محمد علي علي

مازلت أتذكر كلمات أمي وهي توبخني عند عودتي حافي القدمين إلى المنزل عند المساء عندما كنت طفلاً، وقد تلطّخت ملابسي بالطين، وتمرّغت أقدامي الفتية بالوحل بعد لقاء دون وداع بزخة مطر دافئة وقت العصر، أو عناق طويل مع سحابة مراهقة عابرة عبقة برذاذ ضبابي تكتحل به هدب الروابي والحقول فوق خدود الأفق الوردية بوشاح شفق فضي الأردان ذهبي الأزرار عند المساء. يوم كنا نطلق زوارق شراعية من قشّ وورق في سواق وسيول لاتتوقف عن الجريان بعد هطول الأمطار عبر الأزقة والطرقات الترابية تساورنا لذة ومتعة المغامرة بالوصول إلى جزر أحلام نائية ذات مراجيح سحرية ساحرة تسابق الريح الرعناء في عنان السماء دون توقف، معانقة النور والضياء وهي تتأرجح مابين الشمس والقمر.

 لحظة كنا نركب أعناق الرياح كطائرات ورقية تحملها الأنسام والأطياب رسائل سلام وبراءة على أجنحة ملائكية شفافة وبيضاء كالثلج لأسراب من الحمام الزاجل، وهي تطير مع الغيم وحبات الغمام كرسل سلام ووئام لأطفال أشقياء أخوة لنا في الشقاء والحلم في عوالم بعيدة. .كانت تقول لي وهي تعاقبني بصفعة ساخنة "ألا تنظر إلى نفسك كيف تلطّخت بالطين أيها الأحمق؟ أنت تبدو كاللاجئ!". كم كنت صغيراً وقتئذ وساذجاً كعروس المطر بروحها الخشبية اليابسة وجسدها القماشية المهترئة! لم أكن أعي بعد ماهو ومن هو هذا "اللاجئ" الذي تقصده أمي! هل هو كل من يركض بجنون حافي القدمين تحت المطر فرحاً ويلطّخ نفسه بالطين؟ّ أم هوكل من يتخذ من السماء مظلة واقية أو من الغيمة خيمة كمأوى لعربدات وهفوات الطفولة الشقية؟

وها أنذا كبيراليوم..أجلس أمام هذا اللاجئ المفاجئ، بجوار هذه الخيمة المرهقة بعمودها وعمادها، بحبالها وأوتادها المحطمة والمنهكة من الترحال والهجرة، تتمدد نظراتي الحائرة وتتململ جفوني الذابلة في ظل هذه المظلة الممزقة الأوصال بعدما عصفت الريح المتناوحة بها برقا خاطفا و قصفا رعديا مرتعدا في لعبة الأقدار مابين البروق والرعود للفوز بهديرالعاصفة !؟

أخذ أبو رستم يذوب بكاء مثلما كنت أذوي نشيجا في صغري كلما ابتعدت عن حضن أمي..كم كانت قطرات دموعه المنهمرة من جفنيه كبيرة، كحبات بَرَدْ تساقطت من سماء مدلهمّة بغيوم رمادية دكناء..في عينيه المغرورقتين  اللتين تفيضان بموجتين مالحتين مريرتين من بحر أحزانه الدفينة.

لمحت أهباء زوبعة حنين تجتاح كيانه المهشّم، كحنّ الدّم على الدم* على أسوار قلعة "دمدم"، ونزعة وحشية تقصف روحه أسى وألماً كقلب فرهاد ينفطر لوعة على شيرين، وهو ينقش على الحجر ملامح حبيبته في جبل *بيسون. نبعان عميقان من الأسى والحزن يئنان فيض قروح وجروح من جوف بئر الماضي السحيق مخترقا قلاع "بوطان" و"زمبيل فروش" عبر حشرجاته المتسارعة و شهقاته المكبوتة وهو يتمتم بشفاه مبللة ومرتجفة كأوراق الخريف المصفرة "لقد بقينا لاجئين ياولدي، نلوذ بالفرارفي كل الجهات.. اللعنة تلاحقنا في ظلنا، تسبق خطواتنا، نعتنق كل الديانات، نتحدث بكل اللغات، ونمتهن كل الحرف والمهن.. ومع ذلك، لا أحد يعرفنا أو يتعرّف علينا.. لنا ولادة وموت بلا حياة، لنا أسماء وأبناء وآباء، وجدود وعشائر وقبائل، ولكننا نبقى في عيون الجميع حفنة ملعونة من اللاجئين.. غرباء وضيوف مزعجون وهويتنا الوطنية الوحيدة تحمل اسما يتيما هو "عبدالله" ..عباد الله في ديار الله الواسعة.. سائرون في دروب وسبل لاتنتهي من العذابات والمعاناة، من حرمان وظلم واضطهاد ، نقطع سائر البلدان كعصافير تائهة في مناكب الأرض، دون أعشاش أو مأوى يأوينا، لا أعشاش تبنى في السماء يابني .. وكل أشجار الأرض والغابات عارية، ليس لنا من حمى سوى الله والسماء!".

لم أستطع أن أتمالك نفسي وأنا أصغي لتنهدات أبي رستم في عزفه المنفرد كناي راع كردي من قصب بري رخيم يتعالى أنينا حادا في النأي عبر المروج والروابي الخضراء، وهو يهدهد بترانيم ومواويل مهدئة لأغنامه كي يبدد فيهم الخوف من مكر الثعالب وعواء الذئاب الجائعة، لقد غطتني سحبه الماطرة فارتوى جسدي حزنا وأزهرت روحي كمدا، سيّما أنّ عيناي سريعة العطب بالدموع عند اشتعالات الفكر بزوابع الكر والفر مابين البرق والرعد، وفي اختلاجات الروح بالمد والجزر للفرح والحزن..

ابتلت عيناي بالدموع، ولم تهدأ العاصفة إلا بعد تدخل رستم المفاجئ كهبوب نسمة عليلة بعد سكون العاصفة معاتبا والده بالقول "اليوم هو يوم فرح وأنت تعكّر مزاج الحاضرين والضيوف بالشكوى والنواح ياأبي!". عندها،مسح أبو رستم دموعه بكلتا يديه بعد أن ضمني إلى صدره الواسع كشجرة وارفة الأفنان تحتضن الأوراق والثمر.. كم كنت ممزق الروح والجسد من هول العاصفة! فقد تحطمت كل قوارب النجاة قبل بلوغها الشطآن والخلجان الآمنة..! ما النفع من هدوء العاصفة وأغاني النوارس إن تحطم قارب الصياد المتآكل كالضرس المسوس وتطايرت حبائل شباكه المرقعة هشيماً كبيت واهن لعنكبوت عجوز أتعبت الأيام والسنون فكيه فصار عاجزاً عن الغزل و صيد الفرائس .. المراكب تتوه إذا ما أطنبت الريح النكباء، ولا تصغي لآهات ومناجاة البحارة العالقين بين لجج البحر في النجاة من الغرق.. الأشرعة قد تهادن الريح، ولكن لا أحد يكسب الرهان عند الإبحارفي الأنواء وركوب أجنحة الأعاصير!

*حنّ الدم على الدم في العربية التعاطف بين شخصين نتيجة قرابة في الدم.

*بيسون جبل يقع في أرمينيا وهو الجبل الذي طلب خسرو من فرهاد حفر نفق فيه كي يبعده عن حبه للملكة شيرين .


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).