بعد موجة من الانتقادات التي طالت عملاق التواصل الاجتماعي «فيسبوك» خلال السنوات الماضية واتهامها بالتحيز السياسي لأطراف ضد الأخرى، ودورها المشبوه في التأثير على مجريات الانتخابات والقضايا السياسية التي تخطت حدود الولايات المتحدة وامتدت أياديها للخارج، يشير مراقبون إلى أن الشركة تحاول ضرب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة، إطالة أذرعها الأخطبوطية المتغلغلة أصلاً في دهاليز السياسة، وعلى الجانب الآخر محاولة تقنين توجهاتها السياسية من خلال إنشاء كيان يتلقى كل الضربات الموجهة إليه، عوضاً عن تركّز تلك الانتقادات والاتهامات ضمن شخصيات معينة أو كيان الشركة ككل، في خطوة تبدو وكأنها محاولة لغزو الفضاء السياسي وتفريق دمه بين المجموعات والأحزاب وحتى الدول. 


أظهرت تسريبات إعلامية حديثة أن عملاق التواصل الاجتماعي «فيسبوك» يدرس حالياً إنشاء هيئة انتخابية تعمل على تقديم المشورة للمنصة بشأن المسائل المرتبطة بالانتخابات العالمية والأحداث والقضايا السياسية حول العالم؛ حيث نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن خمسة مصادر رفضت الكشف عن هويتها، أن «فيسبوك» تواصلت مع مجموعة من الأكاديميين والخبراء السياسيين للأخذ بآرائهم فيما يختص بتشكيل تلك اللجنة، وهو ما من شأنه أن يُمكّن عملاق التواصل العالمي من تجسيد بعض توجهاته وآرائه السياسية لتكون عبر هذه الهيئة المقترحة. 


وفي الوقت الذي رفضت فيه «فيسبوك» التعليق أو الرد على هذه المعلومات، ذكرت المصادر وفقاً للصحيفة، أن مهام الهيئة ستتضمن اتخاذ القرارات الخاصة بالجدوى المالية التي تعود على الشركة من الإعلانات السياسية، وكيفية تعاملها مع المعلومات الزائفة المرتبطة بالانتخابات في جميع أنحاء العالم وغيرها. وعلى الرغم من أن مشاورات إنشاء هذه الهيئة لا تزال في مراحلها الأولية مع إمكانية انهيارها تماماً، توقعت الصحيفة أن تعلن «فيسبوك» عن إنشائها خلال العام الجاري، مستبقة الانتخابات النصفية المقررة في عام 2022، خاصة أن التسريبات كشفت عن أن تلك المحادثات تجري منذ أشهر عديدة.

وفي ذلك، قال مراقبون إن محاولة «فيسبوك» إنشاء هذا الكيان وإسناد القضايا المتعلقة بالانتخابات إليها، يمكن أن يعزز من قدرتها على تجنب الانتقادات اللاذعة التي تعرضت لها في السابق، مثل الاتهامات التي وُجهت لها من جانب جماعات سياسية بالتحيز لأطراف ضد أخرى؛ حيث وجه المحافظون خلال السنوات الماضية، سهام نقدهم إلى المنصة الاجتماعية الأشهر عالمياً، على خلفية الاتهامات التي ارتبطت بحجب المنصة لأصواتهم، إلى جانب منظمات المجتمع المدني والجماعات الحقوقية المدنية وبعض أعضاء الحزب الديمقراطي، والذين اتهموا «فيسبوك» بغض الطرف عن معلومات سياسية زائفة، وسماحها بانتشارها على نطاق واسع بشبكة الإنترنت. ونقلت الصحيفة عن مصادرها قولهم إن مارك زوكربيرج الرئيس التنفيذي للشركة، يريد تجنّب اعتباره صانع القرار الوحيد فيما يتعلق بالمحتوى السياسي المنشور على المنصة.

امتداد لمجلس الرقابة

وفي حال شُكّلت هذه اللجنة، فإنها ستكون امتداداً لمجلس الرقابة الذي أنشأته الشركة في عام 2018، وهي عبارة عن لجنة مختصة من «خبراء» بمجالات الصحافة والإعلام والقانون والسياسة، ويتمثل دورهم في إبداء آرائهم فيما يختص بإمكانية إزالة بعض المنشورات السياسية الحساسة من المنصة بعد نشرها ومراجعة القرارات الخاصة بحذف الحسابات الشخصية واستعادتها، وهي اللجنة التي شكك مراقبون فيها وأكدوا أنها ليست سوى أداة تحاول الشركة من خلالها إظهار خضوع المحتوى السياسي للمنصة لرقابة جهة مستقلة، على الرغم من أن الشركة نفسها هي من اختارت أعضائها وتدفع لهم رواتب عبر صندوق تابع لها. 

كانت أكثر القرارات التي اتخذتها منصة «فيسبوك» إثارة للجدل خلال الفترة الماضية، حظرها لحساب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في أعقاب اقتحام متظاهرين لمبنى الكابيتول بالعاصمة واشنطن في يناير الماضي؛ حيث قررت المنصة حظر الحساب إلى أجل غير مسمى، فيما كان لمجلس الرقابة الذي يعد قراره ملزماً وفقاً للأحكام التي تأسس عليها، رأي لم يخرج عن سياق ما اتخذته المنصة من قرار، فعلى الرغم من أنها وصفت القرار بأنه غير مناسب وأوصت بضرورة مراجعته والنظر فيه مرة أخرى وضرورة تحديد سقف زمني محدد لفترة الإيقاف بناء على معايير واضحة، فإنها أيّدت الحظر في النهاية، ما دفع عملاق التواصل الاجتماعي في يونيو الماضي لتحديد يناير من عام 2023 موعداً لإعادة تفعيل الحساب مرة أخرى بعد إجراء تقييم عام لتحديد مخاطر الحساب على السلامة العامة. 

 وقد نال مجلس الرقابة ذاته الكثير من الانتقادات الشديدة بعد إنشائه والإعلان عن اختيار الناشطة اليمنية توكل كرمان لتكون ضمن أعضائه، وهي المتهمة بدعم الإرهاب والتحريض عليه في المنصة ذاتها عبر حسابها الشخصي، إلى جانب ارتباطها الوثيق بجماعة «الإخوان المسلمين» المتهمة بدعم الإرهاب والتحريض عليه، ودورها الهدام في حرب اليمن التي صورتها على أنها غزو أجنبي للأرض، وهو ما يخالف الواقع، إلى جانب دعوتها لتمكين الجماعات المتطرفة ودعمها.

الإعلانات السياسية

تتمتع المنصة الاجتماعية الأشهر عالمياً بسجل حافل فيما يتعلق بالتأثير على الانتخابات، بداية من الاتهامات التي أشارت إلى تلاعب وقفت وراءه روسيا ضمن حملة للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016 عبر الإعلانات السياسية الزائفة بالمنصة، إلى جانب أنها واجهت انتقادات لاذعة لقيامها بتغيير بعض الشروط الخاصة بالإعلانات السياسية قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.

 وفي رد على ذلك، قالت «فيسبوك» إنها قررت حظر جميع الإعلانات السياسية قبل أسبوع من بداية الانتخابات الرئاسية، ومنعت بعد ذلك كافة الإعلانات السياسية الأمريكية بشكل مؤقت بعد إغلاق صناديق الاقتراع في يوم الانتخابات، الأمر الذي تسبّب في إحداث جدل كبير بين المرشحين وشركات الوساطة الإعلانية.

وعلى الرغم من أن المنصة حاولت تخفيف الانتقادات الموجهة لها من خلال إنشائها مكتباً للإعلانات السياسية لتعزيز الشفافية، وتطويرها قسماً خاصاً بمراقبة الأحداث الانتخابية بهدف منع وصول وانتشار المعلومات المضللة حولها، فإنها واجهت سيلاً من الانتقادات التي أشارت إلى أدوار خفية لعبتها في أحداث سياسية خارج الولايات المتحدة، بما في ذلك الاتهامات التي تتمحور حول تغاضيها عن الانتشار الواسع للمعلومات الزائفة عبر خدمة رسائل تطبيقها الشهير «واتس آب» خلال الانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2018. 

أحداث مستقبلية

ويبدو أن الأنظار ستتركز بشكل أكبر صوب عملاق التواصل الاجتماعي خلال الفترة المقبلة التي ستشهد عدداً من الأحداث السياسية البارزة، من ضمنها الانتخابات التي ستجري في كل من المجر وألمانيا والبرازيل والفلبين، وستحاول الجهات التنظيمية والحكومات من خلال تلك الأحداث التعرف إلى نجاعة الإجراءات التي تقول المنصة إنها اتخذتها لمكافحة المعلومات المضللة وخطابات الكراهية. وفي خضم ذلك، تشير تقارير أوروبية إلى أن معلومات زائفة حول الانتخابات الألمانية المقررة الشهر المقبل، بدأت بالفعل في الظهور على المنصة، إلى جانب قيام «فيسبوك» بإزالة بعض الحسابات التي تدعم الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي الذي كان لشبكات التواصل الاجتماعي دور فاعل في فوزه بالرئاسة في عام 2016.

آراء متباينة 

وتعليقاً على ذلك، قال ناثانيل بيرسلي، أستاذ القانون بجامعة ستانفورد الأمريكية، إن الاتهامات الموجهة للشركة بدورها في التأثير في الانتخابات والأحداث السياسية حول العالم، أمر مبالغ فيه بعض الشيء؛ حيث أكد: «بحكم أن «فيسبوك» شركة أمريكية عملاقة ولها انتشار واسع عالمياً، فإن الغالبية يعتقدون بأن بمقدورها التأثير بشكل ملحوظ في المسار السياسي في أنحاء متفرقة من العالم، لكن تأثيرها الحقيقي لا يتعدى بعض المسارات الضئيلة التي تكاد لا تشكل فرقاً كبيراً خلال تلك الأحداث. إن إنشاء هذه الهيئة لن يكون له أي دور في تغيير نظرة العالم نحو الدور الذي تلعبه «فيسبوك» في العديد من الأحداث السياسية البارزة».

وعلى الجانب الآخر، قال مراقبون إن الهيئة الانتخابية المقترحة ستكون مختلفة تماماً في هيكليتها عن مجلس الرقابة الذي طالته العديد من الانتقادات لدوره المحدود وتبعيته المباشرة للشركة؛ حيث أشاروا إلى أن دوره سيكون أكثر إيجابية في التعاطي مع القضايا والأحداث السياسية، وذلك أن التوجيهات والتوصيات التي سيقدمها ستكون استباقية وأكثر إلزامية من سابقتها، وهو ما يعني عدم قدرة المنصة على اتخاذ القرارات بشكل منفرد؛ بل عرضها أولاً على الهيئة ومن ثم تمريرها في حال الموافقة والتصديق عليها. وفي ذلك قال تاتندا موساباتك الذي كان مسؤولاً عن الحملات السياسية ب«فيسبوك»، إنه وعلى الرغم من أن الشركة فقدت جزءاً كبيراً من مصداقيتها في الأحداث والحملات السياسية الماضية، فإن مقترح إنشاء هيئة انتخابية مستقلة خطوة في الطريق نحو تصحيح مسارها المتأرجح.

كرمان.. الاختيار الأسوأ

1

لم تواجه لجنة المراقبة التي أنشأتها «فيسبوك» بغرض تهدئة الرأي العالم عالمياً في حد ذاتها انتقادات بالقدر الذي وُجّه إلى أعضائها الذين اختارتهم الشركة لتمثيلها؛ حيث أثار اختيار اليمنية توكل كرمان الكثير من الجدل في الأوساط العالمية بسبب ارتباطها الوثيق بجماعة «الإخوان المسلمين» ووصف بالاختيار الأسوأ، إلى جانب أنها ضمت شخصيات أمريكية بارزة كانت تطالب بعزل الرئيس ترامب، من بينهم باميلا كارلان التي كانت ضمن أبرز من أدلوا بشهادتهم أمام اللجنة القضائية بمجلس النواب أثناء التحقيق في إجراءات عزل الرئيس دونالد ترامب العام الماضي.

أصابع اتهام بريطانية

1

وجهت أصابع الاتهام لشركة فيسبوك خلال السنوات الماضية لدورها فيما تطلق عليه وسائل إعلام «تأليب» البريطانيين للتصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتركيزها على تضخيم المعلومات التي تسلط الضوء على فوائد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من فضيحة «كامبريدج أناليتيكا» الشهيرة التي استولت فيها الأخيرة على بيانات أكثر من 50 مليون مستخدم للمنصة بطريقة غير قانونية لاستخدامها سياسياً، والتأثير الذي أحدثته بالفعل على قرار البريطانيين الذين اختاروا الانفصال، فإن المسؤولية الكبرى وفقاً لمراقبين، تقع على عاتق عملاق التواصل الاجتماعي الذي تساهل في الإجراءات الأمنية لديه، بما مكّن أطرافاً خارجية من استخدام بياناته للتأثير في أحداث سياسية بارزة، وهي المعلومات التي أكدتها تسريبات تم التحقق من صحتها بواسطة العديد من الصحف ووسائل الإعلام الأوروبية.

المصدر: الخليج - وائل بدر الدين

الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).