صيف 2017 كان حاراً جداً على صحيفة «نيويورك تايمز»، حين هزت أرجاءها فضيحتان تعلقتا بقائمة الكتب الأكثر مبيعاً التي تصدرها الجريدة، ففي 24 أغسطس/ آب من العام المشار إليه، شقّ كتاب غير معروف، لمؤلف مغمور، من ناشر جديد، طريقه إلى المركز الأول في قائمة أفضل الكتب مبيعاً في مجلة التايمز للشباب البالغين.

هنا، خَلُصت مجموعة ثقافية نشطة إلى أن كتاب «دليل البشر» للكاتب لاني سارم Lani Sarem شق طريقه إلى القائمة، بعد أن اشترى ناشر الكتاب نفسه كميات كبيرة من الإصدار من «بوك ستورز»، مختلفة، خاصة التي تبلغ الصحيفة بمبيعاتها، قبل أن يُفطن للخديعة ويُزال الكتاب من القوائم.

في الرابع من سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، اتهمت شركة «ريجنيري بوكس»، وهي دار نشر محافظة، الصحيفة بالانحياز ضد المحافظين، بل «التآمر على نحو مطرد ضد العناوين المحافظة»، خاصة بعد أن جاء إصدار دينيش ديسوز «الكذبة الكبرى.. كشف الجذور النازية لليسار الأمريكي»، في المرتبة السابعة في قائمة الكتب الواقعية، في حين أشارت بيانات Nielsen BookScan، إلى أنه يجب أن يكون في المرتبة الأولى؟ لتقرر «ريجنيري» قطع علاقاتها جميعاً مع النيويورك تايمز.

وتنشر صحيفة نيويورك تايمز قائمة بالكتب الأكثر مبيعاً بعنوان «بوك ريفيو»، يقترب عمرها من 92 عاماً، إذ ظهرت لأول مرة في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 1931. ومع الوقت أصبحت علامة مهمة لنجاح النشر، ويطمح المؤلفون إلى الحصول على لقب أفضل الكتب مبيعاً في القائمة لوضعه على أغلفة كتبهم، وأصبحت المكتبات تعتمد على القوائم لترويج المبيعات وتحديد شعبية الكتاب.

ويحلم الكتّاب بأن يصبحوا المؤلفين الأكثر مبيعاً، حتى يتمكنوا من لصق هذه العبارة بجوار أسمائهم على أغلفة العمل، والسِّير الذاتية، ومنشورات المدونات، والصور. ومؤكد أنه حق، ولا يجوز لوم من يسعى إلى ذلك، فهذه العبارة لها أهمية كبيرة، خاصة بالنسبة إلى لمؤلفين الذين يأملون جذب القراء، لكن ما الذي يعنيه بالضبط أن تكون مؤلفاً ذائع الصيت؟ وما مدى أهمية ذلك حقاً؟

شروط

في الولايات المتحدة الأمريكية، تدخل الكتب قوائم الأكثر مبيعاً عندما تستوفي واحداً من ثلاثة متطلبات غير رسمية، وإدراجها في واحدة من قوائم المبيعات الشهيرة الثلاث في «نيويورك تايمز»، و«وول ستريت جورنال»، وصحيفة USA Today. وإن بقيت للتايمز مكانتها الراسخة.

و«مثل هذه القوائم مهمة، لأنه قيل ذلك من قبل»، حسبما يرى فيليب ماكجوان في دراسة بعنوان «الأكثر مبيعاً والعقلية الرائجة»، ويبين أنه في معظم الأحيان «قبلنا هذه الفرضية من دون مزيد من التدقيق الصارم. ومع ذلك، فإن قوائم الكتب الأكثر مبيعاً تعد بمثابة وثائق مثيرة للاهتمام لثقافة المرحلة، الأمر الذي تؤيده فيه سارة جارلاند، إذ ترى أن الحديث عن الأكثر مبيعاً هو حديث بالضرورة عن «الثقافة الشعبية والتجارية» في أكثر حالاتها ديناميكية.

وفي البحث عن تأريخ ظاهرة الأكثر مبيعاً، يتطلب الأمر العودة إلى السبعينيات من القرن الماضي، التي كانت عقداً من الاهتمام الثقافي والأدبي المهم في تاريخ البشرية لأسباب متعددة، إذ بدا عقداً ساخناً على مستويات عدّة، شرقاً وغرباً. إذ كان العالم على موعد مع العشرية التي تأتي في أعقاب ثورة الشباب 1968، وما تلاها من انقلابات، وتبعات، فكرية وثقافية واجتماعية، وربما كانت الولايات المتحدة الأمريكية على موعد مع تغيرات ثقافية كبرى، بصرف النظر عن أول محاولة لعزل رئيس وهو ريتشارد نيكسون، فقد مر عالم الأدب الأمريكي بمرحلة انتقالية ذات أبعاد لا رجعة فيها.

مطلع العشرية السابعة من القرن الماضي، شهدت صناعة النشر إعادة هيكلة بانحصار الأغلبية العظمى منها في يد الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات، والتأثيرات التي أحدثها ذلك في السوق الأدبية، إذ يمكن أن نراها بمثابة تطورات زلزالية شهدنا نتائجها لبقية القرن العشرين، ومطلع القرن الحالي.

وهو العقد ذاته الذي شهد انتشار الرواية في عدد من البلدان العربية، بعد رسوخها في مصر، وبلاد الشام، والعراق، ومع حركة الهجرة العربية الداخلية، انتقلت الخبرات الثقافية والأدبية بين الأقطار، وتوسعت دائرة المقروئية، ما يعني زيادة حجم المبيعات الثقافية والفنية في عمومها، بجانب الانتقالات الثورية في عالم الشعر العربي الحديث، على يد شعراء جماعة شعر، والشعراء السبعينيين، ما كان يبشر بموجات جديدة من الكتابة، التي تطلبت تطورات كبيرة في صناعة النشر.

وغربياً، ظهرت في الولايات المتحدة أسماء أدبية، مثل توني موريسون، وجين آن فيليبس، وريتشارد فورد، لأول مرة في الأوساط الأدبية، فيما فقد العالم وقتها جون دوس باسوس 1970، وعزرا باوند، وماريان مور، كلاهما في 1972، وفلاديمير نابوكوف، وأناييس نين، وروبرت لويل 1977، ويمكن القول إن الاضطرابات التي ميزت البيت الأبيض في عهد نيكسون، أو المؤامرات التي جرت في مزرعة «ساوثفورك» في مسلسل دالاس الشهير، والذي كان يُعرض في أوقات الذروة على قناة «سي بي إس»، انتقلت أيضاً إلى العالم.

نتيجة حتمية

في قطاع النشر كان هناك تحول ثوري جارٍ أدى إلى تحويل ميزان قوة المبيعات بعيداً عن المؤلفين المعروفين المرتبطين بالناشرين الصغار، ليشهد العقد ميلاد سلسلة جديدة من الكتاب المشهورين الذين تعاقدوا مع شركات النشر المجمعة الحديثة، وهي مؤشرات دالة على أن الأمر كان متجذراً في هوس تلك الفترة بظاهرة النشر الكبيرة.

كما كان الإفراط في تسليع المخرجات الثقافية، وكتابة الروايات على وجه الخصوص، في السبعينيات هو النتيجة الطبيعية الضرورية لبنية مصممة لإيجاد ثقافة أكثر مبيعاً، ومن ثم الحفاظ عليها. ولتحقيق هذه الغاية، كان لابد من إنشاء نظام ذاتي الاستدامة يعتمد على الإمكانات التجارية للعمل الأكثر مبيعاً وتحديثه باستمرار وبعناوين جديدة وإمكاناتها التسويقية العرضية. ولإنتاج مثل هذا السياق القائم على الاكتفاء الذاتي وجعله قابلاً للحياة مع مرور الوقت، توجب على صناعة النشر أن تقرر مسبقا ما تعتقده «الذوق» العام.

نعود إلى قائمة نيويورك تايمز، ورغم طول عمرها وشعبيتها كمقياس لجودة الكتاب، فإنها لا تخلو من نصيبها العادل من النقد. ويعد الافتقار إلى الشفافية في الطريقة التي يتم بها تحليل بيانات المبيعات لمنح المراكز الأولى المرغوبة، من بين أكثر الأسباب شيوعاً. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن القوائم تعتبر تحريرية وليست واقعية، ما يعني أنها لا تمثل دائماً أفضل الكتب بناء على بيانات المبيعات وحدها. ولدى محرري القائمة الكثير من الرأي في ما يُدرجونه، ما يعني أن الحياد ليس شيئاً معروفاً عن قوائم الكتب الأكثر مبيعاً.

القائمة الأبرز في العالم تتطلب أن يبيع المؤلف ما لا يقل عن 5000 نسخة من كتابه، وأكثر خلال أسبوع واحد، عبر بائعي تجزئة متنوعين، ومن مواقع جغرافية متعددة. وعلى الرغم من أن الرقم المنشود بيعه يبدو هدفاً قابلاً للتحقيق، نظراً لحجم سوق الكتب في الولايات المتحدة، فإن الأمر ليس سهلاً، كما يبدو للوهلة الأولى. إذ إن تحقيق الحد الأدنى من أرقام المبيعات لا يكفي في حد ذاته.

وحسب نيويورك تايمز، تسمح الصحيفة للكتاب نفسه بالوصول إلى أكثر من قائمة واحدة في الوقت ذاته، ما يعني استبعاد الآخرين من الاعتبار. على سبيل المثال، سبق أن ظهر كتاب «إنه ينتهي معنا» لكولين هوفر في ثلاث قوائم وهي؛ قائمة الكتب الخيالية/السردية المطبوعة والإلكترونية المجمعة، والكتب الخيالية/السردية ذات الغلاف الورقي، والكتب الخيالية الصوتية.

غياب

هل لدينا حقاً في العالم العربي ظاهرة «البيست سيلر؟»، على الرغم من أن عدد سكان البلاد العربية يتجاوز 400 مليون نسمة، وهو ما يزيد على عدد سكان الولايات المتحدة، فإن مبيعات الكتب العربية لا يمكن مقارنتها بغيرها، ولربما نجد قوائم الأكثر مبيعًاً «غير دقيقة» أو لم تتجاوز مبيعات الكتاب الواحد عشرات النسخ، أو المئات في أحسن الأحوال. فضلاً عن تلاعب بعض مؤسسات النشر، أو الدوريات والصحف في ما يعرف بالأكثر مبيعاً، وغياب المعايير الواضحة لرصد حركة المبيعات، وعدم توافر بيانات «حقيقة» ودقيقة من متاجر الكتب. أي أن المسألة هنا لا تبدو أكثر من دعاية، التحقق منها صعب، كما لا يمكن الاعتماد عليها في رصد انحيازات القراء وتوجهاتهم القرائية، ويبدو أغلب الحديث مستنداً إلى مبيعات إصدارات عدد من المؤلفين أو الناشرين، التي يمكن ألا تعد مسوغاً حقيقياً عن عالم القراءة، بخاصة أنها رؤية ضيقة محدودة المعطيات.

وعلى أي حال، سواء عرفت الثقافة العربية ظاهرة «البيست سيلر» أو مجرد انتشار لنوع ما من الكتابة، خاصة ما يعرف بسرديات الرعب والجريمة، بجانب أدب المراهقين، فإن الاعتماد على الشهرة أو ذيوع الانتشار أمر محفوف المخاطر، أو بقول المدون والكاتب البريطاني أليكس موريس «إذا كنتَ تريد حقاً قراءة أفضل الكتب مبيعاً، فتحقق من بعض المراجعات الموثوقة مسبقاً من النقاد والقراء؛ وإلا جرب المؤلفين الأقل حظوظاً من الشهرة».

المصدر: صحيفة الخليج 



الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).