستنجد بعماي, كأنني لا أتقن النداء!

أناديك بقوة, ولكن ندائي يتعثًّر كحجر بالهواء فينهار بالقرب من قدميّ

أهجس لنفسي كلاماً مضجراً...

إن النداء المقصود الذي يحاوله, هو نداء العشق بين العاشقَين, نداء الرغبة, نداء الجسد, فالنداء هنا يمثِّل أول وسيلة دفاع للعاشق ضد غياب أنثاه, حيث يبدو وقع الغياب ثقيلاً وشديداً عليه, فيراه بحراً عميقاً غامضاً تغوص فيه عشيقته, ويراه مظلماً كعتمة الليل التي تؤذيه كطعنة, وتفتك به الحيرة والضجر والصمت, حتى ينتهي به المطاف إلى فقدان مَلَكة النداء, فيظن أنه يناديها بملء طاقته, لكن نداءه, في الحقيقة, سرعان ما يهوي كحجر يسقط أرضاً حال رميه, قبل أن يصيب فريسته /هدفه. 

تتناسل معاني النداء في الديوان, فهو ليس نداء عادياً, وإنما نداء الذكورة للأنوثة, نداء لتكامل الوجود البشري, نداء الطبيعة الإنسانية, نداء السكينة/ الوصال/ الكمال, فلا عجب أن نراه يصف نداءها:

أنا التي تضيئكَ بندائي؛

أنا عازفة الناي , أحلم بليالٍ منهوبة بأثر أصابعك

أيتها الكوجرية, يا لندائك- الغمام: أشتاقك

نداؤك  أسراب سنونو تغطي سماء روحي!

أناديك "كوجرو" ... لأؤنس الجلاميد في عزلتها, وأروِّض هذه السفوح بقرون كباشك, حينما رميت ندائي تفاحة بين يديك؛ كنت تلقن الذئب أن يكون ذئباً, وأن يكون نديماً لظلك.

يخرج النداء, إذن, من دائرة المعنى المعجمي المبدئي, فيغدو في هذه المقتطفات نداء محمَّلاً بأسرار الكينونة, تناديه فتضيء عتمة ليله, وتناديه فيمطر نداؤها مطراً يروي عطش رجولته, وتناديه طلباً للأنس, فيغدو إغواء له فعلُ تفاحة حواء بآدم.

 بين أصابع عاشقين, بين جسدين, بين نداءين تستيقظ نار نوروز...!

يُحدث النداء بين العاشقَين شرارة الحب, التي يشتعل بها/ بعدها جسداهما بنار نوروز, نار الخصوبة وولادة الحياة, التي لا بد من أن تبدأ بنداء كلٍّ منهما للآخر, وحضوره معه/به.

أيتها النجمة

أضيئي ليل الغريب, أريه البحر في شهقة العاشق

أريه الألفة حتى تريا ما لا يرى...! 

يرى نفسه من دون أنثاه وحيداً غريباً, حياته ظلمة, وهي النجمة المرتقبة, التي بوصالها يحظى بالضوء والألفة, وتنفتح الآفاق أمامهما بشهقة. 

كريح

تتناهب شجرة, 

يجتاحكِ ندائي؛ تجتاحك يدي, شفتاي, يجتاحك لهاثي جياداً داشرة...!

لا مفرَّ لك, لا مفرَّ لي...

يغدو نداؤه سلاحاً فاتكاً, علامة رغبته الصارخة بها, وهو الذي يقاسي ما يقاسيه من دونها: 

يعصف به قلق, الحيرة تهوي به, تغيب فيه اللغة, والإشارات, صمت المكان ينهض بين عينيه كعشب طارئ.

لذا لا يكتفي بمجرد ندائها بوصف واحد, أو باسمها, وإنما تتناثر النداءات, وتتنوَّع المسمَّيات والتشبيهات, فيقول:

أيتها الغزالة- أيتها النجمة- أيتها الأميرة الكردية- يا إشراقة الصمت- أيتها الرهيفة- أيتها الكوجرية- أيتها الظمأ- هبة المواسم- نعمة الأرض- يا وردة الملل الرجيم- يا وردة التردد والتناقض- يا أناهيتا- يامرأة الغابات البعيدة- أيتها المضرَّجة بارتباكات الموج- أيتها الغابة- أيتها الفسحة- أيتها العاتية- أيها الغمام.

تتماهى هذه الأنثى بالطبيعة, وكأنها هي الطبيعة البشرية, التي تضاهي الطبيعة الأم في الخصوبة, والعطاء, والمفاجآت, بها/ معها يخرج عن صمته وعطشه وعتمته وجوعه وهدوئه وملله, وبكلمة جامعة, يخرج عن نقصه.

وأنت الدليل لي في ليل اللغة حين أهم!ُّ باصطياد أثر الغزالة بين 

أصابع الوقت, فيأخذني الوله...! وأنت الدليل في عتمة العشق؛ بك أرى العالم

ونفسي, وألمس أوراق الكينونة في حضورها, وأمسك غيابها حسرة عميقة. أنتِ

الدليل والمحال, أتبع ظلالكِ وأضيع فيك كنقطة ماء حائرة. 

لكن هل هذا النداء الذي يحمل كل هذه الطاقة الخلاقة, قد حصل وتمَّ, وكان ما كان؟!

لا, هناك ما اعترض طريقه, وأصاب العاشق بغصَّة, وحال بينه وبين أنثاه. نتابع صفحات الديوان, فتطالعنا أزمة العاشق مع اللغة, مع الغياب, مع قدر العشق المحتوم بالفراق والوحدة, كل ذلك يؤول بالنداء إلى الفشل, إلى الارتطام بحائط الصمت والخيبة:

الحبُّ هشٌّ كالزجاج يتشظَّى...!.

يتعثَّر النداء حين يتشظَّى الحب بين العاشقين, حين لا يعود هناك طرفان يتبادلان النداء/الحب. وكذلك يتعثَّر حين يفقد المنادي قدرته اللغوية والجسدية والبلاغية في إطلاق النداء:

لسان معضوض لا يقوى على النداء.

أرمي الكلام كحصى تختفي بمدارجها...

لا حيلة لي إزاء

 منعطفات القول الفاتكة في هسيس خطابك.

أي دهشة, أي حيرة ترافقني في

هذا الترحال إلى مجهول اللغة؟!

لا بلاغة ترتجى في هذا الموقف؛ هكذا أبوح لنفسي بهدوء.

كأن الغياب قدر؛ كأن الحب لا يكون ..., كأن الحب هوة, كأنك لست أنت...!

يتوه العاشق في متاهات اللغة, تنهكه الحيرة/الدهشة/الفراق/الوحدة فتضيع منه مفردات اللغة, ويغدو عاجزاً عن إطلاق نداء يليق بأنثاه, كي يستحضرها فيه, ويخفِّف به من وطأة الغياب. 

من هنا كان تشبيه ارتطام النداء وفشله في استحضار الأنثى, بفشل الحجر في إصابة هدف ما, أو اصطياد طريدة أو فريسة هاربة, ولا سيما أن الشاعر/العاشق يشبِّه نفسه بصيَّاد يطارد فريسته/أنثاه:

- أطاردك من البحر إلى الغابة

أبحث عنك أيتها الغزالة منذ أن تخثر الوقت في صخرة هناك!

كصياد يقايض طريدة مستحيلة بحياة طارئة

من سهوب الجزيرة إلى شواطئ تغازل ضفاف الآلهة إلى غابات القارة العجوز.

يخرج هذا النداء من إطار النداء الفردي المحكوم بصفة عرضية طارئة وبشروط شخصية, ليغدو عاماً مجرداً تحكمه قوانين الكون, التي تحكم نداء الذكورة للأنوثة ونداء الأنوثة للذكورة, أي نداء الحاجة/ نداء الحب/ نداء الرغبة, الذي يغدو عبر صفحات الديوان النداء – الصدع, أو النداء- المتعثِّر لا محالة:

قلت: أيُّها العارف الحبُّ صدْعٌ, العشق لمَّا نصلْ؛

خطوة أبعد من يقين الوهم...!

 في الشهقة الأخيرة سأعرف أن العشق فاجعة!

 آآآآآآهٍ ... هي صرختي لما تصل!!!

يتعرى الصرااااااخ حتى أقصى الانكسار...! 

يغدو العشق محكوماً بالفراق/الانقطاع/الانكسار/التشظي, فلا حيلة للشاعر العاشق معه أن يغير ناموس الطبيعة والقوانين الكونية, ولا حيلة له على النداء, الصراخ ولا شيء سوى الصراخ الأجوف.

 إن تقصي خيوط النداء المنتشرة على قصائد الديوان, تجعلنا نقبض على أزمة الشاعر/العاشق مع اللغة عامة, والكلام خاصة, وأي نداء مبهم أيضاً, فالنداء ليس حكراً على الإنسان, وإنما هو ملكة تتميز بها مختلف الكائنات الحية, لذا نجد في هذا الديوان احتفالاً بمنتجات اللغة, ولاسيما أن اللغة هي حاسة سادسة تنضاف إلى الحواس الخمس التي لا يقوى الإنسان على العيش من دونها, فلا بد من امتلاكها, وتطويعها في مواجهة العالم وتمثيله, وفي تفاعله مع الآخرين, فتغدو اللغة جسراً بين الإنسان والعالم, وبينه وبين الآخر, وهنا تكمن خطورتها/أهميتها, وكذلك نلحظ احتفاء بمختلف النداءات التي تطلقها الحيوانات لتعبِّر بها عن نفسها, لكن الشاعر يستعين بها هنا لتعبِّر عنه وتنطق بلسانه, على سبيل التشبيه والتماهي بين كائنات الطبيعة, فلا فرق بين المرأة والغزالة والذئبة, ولا فرق بين الرجل والوعل والذئب, وهكذا: 

/ زئير, لهاث, حشرجة, صهيل, عواء, هسيس, فحيح, هدير, هديل, نزيب, موسيقى, شهقة, رنَّة. 

نداء, كلام, أغنية, قصيدة, لغة, لسان, صوتك, المدائح, الأساطير, أناشيد, حكاية, سرد, ملحمة, القول, خطابك, تميمة, رقية, تعويذة, وصايا/

يحتفي الشاعر بتأثير اللغة ومفعولها, وبغنى تجلياتها. كيف تستحضر شخصاً بنداء, وتعبِّر بكلام, وتُطرب بأغنية أو قصيدة أو نشيد, وتُخلِّد الحضارة بحكاية أو أسطورة أو ملحمة أو سرد, وتحمي بتميمة أو رُقية أو تعويذة, وتقدِّس بوصية وخطاب. كل ذلك تفعله اللغة في تمثيل العالم وحياة البشر وترويض الغيب, فلا ريب أن يقف أمامها الشاعر بمواربة:  

ما يجمعني بك, أبعد من اللغة, أعمق من الكلام...

ضرب مارق من الصمت...!

يشعر أن اللغة لا تُسعفه في علاقته بمعشوقته, فيغدو الصمت حلاً بديلاً للغة, وكأن في ذلك تحدياً أو انتقاصاً من عتو اللغة التي تهيمن وتبتلع كل شيء في هذا العالم.

لكنه لا يلبث أن يعيد للغة سطوتها, وقدرتها وحدها على مقاربة المجهول واللامرئي, فما يشعر به لحظة الوصال من نشوة وإشباع أقرب ما تكون طرباً وغرابة ودهشة: 

 كقصيدة تمكث على لسان اللغة انتظاراً ...!

جسدان في حقل من النعناع يناكفان العدم؛

ثمة قصيدة تنمو كزنبقة على الضفاف ...!

 ويؤكد اعترافَه بالفضل والتفوق للغة, مهما راوغ, أنها وحدها التي تضاهي هذه الأنثى العصية على التشبيه والإحاطة, فها هو يقول:

 أأكون بحقيق- حيث يترامى نداؤك مشفوعاً بنعمومة خالصة- أن أقول: ثمة

امرأة مجبولة من الأساطير والشعر واللغات الغامضة تهندس الوقت كناي

يروِّض الشر في عيون ذئاب رابضة على ضفة بحيرة...؟!

لم تُجبل هذه المرأة من طين ولا من جوهر, وإنما جُبلت من وجهة نظرة من سحر اللغة والشعر والأساطير الخالدة. لا شيء غير اللغة والأنثى يستثيران الشاعر, ويؤرقانه, ويعاركانه غموضاً وعصياناً, حضوراً وغياباً, من هنا ينهض عنوان: "نداء يتعثَّر كحجر" بؤرة تصنعها اللغة والمرأة معاً, وتتحدان في خلق أزمة للشاعر/ العاشق. 

3-عتبة العنوان الثانوي "اشتباكات سردية في إهاب الشعر":

بعد تتبعنا لخيوط العنوان الرئيس التي تلم شمل قصائد الديوان إليها, لا بد أن نعرِّج على العنوان الثانوي الذي يعقب العنوان الرئيس من باب التتمة أو الاستدراك, وكذلك المفاجأة: "اشتباكات سردية في إهاب الشعر":

يضع الشاعر قارئه منذ العنوان في حيرة من أمره حول جنس العمل الأدبي المقبل على مطالعته, أهو سرد أدبي, أم ديوان شعر, أم مزيج منهما معاً؟

حيث يصرِّح بأن ما سيقدِّمه ليس شعراً خالصاً يسير على هدى الوزن والقافية والإيقاع, ولا على هدى قضية يحمل رايتها, وإنما يحدِّد نوعه بشعر يشتبك/ يتصارع, ويتشابك/ يتداخل مع السرد, فجعل الصدارة للسرديات, وجعل حرف الجر "في" الذي يفيد الظرفية المكانية هنا, وسطاً, وأخَّرَ الشعر رتبة, وإن كان في الحقيقة بمنزلة الغلاف/الإطار, ولاسيما أن لفظة "إهاب" تعني الغلاف الذي يحيط بالنبات والجذور وبعض الحيوان, وهو هنا الغلاف الذي يحيط بالنصوص السردية, مما يعني أن السيادة والهيمنة للشعر, الذي يستضيف ويحجز مكاناً للسرديات في ساحته. 

من هنا كان هذا العمل منذوراً للشعر الموشَّى نسيجه اللغوي والدلالي والبلاغي بخيوط سردية, وهو ما نادت به قصيدة النثر, التي تأخذ ما تشاء من الشعر ومن النثر, بما يخدم الهدف المرتجى منها. لذلك لا غرابة أن نجده في أكثر من قصيدة يستخدم كلمات مثل: السرد –الحكاية- ترتيب السرد- مشهد- شذرة, ويتطفَّل على تقنيات السرد الأدبي, من خلال رواية الأخبار, والتفاصيل الجزئية, والوصف, والحوار بين الشخصيات, وعرض مشاهد درامية.

في مقابل ذلك يلتزم بمقوِّمات صناعة الشعر, مثل تقنية الانزياح, واللغة المكثَّفة, وشدة العاطفة والانفعال الذي يخلِّفه في المتلقي. 

هذا التوظيف المُتقَن لتقنيات مختلفة, ومتضاربة, خلق فضاء اشتباك بين الجنسين, ومواجهة, وتقاطع, وتنازع, وتوتر لدى القارئ, فيُجبَر على تغيير ذائقته الأدبية بما يواكب حداثة الإبداع, وموجة التجريب والاختبار التي تخرج بكل جديد خلَّاق.

4-عتبة الفهرس "المنعطفات": 

أما إذا انتقلنا إلى فهرس الديوان, فتكتمل عناصر المفاجأة الإبداعية, حين نجد الشاعر ينأى بنفسه عن المفردات الدارجة المألوفة, ويخرج عن المألوف في كل كلمة /علامة ينتقيها, فلا يستخدم كلمة فهرس, أو جزء, أو باب, أو فصل, وإنما يختار كلمة تضاريس عوضاً عن الفهرس, وكلمة منعطف بدلاً من الفصل أو الجزء. وكأن الديوان طبيعة على ورق, ساحرة بتضاريسها المكوَّنة من المفردات والتجارب الإنسانية والانفعالات, ثم قسَّم هذه التضاريس إلى ثلاثة منعطفات متساوية من حيث المساحة, لكل منعطف ثلاثون ورقة تقريباً:

المنعطف الأول: 

1-عن تلك الشجرة التي يستضيء بها الليل في سيره الأعمى

2-كقصيدة تمكث على لسان اللغة

3-لكي أتورد كالنسيان بين أصابعك

4-سفوح, كباش ولسان معضوض

المنعطف الثاني:

1-سماوات شاردة, عتمة على بعد شهقة

2-عن العدم, عن بناته الصاخبات

3-قوس الإغواء, ثمة شر يندلع

4-سر يكاد من وجهك... أيتها الغزالة

المنعطف الثالث:

1-ليل يغوص في شهقة أخيرة: نداء يتعثر كحجر

    2-على رنة خلخالك يستيقظ العشب ...!

إن لفظة "منعطف" ليست بريئة الدلالة, حيث جعل الشاعر قصائد الديوان تضاريس, مثلها في ذلك مثل تضاريس الطبيعة, التي يظهر فيها السهل والجبل والنهر...إلخ, ولذلك أكمل رؤيته التي تقضي بأن هذه التضاريس ليست مستوية, أو متسلسلة, وإنما عبارة عن منعطفات, ينعطف فيها الشاعر من حالة إلى حالة, من حضور إلى غياب, ومن لقاء إلى انفصال, ومن وصال إلى جفاء, فتماوجت القصائد عبر منعطفاتها الثلاث استغراقاً في عالم الطبيعة والعالم الإنساني معاً.

يمكننا أن نتقصَّى ذلك بدقة, فقد اختار في المنعطف الأول من عالم الطبيعة وكائناتها: الشجرة, الليل, التورد, سفوح, كباش.

ومن مستلزمات الإنسان وخصائصه: السير, العمى, القصيدة, اللسان, اللغة, الأصابع, اللسان المعضوض. 

نلحظ اندراج مكونات هذا المنعطف ضمن الفضاء الأرضي المحسوس.

أما المنعطف الثاني, ففيه من كائنات الطبيعة: سماوات, عتمة, عدم, غزالة.

ومن خصائص الإنسان: شهقة, بنات, إغواء, وجه, سر.   

وتبدو هذه المكوِّنات ذهنية مجردة وشعورية.

أما المنعطف الثالث ففيه من كائنات الطبيعة: ليل, حجر يتعثر, عشب. 

ومن خصائص الإنسان: نداء, خلخال, شهقة أخيرة, يقظة.

يتماهى في هذه المنعطفات الطبيعي بالإنساني, والإنساني بالطبيعي, فلا نكاد نميز أين تنتهي حدود أحدهما, وتبدأ حدود الآخر, وهما, في حقيقة الأمر, عالمان منفصلان مستقلان ظاهرياً, ولكنهما متحدان متماهيان ضمنياً ودلالياً. 

إذ يمزج بين فضاء الطبيعة من نهار وشجر ويمام وطيور وذئاب ونسيم وغيث وحجر وأرض وسماء وتماسيح وينابيع وضفاف وبحيرات وماء ونار وكباش وسفوح وكهف, وبين جسدي المرأة والرجل, فالأمير- كبش, والأنثى غزالة/ذئبة/ بحيرة/أرض ...إلخ.

أتحسَّس جذعك, أوراقك, كتفيك؛ أغصانك

يا لهذه الشجرة التي تُضيء المكان بصمتها ...!

أنثى تتوهَّج كشجرة في شمس هذا الخريف ...!

الغيوم- إناث يَمِلْن تحت وطأة الشغف, إناث يتساقطن قطناً.

نار, نهر, نخلة, نغم ونعيم؛

تلك علاماتك, سجاياك, آياتك في عراء هذا العالم ووحشته.

وكأنه يقدم لوحة عن وحدة الوجود, ووحدة كائناته, ووحدة القوانين التي تحكمها وتسري عليها, فكلها محكومة بقانون النقص, والحاجة إلى الإشباع والاكتمال بآخر/ كائن, أي بحاجة إلى الوصال/ التواصل/ الاتصال اللغوي والجسدي والجنسي والثقافي والحواري.

يتبدى امتهان الديوان لعبة التشفير والترميز, والمجاز والتشبيه والاستعارة, مما يبتعد بالقول عن درجة الشفافية إلى الضبابية والمواربة في التدليل.

5-المسار السردي لسردية العشق والتنادي:

يمكننا أن نتتبع المسار السردي لسردية العشق التي يرويها الشاعر, لنقبض على تنامي الحكاية, ونعرف كيف بدأ السرد/الشعر, وكيف انتهى, وما التحولات التي طالت كلا العاشقَين.

بدأ الديوان بليل يستضيء بالشجرة/المرأة, "عن تلك الشجرة التي يستضيء بها الليل في سيره الأعمى". وبنشيد الأزل الذي يغنِّي ملحمة التنادي البشري, فيباشرنا الشاعر بضعفه/ حزنه/ خوفه من عدم الاكتمال بأنثاه:

يا ليتني كنت حجراً؛ ليعبرني الحب كمسافر دون أثر, لتعبرني الغزالة ولا 

تطعن قلبي بالنوى!

يا ليتني كنت هناك ويسكنني حجر...!

منذ البداية كان يشعر بها, يصفها, يبحث عنها, تستغرقه بجمالها/ كمالها, ويضيع بين أصابعها. كانت البداية بزمن خريف ذهبي, و بــ "صباح, زبرجد, ياقوت, بحيرة.

صباح في أقصى الرقص" وكان رهين الكثافة الأنثوية, أسير الغواية.

لكن فجأة تتغيَّر حال الوصال/الفتنة/ اللقاء, لينعطف إلى تكسر الحب:

ويتكسر 

الحب أيضاً

مثل آنية من خزف, سينتهي الحب مثل أي حدث مكتنز بفجاءات جميلة. سيمر علي في الحديقة, وكضيف دمث سيرمي تحية الوداع الأخيرة؛ فأنظر في البعيد

... فلا أرى إلا وجه أمي الذي لا ينتهي !

لا مفر من تغير الأحوال, وتقلب القلوب, لا مفر من الخيبة والفراق والغياب الآثم. فيتساءل بغصَّة:

وأيضاً :

أنى تشتبك أصابعك

أصابعك المصقولة بلهفة الآلهة, مع أصابعي؛ حينما ألتقي بك على ضفة هذا

الأفق, بمحاذاة كتفيك.

هنا في هذه اللحظة الحرجة, يبدأان لعبة التنادي, الذي يحلُّ وسيطاً بينهما, ويمثُل علاجاً مرمِّماً لطعنة الفراق, هي تناديه لتضيء عتمته وهو يرى نداءها غماماً وأسراب سنونو وتناديه "كوجرو" طلباً للأنس لينهي جوقة النداءات هذه بتلخيص حكاية البشرية المحكومة بقيد الرغبة المفتقرة إلى الإشباع:

"ما من حكاية أيها العابرون, خلا امرأة تدشِّن جسدها على ضفاف الليل!

خلا جسدين ينهاران في منحدر الرغبة كشلالين في هاوية!

فحسب, ليس سوى فاتك يغوص في جسد الأرض حتى اللهاث الأخير بلسان معضوض ".

فيكون هذا المنعطف معقوداً على :

اتصال  -----انفصال -----نداء

ثم ينتقل في المنعطف الثاني إلى ترتيب السرد من جديد, فيعود إلى مشهد الدبكة الكردية, ويعاني ما يعاني من الحيرة والدهشة والصمت والعدم والوحدة, تهرب منه الحياة, يهبط صقيع بارد على المدينة, ثم يغرق في حكاية الحلم أو حلم الحكاية في شرق الجزيرة, يتذكر الإلهة أناهيتا/ معشوقته, كيف يطاردها كيف يبحث عنها. 

فيكون تمثيل اهذا المنعطف على النحو الآتي:

انفصال -----نداء

أما في المنعطف الثالث: ليل يغوص بشهقة أخيرة, ونداء يتعثر كحجر, يبدأ هذا المنعطف بمشهد الغيرة غيرة العاشق من رسام التاتو "وأنا هنا تلتهمني ظنون مريعة...!. يراها امرأة لعوباً عاتية متجبِّرة "امرأة ملتبسة ككل النساء اللواتي يحرِّكن الكون بنظرة مغتلمة, ذئبة تحيط بالتضاريس الوعرة, يقول عاشق محبط

يا إلهي الوسيم؛ انظر: كيف أبدو كريشة تتلاعب بي الريح...!!

إنها مأساتي أيها الإله!"

تتلهَّى بعشَّاقها, تزدريهم:

"أيتها العاتية

عشَّاقك يتنكَّبون على بعضهم سراباً, يلهثون خلفك ككلاب طعنها ظمأ قاتل!

لكنك ماضية في عتوك بشغف ريح هوجاء؛ تلملمينهم من أزقة مدينة غريبة.

وحين تبطش بك القهقهة ترمين أشلاءهم الزنخة كقشور الموز على الطريق الإسفلتي بجسارة غريبة!.

وفي مشهد مناقض يراها غزالة/ضحية تغطُّ في هسيس السواد حقلاً من الرماد, حيث تتحوَّل إلى غزالة /ذئبة جريحة مكسورة مطاردة من صيَّاد يحاصرها بسلاح الرغبة فيحولها إلى رماد.

ثم سرعان ما ينعطف إلى مشهد اللُّقيا, و "صباح عميق مثل نشيد الحجر يخطف العاشقَين إلى فجاج بعيدة...!"

- وعلى غير العادة ينحدر الصباح الهادئ إلى عربدة مثيرة!

 ياللمكان المغمور بجسدك- النشيد!

-على سرير الصباح, غفوة ويقظة, عاشقان, ريح وغيمة, عاصفة, ذئب وذئبة

يعويان في أدغال الشهوة.

لكن كل هذا العشق لا بد أن ينتهي بفاجعة, ويتحول إلى سراب ذكرى, فيراها سمكة تغوص في الغياب, ولا يُفلح في ندائها, وحبُّهما يتشظَّى كالزُّجاج الهشِّ:

"يعود الصبي من تضاريس الزمن فائضاً بالانكسار؛ مغمغماً لنفسه:

الحب أن تنهب سموات مستحيلة كأنك تغرف من الغمام بروحك, الحب هشٌّ كالزُّجاج يتشظَّى...!"

ويذهب كلٌّ منهما إلى البعيد/ السراب/ الغياب, وتبدأ دائرة الانتظار, انتظار الحب الذي لما... أي لم يحصل/ يأتِ/ يعشْه/ يفشل/ يتعثَّر

ويختم الديوان بمشهد عاشقين في حضن الطبيعة تحت زرقة السماء, يتبددان في صرخة النشوة: 

عاشقة مكتظة بعاشقها,

ظلان يتبددان في صرخة ...!

يمكن تمثيل هذا المنعطف كما يأتي:

انفصال  ----ذكرى ونداء  -----انتظار

بدأت الحكاية في هذا الديوان باتصال العاشقَين, وانتهت باتصال في مشهد يصف تبددهما في نشوة الوصال والاتصال, في حين تماوجت المنعطفات الثلاث بين حالة اتصال العاشقَين وحالة انفصال, وغلبت حالة انفصال التي يعقبها نداء, لذلك كانت تسمية الفصول بـــ "منعطفات" شرعية بجدارة, إذ أوحت بالحركية والتحول في العلاقة بين العاشقَين, ولم تكن مجرد علاقة مستقيمة تسير باتجاه واحد متوازن, وإنما تسير باتجاهات متناقضة ومتعرجة, يتنازعها الماضي الجميل والذكريات, ويؤرقها الحاضر/الغياب, ويقفز بها الحلم إلى المشتهى, ويهدئ من روعها نداء وتأوه.

6-تجليات التناصّ وصيرورة الدلالة:

لم يكن السرد محكوماً لثنائية الاتصال/ والانفصال فقط, موزَّعاً بين هذين القطبين فحسب, وإنما وقف, منذ عنوانه, في المنتصف, في المنطقة الوسطى, التي يُمثِّلها فعل النداء, الذي يغدو ثالثهما, ويزاحمهما على مدار صفحات الديوان, من خلال صور التنادي الخاصة بالعاشقَين من ناحية, وتلك المغرقة في القدم من ناحية أخرى, مثل استحضار الإلهة الفارسية القديمة أناهيتا, إذ ينادي العاشق أنثاه باسم "أناهيتا", إلهة الخصوبة والمياه والعظمة والتقوى والشفاء:

أنا أناهيتا, أنا "هيتا" التي تحبك غابة تحتفل بإشراقة الشفق, لا سبيل لك إلا 

إيَّاي؛ على ضفة الليل خذني إليك, وأذقني ماء القلب يا فتاي ! لا

تنتظر... أضئني بوميض شهقتك فرسخاً فرسخاً وأنت تعبر تضاريسي المشتهاة.

فهي ليست مجرد امرأة عادية, بقوى بشرية, وإنما يسبغ عليها طاقة الآلهة, وقواها الخارقة في تدفق المياه, وبعث الحياة في الأرض اليباب, وري الطبيعة والذكورة في آن.

ومن لطيف الدلالة التي يحملها تحليل اسم "أناهيتا" إلى "أنا- هيتا", أنها ترتبط أو تومئ إلى سورة يوسف في القرآن الكريم, ﴿وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلَّقتِ الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسَن مثواي إنه لا يفلح الظالمون﴾ [سورة يوسف: 23].  

وكأنه يحلِّل اسم إلهة المياه العظيمة إلى نداء الأنثى للرجل لري عطش الرغبة وبعث الحياة. وهو تناص خارجي لمَّاح يثبت العرا الخفية في نظرة العبادات القديمة والكتاب المقدس للمسلمين للمرأة, التي تتبَّدى مفعمة بالغواية والإغواء والمبادرة بنداء الرجل.

وهناك استحضار آخر لشخصية يوسف في موضع آخر, وفي سياق جديد, متناصة مع آيات أخرى تتحدَّث عن علاقة الرجل بالمرأة, وكأنه يضفي بذلك قداسة وهيبة وجلالة لهذه اللحظة الخاصة التي تجمع الرجل بالمرأة, إذ أول ما تبدأ بنداء المرأة, ودعوتها لفتاها/ وعلها/ ذئبها:

إذ ينحدر "يوسف" في غفلة الإله إلى الوادي

العميق طوىً تُطبق الذئبة على ذئبها اغتلاماً: هيت لك يا فتاي...! هيت لك...!

تصرخ على وعلها: احرث الأرض, مثنى وثلاث ورباع..., هديل,

صهيل, حمحمة, هدير, صراخ... تهدأ العاصفة, تستكين الريح كأن لم تكن,

وتحطُّ الغيمة أثقالها...

يمضي العاشقان في قبلة لا تنتهي...!

تُروى حادثة يوسف وزليخة هنا بمنظور جديد مخالف للمنظور المعروف في النص المقدَّس, فيغافل "يوسف" هنا إلهه, ويلبِّي رغبة الأنثى, التي تحتاجه مثنى وثلاث ورباع, لا هو الذي يحتاج امرأتين أو ثلاث أو أربع, وهذا تناص مع الآية الكريمة: ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورُباع فإن خُفتم ألا تعدلوا فواحدة﴾ [النساء: 3].

وكذلك تناص مع الآية الكريمة: ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾ [الزلزلة: 2].

هذا التشابك بين النصوص القرآنية في سياق شعري جديد, يُحدث خرقاً للقوانين المتفق عليها في تحديد شكل علاقة الرجل بالمرأة, من باب كسر الألفة التي على الشعر الخلَّاق أن يُحدثها قولاً وبلاغة, رؤيةً ومفهوماً. 

ومن صور التناص أيضاً استحضار الشاعر لشخصية "نيتشه" في مشهد درامي حواري, يدور فيه حوار بين الشاعر/العاشق ونيتشه, في فضاء العدم والتفكير بالسراب والوهم, وكأن هذا المشهد اختيار متعمَّد لهذا الفيلسوف الموسوم بأنه عدمي, شغل نفسه بشؤون الإنسان وحقوقه وعلاقته بالإله, حتى إنه نادى بموت الإله, وجعل الإنسان مكانه, مؤكداً مبدأ الحرية, التي يجب أن يتحلَّى بها, ولكنه في الحقيقة وبعد مرور كل هذه السنين على فلسفة نيتشه, لا زالت مبادئه سراباً يُطارد بلا جدوى: 

أتذكّر نيتشه بشواربه المتلبِّدة, في

الواقع يتقدَّم نيتشه من تلقاء ذاته ويجلس على طرف الكنبة دون أن ينظر إليَّ؛

ليتابع شؤون "النقطة", لكنه لا يحرِّك ساكناً وأنا أنظر إليه بلا مبالاة: كأنك

تطارد العدم! رميت كلماتي في صمت عينيه...

كلمات قليلة بعد هنيهة ستسقط  من بين شواربه الهائلة: 

أطارد سرابك...!!.

لم يكن استحضار الشخصيات التاريخية والدينية عبثاً, وإنما وُظِّفت في سياقها الجديد لتخلخل ما ترسَّخ في الأذهان واستقر, وتطرح رؤية جديدة تنطلق من معالجة ما هو فردي من خلال قصة حب عابرة بين رجل وامرأة, إلى ما هو كوني ينطبق على مختلف العلاقات الإنسانية, ويستوي في كل العصور قديماً وحاضراً ومستقبلاً.  

7-خاتمة:

ختاماً نجد أنه قد تضافرت نصوص الديوان في سياق شعري/سردي يحفل بثنائية الرجل- المرأة, وثنائية الحضور- الغياب, وثنائية اللقاء- الفراق, وثنائية الطبيعة- الإنسان, في مقابل قطب واحد ليس له مقابل هو النـــــــــــــــــــــداء, الذي احتلَّ صدارة العنوان, ثم تناسلت منه خيوط الحكاية بين العاشقَين, ببلاغة تمزج ببهلوانية شاعر بين كثافة اللغة الشعرية وسلاسة لغة السرد والحكايات, فيجد القارئ نفسه منهوباً ببلاغة فائقة, تختبر مشاعره وانفعالاته إزاء منعطفات العلاقة البشرية المحكومة بالتعثر والتشظي والانكسار, تماماً كما هي حال اللغة, ذلك الوسيط بين الإنسان والعالم, كما أن النداء وسيط بين عاشقَين:

"اللغة, كشأنها, تتعثر في اصطياد فرائسها".

كلاهما, اللغة والنداء, يتعثَّران في الوصول وتحقيق المراد, فكما أن الشاعر قد أضناه تكلف النداء ومعاودته للاتصال بمعشوقته, كذلك أضنته اللغة, وهي سلاحه الأوحد, في اصطياد مكنونات النفس الإنسانية, وترجمة المشاعر, وفكّ أسر المكبوت, وتعرية الآهات والأشواق والحاجات, فما من حلٍّ والحال كذلك, إلا أن يدع شاعرنا نشيد الرغبة البشرية, وصرخة التنادي, مفتوحين إلى الأبد بانتظار اختبار حب لمَّا يُولد, ولمَّا يُعرف له مثيل, ولمّا يحدث, ولما يأتِ...

سـأدع النشيد مفتوحاً على ألغاز الأبد

وأنتظر الحب الذي لمّا...






مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية