طرأت مواجهة عارضة بين القوات المسلحة الروسية مع المدمرة البريطانية «إتش إم إس ديفيندر» يوم 23 يونيو/ حزيران الماضي بعد أن توغلت داخل المياه الإقليمية لشبه جزيرة القرم، مقر القاعدة الرئيسية للأسطول الروسي في البحر الأسود.

 وبعيداً عن اللغط الذي دار حول الحادثة وأحقية المدمرة في التجول من وجهة نظر القانون الدولي، يمكن فهم التحرش البريطاني على أنه جس نبض لرد الفعل الروسي حيال مثل هذه التحركات على خلفية التهدئة المفترضة مع «الناتو»، بعد قمة بايدن – بوتين الأخيرة.

 فقد جاء الاستفزاز البريطاني الذي يعتبر الأول من نوعه في البحر الأسود، قبل أيام من انطلاق المناورات العسكرية «سي بريز 2021»، التي تشارك فيها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وأوكرانيا في البحر الأسود، وتجري بين 28 يونيو/ حزيران، و10 يوليو/ تموز.

 يقظة روسية

 وما يثير القلق هو أن القيادة الروسية التي تعيش تفاصيل المشهد السياسي العالمي، تعاملت مع حادثة المدمرة البريطانية ليس على أنها مجرد استفزاز عسكري فقط، بقدر ما هي جس نبض استراتيجي يهدف إلى خلق جو من التوتر بين موسكو وبعض عواصم القرار الأوروبي، التي كانت تستعد لفتح حوار معها في أعقاب قمة جنيف بين الرئيسين بوتين وبايدن. وتزامنت الحادثة مع طرح ألمانيا وفرنسا اقتراح القمة مع روسيا الذي انتهى إلى الرفض في قمة الاتحاد الأوروبي حيث وصفت الخارجية الروسية السياسة الخارجية للاتحاد بأنها رهينة بيد الدول المعادية لروسيا.

ومما زاد في قلق الروس الإعلان في لندن عن أن وزارة الدفاع البريطانية تحقق في تسريب وثائق خاصة بها عثر عليها في محطة حافلات بلندن. وتتضمن الوثائق التي تقع في نحو 50 صفحة مناقشات كبار المسؤولين حول مسار المدمرة البريطانية «إتش إم إس ديفيندر» في البحر الأسود قرب شواطئ شبه جزيرة القرم.

وفي ظل أجواء الحذر والترقب يرى محللون عسكريون أن الروس حاولوا التأكيد على يقظتهم واستعدادهم للرد من خلال اعتراض بعض القطع المشاركة في مناورات البحر الأسود، خاصة أن السفن الأوكرانية كثيراً ما تلتقي سفناً روسية في المنطقة نفسها، من دون أن تتعرض لحوادث مثيرة للقلق. كما أنهم أرادوا توجيه تحذير لبريطانيا على وجه الخصوص، لعدة أسباب، منها الدعم العسكري الذي تقدمه للأسطول البحري الأوكراني، ومنها مشاركة لندن مؤخراً في مناورات في واحدة من دول الشرق الأوسط تعتبرها موسكو ملعبها.

 ولا تعترف بريطانيا ودول «الناتو» بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم، والحدود البحرية والجوية الروسية في شبه الجزيرة. ومع أن سفن «الناتو» وطائراته ومركباته الجوية المسيرة تقترب من الجزيرة بشكل منتظم، إلا أنها لم تدخل المياه الإقليمية بشكل يثير حفيظة الروس الذين يخضعون كل تلك التحركات لمراقبة مكثفة يتولاها أسطول البحر الأسود الروسي، وجهاز حرس الحدود.

من هنا ينظر المراقبون إلى التحرش الروسي بالمدمرة البريطانية على أنه رسالة مبطنة إلى التحالف الأمريكي البريطاني الجديد، وتحذير حيال تحركات حلف الناتو في البحر الأسود الذي يراه الروس بحيرة نفوذهم الإقليمي.

 فقد قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إن المناورات المشتركة بين كييف وحلف شمال الأطلسي تعتبر استفزازاً يتسبب بزعزعة الاستقرار على طول الحدود الروسية.

 نحو محاصرة روسيا

 والحقيقة أن تحرشات الأمريكيين و«الناتو» لا تقتصر على المناورات البحرية، بل إن هناك استراتيجية متكاملة لمحاصرة الروس تتبدى عناصرها في الإجراءات الاستباقية تحسباً للمواجهة المقبلة. فقد عزز نظام صواريخ «إيجيس أشور» الذي تم تركيب قواعده الأولية في بولندا، القلق الروسي من التصعيد الذي يمثله نشر تلك الصواريخ القادرة بمداها الذي يصل إلى ألفي كيلومتر،على الوصول إلى منطقة الأورال في روسيا.  ولا ينفصل الوجود الروسي في إقليم دونباس الأوكراني عن ساحة الصراع الساخنة منذ عام 2014 عندما ضم الروس القرم، حيث يعتبرها الروس مصداً لأي تهديد من قوات الناتو، وسلاحاً في المناورة على تغيير نظام الدفاع والأمن الأوروبي القائم على الوصاية الأمريكية على القارة، ما يشكل تهديداً دائماً للأمن القومي الروسي، ويعرقل تطور العلاقات إيجابياً بين موسكو والاتحاد الأوروبي. وتتهم موسكو بروكسل بالتمسك بمادئ «موجريني» المقرة عام 2016 والتي تربط مستقبل العلاقات بين الجانبين بتنفيذ اتفاقية مينسك الذي تعارضه أوكرانيا.

وهكذا تكشف الحادثة حجم التراكمات الروسية التي تسبب بها تنكّر الغرب للتفاهمات غير الموثقة التي جرت ما بين دول «الناتو» وموسكو بعد نهاية الحرب الباردة.

من هنا يمكن فهم التصعيد الروسي الذي جاء على لسان الرئيس بوتين بعد الحادثة، حيث أكد أنه لا يخشى أن تكون روسيا بفعلها ذلك ستبدأ الحرب العالمية الثالثة، لأن أولئك الذين نفذوا «الاستفزاز»، على حد قوله، يعرفون أنهم «لا يمكنهم تحقيق النصر في مثل هذه الحرب».

 بؤرة تهديد

ومن المرجح أن يصبح البحر الأسود بؤرة تهديد دائم للأمن والسلام العالمي بعد أن تمترس «الناتو» في قاعدة أوديسا الأوكرانية، إثر ضم روسيا شبه جزيرة القرم، وتحويلها إلى قلعة سيطرت من خلالها على بحر آزوف، وعززت وجود أسطولها في البحر الأسود بسفن إضافية لمواجهة سفن «الناتو» التي يحمل بعضها صواريخ كرزو كاليبر.

وأخيرا تكشف هذه التطورات إلى أي مدى صارت خرائط عالم ما بعد الحرب الباردة هشة، وأن تغييرها قاب قوسين، أو أدنى.

المصدر: الخليج

الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).