صدرت مجموعة (كانت وكان وكانت هي الأخرى) القصصية للروائي والكاتب السوداني منصور الصويمِّ عن دار المصورات نهاية العام المنصرم 2021م. والصويم هو الروائي المعروف بأعماله الروائية التي ظلت تتصدر المشهد السردي على مدى العقدين الاخيرين، حيث بلغت أعماله الروائية ست روايات (تخوم الرماد، ذاكرة شرير، اشباح فرنساوي، آخر السلاطين، عربة الأموات، طحلب أزرق) وقد حازت بعضها على جوائز وتًرجمت إلى اللغتين الإنكليزية (تخوم الرماد) والفرنسية (رواية ذاكرة شرير). وتُرجمت بعضٍ من قصصه أيضاً إلى الإنكليزية واللغة السويدية. ولكن ما الذي يعنيه صدور هذه المجموعة القصصية بعد رحلة سردية منجزة؟ وهل في ذلك تدارك لفجوة سردية يحتاجها الروائي بين حين وآخر وأن ينشط في أكثر من اتجاه سردي (شعري، سردي، قصصي ...الخ)؟

لم تكن المجموعة القصصية بأي حال وجود بلا سابق في التجربة السردية للكاتب، فهي من ناحية تدفع بمحاولات مبكرة في الكتابة القصصية وهذا شأن اختبره غالب الروائيين أن تظل كتاباتهم وهي تجربتهم المفترضة كمنصة تأسيس للكاتب (الروائي، القاص، الكاتب...الخ). وهو ما تشير اليه الناقدة الأميركية لويس تايسون بقصدية المؤلف Authorial Intention في مؤلفها (النظريات النقدية المعاصرة) من منظور شخصي مطابقة للنص ومحاولة الاندماج مع انتاجه الإبداعي، ويتدخل النقد من (منظوره) الى ما يمكن وصفه ببليوغرافيا أدبية للكاتب. ومع ما يشكَّل العناصر الشكلية في كل من الفضاءين مرتبطة بتاريخ الكاتب تجيء تجربة الكاتب مع تغير القراءات وإمكانية التأويل وتعدد قراءات النص إلا أن النص يبقى لصيقاً بأسلوب الكاتب، ومعبراً عن مسار كتابي تصنفه التجربة ويعكسه انتاجه. فإذا عُدَّت كل من القصة والرواية كسياق سردي واحد لا يحتمل التناقض بالمنطق الفلسفي وينبثق عن مصدر متوحد العناصر غير مضادة أو متنافرة. فقد بدت القصة في تجارب الكتاب روائيين وقصاصين معبراً وتجاوزاً الى كتابة أكثر تعقيداً (الرواية) وترحيِّلٍ للنص من نطاق مقتضب التعبير (القصة) الى رحابة السياقات السردية المتمدَّدة في بنية الخطاب الروائي وتشكيلاته السردية. وينبع باختلاف مستويات اللغة (أداة التوظيف) مستويات متباينة بين البساطة والمباشرة الى التركيب المعقد. فكتابة القصة أو الرواية بوصفهما نتاجات لغوية وابداعية تكون محاولة لاستدعاء المنظومة السردية لاختراق عالم الكتابة ومواجهة وجودية عبر نظم سردي وزمن وجودي آخر.

وتزامن القصة مع التجربة الكتابة للكتاب والروائيين تكاد تكون قاعدة تأسست عليها كل بدايات الكتاب وخاصة القصة القصيرة في السودان وبداياتها ومسارها من فترات زمنية بعيدة تؤرخ للكتابة السردية (القصصية) فما من روائي أو كاتب إلا وكانت القصة القصيرة مدخله إلى الكتابة السردية. ويدخل في ذلك طائفة من الكتاب ولعل أبرزهم من الروائيين وكتاب القصة القصيرة الطيب صالح (1924-2009)، وإبراهيم إسحاق (1946-2021) وعيسى الحلو (1944-2021) والرائد معاوية نور (1909-1941). وبينما اكتفى بعضهم بالقصة لأسباب ما مثل عثمان الحوري، يحيى فضل الله، زهاء الطاهر، مصطفى مبارك إلى جيل التسعينات جيل الصويِّم عبد الحفيظ مريود، عثمان شنقر، كلثوم فضل الله، سارة الجاك، أميمة عبد الله. وسريعاً ما يغادر القّاص إلى كتابة الرِّواية وهي حالة لا تكاد تستثني إلا القليل على مستوى العالم العربي وربما بداية بروز القصة القصيرة Short-story إلى حيّز الكتابة العربية ومن قبلها الغربية مصدر تقاليد كتابتها. وربما يعتبر القاص المصري سعيد الكفراوي الكاتب العربي الأوحد الذي ارتبط بكتابة القصة القصيرة دون سواها وإلى حدٍ ما يوسف ادريس رائد القصة العربية ولو لم يكتف بالقصة بل كتب الروايات وإن لم تجد حظها من التأثير بقدر قصصه. وعالمياً نجد أسماء توفقت عند كتابة القصة الروسي كاتب القصة الأعظم انتوني تشيخوف والأميركي ريموند كارفر.

وهذا التركيب المتباعد نسبياً بين القصة والرواية ليس مطابقة بين عناصر شكلية في صياغة التشكيل السردي، إذ لكل من المجالين بما يمكن وصفه بالفضاء المدرك Space Perceived تتشكل وتترسم عليه مخيلة الأحداث وهي تصيغ الأحداث والشخصيات. إذ يدخل في دائرة الكتابة السردية بينما تتفاوت التجربة وقدرة على الكتابة والإجادة من كاتب لآخر لكل من المجالين. ونشأ عن هذا التفاعل السردي ومكوناته التأسيسية بين عالميِّ القصة والرواية بنية اختبار لأدوات الكاتب غالباً ما ينزع الى تغليب اتجاه على حساب الآخر.

مجموعة الصويم القصصيّْة (كانت وكان وكانت هي الأخرى) تُضم بعضٍ من قصصه المنشورة المنتخبة، وبنشرها كمجموعة يحتويها كتاب ستأخذ ملامح مشروعه السردي القصصي ويطبق بالتالي عليها الشكل الإجرائي للنقد ويكون لها قابلية القراءة والقراءة النقدية التي يحققها النشر الكتابي أكثر من النشر على الصحف اليومية. ويتضَّح في هذه المجموعة القصصية واحداً من أهم ملامح هذا المشروع القصصي المتمثل في اللغة فثمة كثافة شعرية للغة التي صاغت هذه النصوص. والشعرية ههنا محاكاة شعرية للمطابقة الشكلية بين بنية الشعر ولغة السرد، ولكن باستخدام أعلى درجات التعبير للتراكيب اللغوية المصاغة ذات الحساسية العالية وهو ما يبقيها توحي بلغة الشعر دون محاكاته الإيقاعيا أو ما يعرف بالــ Onomatopoeia إلا أنها أي اللغة ومستوياتها التعبيرية لا تنزعُ عن القصص الخصائص التي تتصل ببناء النص القصصي وعوالمه (الشخصية، الإطار، الحبكة، التركيز ...الح) بما يتوافق وعناصره التقليدية المُكَّونة لإطاره العام وضبطها -أسلوبيا- داخل الإيقاع الزمني.

القصة الأولى من بين عشرين قصة ضمتها المجموعة التي أخذت المجموعة عنوانا معادلاً ومترابطاً حسب تقنية العنوان في علاقته بالنص (كانت وكان وكانت هي الأخرى) فكما يوحي العنوان بتركيبه النحوي ولوازمه الصرفية وافادته الزمنية (فعل كان) ومن هنا تبدأ تفاعل اللغة بصورها البلاغية ومشاهداتها السردية التي ينتج عنها نصٌّ يقتضي حفزه بالطاقة السردية القصوى باتخاذ الوصف وسيلة للسيطرة على تطور الأحداث عبر الفواعل القصصية وفق منهج تحليل الشخصية البنيوي لدى رولان بارت. وقُسمت هذه القصة إلى ثلاث مقاطع تسرد سرداً منفصلاً ومتداخلاً بين ثلاث شخصيات مضمرة بين فعل اخباري (كان/كانت وكانت الأخرى) مارس عليها الراوي من موقع خارجي وصفاً لأبعاد شخصيات بكامل رغباتها المطلقة والمكبوتة كما يكشف عنها النص وتكونت أحداثها على زمن وحدث ومكان. وتمكن الراوي من إذابة هذه الشخصيات في فضاء سردي محتشدٍ بصورٍ فنتازية يربطها خيالٍ ذي قدرة على مزامنة الأحداث. ومن تقنيات الكتابة القصصية لدى الصويم قدرته على تصوير الشخصية عبر تحليل ذروة الحدث السردي (قصة، رواية) لا يكتفي بكشف عالم شخصياته السيكولوجي والشعوري، بل يجعلها دائماً ما تلامس واقعية استلهاماً لحقائق إنسانية تبلغ من التعقيد ما هو في حدود الاحتمال. فالعلاقة بين (كانت، وكان) عبر دلالاتها المنبثقة عن علاقة حميمية تجمعهما تفاعلية ذات وتيرة تصعد وتهبط بالحدث الرغبوي من بداية الانفجار الى التلاشي. وكونت هذه القصة على ما تنطوي عليه من مفارقة أحدثتها الصور السردية المترابطة وبتسارع زمني لاهث بين مسارات الحكاية مما أوجد تشويقاً مثيراً أفضى إلى نهاية كنتيجة لصراع بين كانت وكان وكانت الأخرى مقارباً لأشكال العلامة التخيلية العميقة التي أنجزت نصاً قصصياً يعكس مكنة في الكتابة القصصية كما يفترض أن تنقله الكتابة السردية في أي قالب سردي جاءت، والتي في اطارها يقود السارد تواتر الأحداث.

ومن قصة تنفعل بدينامية التخييل إلى قصة يتداعى فيها السرد قصة (حزين مثل دولاب خشبي قديم)، نص قصيرة يقوم على مزجٍ ما بين قصة الحدث وقصة الشخصية في تناولها التقابلي كما يشير العنوان. فالجانب الموضوعي في القصة (الدولاب) وشخصية القصة الرجل الحزين يصور السرد؛ نعثر على صورتين تستقل كل منهما بعالمها المادي الزمني (الدولاب) والرجل (الحزين) في عزلته وبؤسه المقيم. لا تفسر القصة لماذا الرجل حزين، إلا أن تمثيل الحزن والكآبة قياساً على العنصر المتقارب والمفارق في علاقته مع الانسان للقصة (الدولاب) وما ترمز اليه هيئته المتداعية ما هي إلا صورة رمزية غير تقريرية عن حياة إنسان لم يكن الحزن من بين خياراته الوجودية، ولكنه مأزق واجهه الرجل الحزين. وبين القصتين من انتقال تتفاوت فيه التقنية المستخدمة والعناصر الموظفة بالاعتبارات النقدية التقليدية في شكل وبناء القصة استطاع الصويم أن ينقل مشاهد قصصية جمعت جزئياتها عبر دقة في الوصف كونت رؤية سردية نفذت إلى طبقات سردية تعددت صورها الإنسانية المتناقضة.

لقد تناولنا قصتين من مجموعة (كانت وكان وكانت هي الأخرى) لواحد من أهم الروائيين وكتاب القصة القصيرة في محاولة لقراءة ملامح من مشروع سردي يضاف إلى المجال الإبداعي الكتابي في السودان. ودعوة إلى إعادة القراءات النقدية للقصة بإخضاعها لمختبرات التحليل النقدي باعتبار ما شكلته في رسم وتكوين وتطوير الرواية التي باتت صوتاً سردياً جهيراً يكاد يطغى على ما عداه من منجزات سردية وكتابية أخرى. بوجه من القول، فإن القصة القصيرة لم تكن محاولة في مقاربة الكتابات الإبداعية، بل نزعم أنها بداية الصعود الى مجالات الكتابات السردية المتخلفة (الرواية، القصة القصيرة، القصة القصيرة جدا) وهذا ما تأكده تجربة الصويم السردية وما اسهمت به تجربته القصصية في مضمار الكتابة السردية.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).