صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب "غريقُ نهر الخنزير" للشاعر والقاصّ الكرديّ السوريّ عبد الرحمن عفيف.

يحاول الشاعر عبدالرحمن عفيف في "غريق نهر الخنزير" استرجاع الأيّام الماضية من حياته وحياة آخرين؛ استرجاع المكانِ والزمانِ والانطباعات القديمةِ، حتى تلك التي في أعماقِ النسيانِ العميقة، وإعادة كتابة هذه الأمورِ كفعلٍ تحدّ يتمّ القيام به لأجل عيش هذه اللحظات الماضياتِ ثانية عن طريق اللغة، بعد أنْ صارت عدَماً كاملاً مكمّلاً.

يعيد الكاتب في هذا العمل تأثيث عالمه بحكاياته وذكرياته من مدينته عامودا ومن بساطة وجمالية الحياة والناس فيها قبل سنوات، يصنعُ من نفسه شخصاً على وشك الغرقِ، يودّ بملء ما فيه من طاقةٍ وقدرةٍ بعد أنْ يقصّ حياة بتفاصيل دقيقة وعواطف وإحساسات، وهو مؤمنٌ أنّه إن نجح في قصّه وتعبيره، فإنّه لن يغرق قط، بل يكتسب حياة متجدّدة وعيشاً متبرعماً، فيهتدي به آخرون كثيرون على وشكِ الغرقِ مثله...

يقسّم الكاتب عمله إلِ ثلاثة أقسام، أقاصيص وإشراقات وأشعار، ويعود فيها الكاتب إلى سجلّ ذكرياته ومراحل مختلفة من حياته وارتحالاته بين ثنايا الأمكنة، بحيث يكون نهر الخنزير الذي كان يقطع مدينته عامودا إلى شطرين، نقطة الالتقاء وقارب الانطلاق نحو حميمية الماضي ودفء تفاصيله الجميلة. وبالإمكان مشاهدة جماليات الغرق في الذكريات الأثيرة في أبلغ سطوع ووضوح له في إشراقات الشاعر.

"غريق نهر الخنزير" كتابٌ جامعٌ لأشدّ لحظاتِ الحنين ومستخرجٌ لأبلغ ما نسي وطمر، وبذلك يمتلك قابليّة أن يقرأ على مستويات عديدة: كشعر وأغنية، كإشراقٍ ومكاشفةٍ أو حكاية ورواية. وهو كتاب الذاكرة المتجدّدة النابضة بالحياة.

يشار إلى أنّ لوحة الغلاف للفنّان الكرديّ السوريّ بشّار العيسى وتصميم الغلاف للشاعر والفنان ياسين أحمدي. ويقع الكتاب في ٣٠٠ صفحة من القطع الوسط.

من أجواء الكتاب:

منابت العندكّو

للبلدةِ الصغيرةِ في الشمالِ، ثلاثة جسورٍ إسمنتيّة مقامة على نهرِ الخنزيرِ. ولو أنّ النهر جافّ، ويابس منذ أزمانٍ. جسرٌ عند الجامعِ الكبيرِ، قريبٌ منه تمكنُ تسميته بجسر الجامعِ الكبيرِ. والجسر الثاني هو الجسرُ في السوق، بقربه دكاكين سمانةٍ وبعض المقاهي على ضفة النهرِ. والجسر الثالثُ والأخيرُ عند المخفرِ فيسمّى جسر المخفرِ، وهناك أيضا المستوصف ودار البلديّة ومبنى مؤسسة التموين في أزمان الطفولة. ولو أنّ أحداً لم يكن يطلق أية تسميات على الجسور، وتقريباً لا يأبه بها كذلك أحد بتاتاً بتاتاً. ولا ينمو زهرُ العندكو الأصفر طيّب المظهر والذكرِ والشذا هنا، حيث الجسورُ الثلاثةُ أو تحتها في نهرِ الخنزيرِ. إنّما حوالي البلدة وأطرافها، حيث أراضٍ وحقولٌ وبيوتٌ طينيّةٌ قليلة العددِ. لكنّ نموّ الزهرِ وشذاه وعطره وعبيره لا يحصل كلّ عامٍ. بل قد تمرٌّ أعوامٌ كثيرةٌ، كثيرةٌ شاقة ولا يكون له ولرقته ولونه الرقيق الدقيق نموّ، ولا ظهورٌ، فتختفي الجسورُ الثلاثة كأنّما لم تبنَ قطّ، ولا عبرها الناس ولا مرّ نهر الخنزير من تحتها. ولا يعود العاشق يرى حبيبته حتى ولو عن بعدٍ، كما يرى المرء النجوم. ولا يعود يشمّ شذا بل يصير يشمّ روائح الروث والأزبال المرميّة في النهرِ وعلى أطرافه. وتطول السنون هذه بلا عدّ ولا حصرٍ. فيتأوّه، تحت وطأتها الثقيلةِ. وكأنّما جاءت وحلّت، لتدوم وتبقى دائماً أبداً...

***

صقل العيون

قالَ لأحدِ القصاصين من أصدقائه، وهما يتجوّلان في شوارعِ البلدةِ المغبرة المتربة صيفاً: "تُغطّى العيونُ بالغبارِ، فتصبحُ غير شفيفة، مضبّبة مغبرّة متربة ولا تعودُ ترى الجوهريّ وجمالَ الأشياءِ والأوقاتِ؛ إنْ ظلّ المرء في مكانهِ ولم يغادره لفتراتٍ طويلةٍ. ولم يقم بأيّة أسفارٍ مديدة شهوراً وسنين. أو ترحالٍ يجدّد ويصقل ويغسل العيونَ، لتبرقَ وترى وتكتشفَ مرّة أخرى. رغم أنّه هو ذاته، لم يكن يقوم بأيّما ترحالٍ وسفرٍ. وإنّما يقضي أوقاته معظمها، هناك على تلك الشوارعِ المتربة المغبرّة الفقيرةِ، ليلاً ونهاراً يذرعها جيئة وذهاباً...

***

مثقب الليل

ذلك الذي يهلك الليل جالساً على كرسيّ، ليله كلّه، قبالة بيت آل هولي تاجر الأقمشةِ. على الضفة اليسرى لنهر الخنزير، الممتلئة قاذورات وأوساخاً وروثاً وأزبالاً تلالاً تلالاً. يهلك الليل بالسهر، تدخينا للسجائرِ، وراء السجائرِ. لا يفكّر سوى في  حبّه الفاشلِ الخائب المتهالك. هناك، وهو جالسٌ قبالة بيت آل هولي، تاجر الأقمشةِ إلى الضفّة اليسرى. حيث تلال الزبالات تلالاً تلالاً. يثقب الليل بسجائره البارقةِ، ثقوباً ثقوباً كثيرة. فلا يبقي لليل على رداء، ولا يذرّ له أيّما جلباب...

***

ليل الأعراس قبالك

إلى متى تنكرينه! ولو أنّه الليلُ الهادئ المسدول الأعطافِ، العميق العميق. كمحيطٍ بلا نهايةٍ. لكن مصابيح العرسِ مشرقة، وهو واقفٌ قبالك وبينكما الرقصات والدبكات وحلقاتها. تلفّ وتدورُ بالراقصين والراقصات. يحدّق من مكانه، حيث يقف وصديقه إليك. خلفَ المصابيح وحلقات الرقصِ، خلف الأهازيجِ. حيث أنت مع ابنة عمّك، تنكرينه وتنكرين عيونه، تتحيّن فرصة لتلتقي النظرات بنظراتك. أنت، أنت. لا يملّ تحيّن الفرصة، لا يملّ المحاولةَ. تنكرينه إلى متى خلف حلقاتِ الرقص! وسكاكر العرس في الليل الكبير الهادئ الكبير حتى الذوبانِ. والمصابيح ووجهك وحبّه لك مذاك مشرئبٌ. مذاك، محملقُ إليك، إلى عيونك، لا يكلّ ولا يملّ، مشرق مشرق...

***

تعريف بالمؤلّف:

عبدالرحمن عفيف: شاعرٌ وقاصّ ومترجم كرديّ سوريّ، ولد في عامودا - سوريا سنة 1971. درس في جامعة حلب الأدب العربي. يعيش منذ سنة 1996 في ألمانيا. له ثلاث مجموعات شعريّة: "نجوم مؤلمة تحت رأسي"؛ "رنين الفجر على الأرض"، و"وادي الديازيبام". وثلاث مجموعات قصصية: "الحجحجيك"؛ "في سيارة ابن الصراف"، و"دموع الملائكة أو السعادة المطلقة". وله في الترجمة عن الألمانية: "الثلج يهبّ على الألفباء: قصائد مختارة من الشعر الألماني"، و"شوقاً إليك أبليت الزناجير: قصائد للشاعر أحمد عارف".

الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).