لندن – صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب "حذاء أبي.. هذا العسل البالغ المرارة" للباحث والكاتب الكرديّ السوريّ إبراهيم محمود، وهو الجزء الأوّل من سيرة الطفولة المبكّرة للكاتب.

يرجع الكاتب في سيرته إلى أيام ولادته، وكما نقلت إليه ذاكرة العائلة والمحيطين به، وما كان معهوداً وقتذاك، في قرية مجهولة ضائعة في الجغرافيا وفي التاريخ، اسمها "خربة عنز" التابعة لمدينة القامشلي في سوريا.

يستعين إبراهيم محمود في سيرته بما التقط في ذاكرته من أخبار وصور ومشاهدات راسخة، ومن خلالها تتسلسل أحداث ووقائع ومفارقات، ومباغتات واغترافات تضيء صفحة قرية ومن فيها وفي الجوار، والطقوس والأعراف التي كانت سائدة بعينيّ طفل لم يتجاوز حينها الثانية عشرة من عمره.

ينكأ الكاتب جروحَ الماضي في سيرته الذاتية، يرتحل عميقاً في الذاكرة، يفتح قلبه بصدق وصراحة وجرأة ليحكي عن طفولته البعيدة، ويقرّبها لنا بطريقته المميّزة التي تلامس قلوبنا بحيث يجعلنا نعيش معه تفاصيلها الدقيقة والأليمة..

يُوقظ إبراهيم محمود ذاك الطفلَ الغافي فيه، يستنطقه، يقدّم شهادته على تاريخه، يلملم بقايا الأحداث والذكريات ليشهرها سلاحاً في وجه الزمن، وفي وجوه أولئك الذين تضجّ بهم ذاكرته الطفولية التي تستعيد ممارساتهم معه ومع ذويه.

الجدّة، الأب، الأمّ، أهل قريته "خربة عنز"، وآخرون يحضرون في هذه السيرة المدهشة والجريئة بصورهم التي لا يحاول الكاتب ترقيعها، والتي لم يستطع الزمن محوها أو تغييرها في ذاكرته..

هناك الكثير من المعلومات التي تشكل طابعاً ببلوغرافياً عن المكان وأهلها، وأسرار المحيط الجغرافي داخل القرية وخارجها، والعائلة التي ينتمي إليها الكاتب ومرارة الحياة في وضع معيشي، وفي بيئة لا تخفي عداءها لمن يجد نفسه وحيداً ومختلفاً في سلوكه عن الآخرين.

تحمل هذه السيرة جانباً من التاريخ غير مقروء في الكتب إنما منقول عن ألسنة من رحلوا من أصحابها، واكتسب قيمة أدبية وجمالية بلسان كاتب، عرِف بكتابته الفكرية، وها هو السرد الروائي يعرَف به.

هذه السيرة بحلوها ومرّها، رحلة ألم وأمل استثنائية لطفل الحياة الذي كانَهَ وللكاتب الاستثنائيّ الذي صاره..

يشار إلى أنّ الكتاب يقع في ثلاثمِائة صفحة من القطع الوسط. وقد صمّم الغلاف الشاعر والفنان ياسين أحمدي، ولوحة الغلاف هي تفصيل من لوحة للفنان الكرديّ السوريّ عبد الكريم مجدل بيك.

تعريف بالمؤلف: 


إبراهيم محمود: كاتب وباحث كُردي سوري، مواليد القامشلي 1956. يحمل إجازة في الفلسفة من جامعة دمشق، سنة 1981. تفرغ للدراسة والتأليف بعد ممارسة التدريس في معاهد القامشلي لمدة عشرين سنة. الآن يقيم في في إقليم كردستان العراق كلاجئ، ويعمل في مركز بيشكجي للأبحاث الإنسانية في جامعة دهوك. نشر أكثر من مائتيْ كتاب في حقول نقدية وفكرية وتاريخية وأدبية مختلفة، ويركّز بصورة خاصة على الجانب الأنتروبولوجي في دراساته، وفيما يخص الجسد، ما عدا مشاركاته في كتب جماعية، ومقدماته وشروحاته لكتب مترجمة عن الفرنسية (لجاك دريدا خصوصاً).

مقطع من الكتاب:

عتبة

أأقولها، أم أُؤجل ما يشكّل فضيلة القول لمن لديه رغبة فعلية لتلقّي حكمة القول، ولمن يجد في أبدع القول أقدُره على طرح ما كان ماضياً في سبات عميق، ما يضيء مقام روحه الملول كثيراً، وها هو رِشَاش ذاكرتي البارد يباغت جسمها المعلق بين تاريخ أخرس، أبكم، وأعمى، أو شبه ذلك كثيراً، على عتبة حياتها، وذاكرة منكفئة على نفسها، وفيها ما يلحّ على التنفس خارجاً.. إنما، ومن باب لزوم ما يلزم، إلى من كانوا يمثّلون وليَّ أمر عائلتنا وفي الواجهة، وليَّ أمر الوالد، وهم يمثّلون حياة بشر أحياء، بمعاييرهم الخاصة، هأنذا، وفيما أكتب، وبعد هذا الزمن يتدفّق في صمت، أمثّل، وعلى طريقتي وليّ أمر كلّ هؤلاء الذين كان الهواء يتثاءب بعسر أمام خطاهم، أنا وليّ أمرهم، فيما رأيت، وفيما سمعت، وفيما تناهى إلى مسمعي، وفيما حاولت تحرّي ذيوله والمعتَّم عليه؟

***

كنتُ ذلك الطفل الذي كان حذاءُ والده يترجم رأيَ والده فيه، إذ يواجهه بكعبه وهو الملزم بعدَم الردّ، الطفل الذي تواقحَ، ذلك الطفل الشقيّ ابن الملا من على سطح بيته، مباغتاً إياه بنثر شخاخه على رأسه ووجهه في الأسفل ويضحك بصفاقة، ذلك الطفل كان سخرية أطفال القرية لأنه فقير وابن فقير، ذلك الطفل الذي أثار سخط أهل القرية لأنه تفوّق على أولادهم في المدرسة. إنما ذلك الطفل الذي لم يشأ أن يبقي ما كان وكأنه لم يكن، وها هو الطفل ذاك، يُعلِم بمن كان وراء ذلك الحذاء البغيض، ولا أبقى ذلك الشقيَّ دون وضعه بين قوسين تضيئان تاريخه العائلي، ولا نسي ما لا يجب أن ينسى أولئك الذين حاولوا تهميشه لأنه هو وعائلته دونهم مقاماً، وها هم كلّ هؤلاء أنتقل بهم من الذاكرة إلى التاريخ. وليردّوا إذا كان في مقدورهم أن يردّوا، وفي يد كلّ منهم حذاءٌ مرفوع نظيرَ حذاء أبي..


الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).