ديوان شعري جميل هو ما بين يدي الآن " نداء يتعثر كحجر " للناقد والشاعر السوري د. خالد حسين، بصراحة أنا قليل الكتابة في أمور الشعر والأدب عموماً، وأعتبر محاولتي الراهنة مغامرة انطباعية ولن أقول نقدية، لأن النقد له مدارسه وقوانينه وأساليبه وطرائقه الخاصة به، فلا أدّعي هنا أنني سأقدّم مادة نقدية انما فقط انطباعية كقارئ وكمتذوق للشعر، ليس الا ّ.

بادئ ذي بدء اقف قليلا عند العنوان الذي وضعه لديوانه هذا " نداء يتعثر كحجر" هذا العنوان يصدم المتابع من البداية ، فمن المعروف ان الكثير يستخدم عبارة " حجر عثرة " عندما يكون هناك موضوع أو تكون هناك مسائل  أو قضايا تصطدم بعراقيل تقف  في طريق الحل ، ولكن هنا الشاعر استخدمها كحالة حيوية باستخدام التشبيه مع النداء ، وهنا يعطي الشاعر للجماد ( هنا الحجر ) طاقة حيوية كالنداء ناهيكم عن أن الشاعر يستخدم أسلوب الإدهاش في هذه العبارة / العنوان، وعنصر الإدهاش يكمن في عملية التشبيه بين الحجر والنداء ، وهي ثنائية غير منسجمة في حياتنا ، إلا أن الشاعر آلف بين عنصريها وجعلهما ينسجمان  شعرياً ، وايضا النداء لا يصل لمبتغاه فهو يتعثر. .

يضع المؤلف / الشاعر الفهرس لكنه يستخدم كلمة اخرى وهي " تضاريس " وكأننا سنقرأ كتاباً جغرافياً بحتاً، فهو يدخلنا مع هذا العنوان في أجواء غير تقليدية تتناسب والحالات الشعرية المحتواة ضمن هذه التضاريس، ويقسمها الى ثلاثة منعطفات اساسية عوضا عن استخدام كلمة الفصول او الاقسام او حتى عناوين فرعية.

في قصيدة بعنوان " بحيرة " يقول:

زمنٌ خريفٌ؛

إذ تَنْعَطِفُ أَطْرافُ النّهار على أسرار البحيرة. 

وهذه الجبالُ لا تتقنُ سوى الطَّعن! 

الغيومُ ــ إناثٌ يَمِلْنَ تحتَ وطأةِ الشغفِ، إناثٌ يتساقطْنَ قطناً، البُحَيْرةُ ـ غمازةُ الأرض،...ص 11

  من المعروف لدى الكرد الكرد مقولتهم الشهيرة " لا أصدقاء للكرد سوى الجبال " هنا يعكس الشاعر الآية  بالقول " وهذه الجبال لا تتقن سوى الطعن " في معنى يعاكس المعنى المتعارف عليه – على الاقل كرديا – وذلك ليدخل القارئ في دائرة الإدهاش، بمنحه الصدمة التعبيرية ، وذلك بغية إيقاظه من سباته وتقليديته ، وإدخاله في أجواء محيرة له ، لكي يتأمل هذه المتناقضات التي كتبت بلغة شعرية متداخلة مع السرد ، وهذا هو حال أدب ما بعد الحداثة فقصيدة النثر ميزتها أنها مفتوحة ولا قيود تضيق عليها فسحة التعبير ، وتستوعب الأجناس الأدبية الاخرى، يقول الشاعر في القصيدة نفسها وفي موضع آخر " البحيرة غمازة الأرض " من يخطر على باله هذه الصورة الجميلة الرائعة ، فالشاعر هنا يتوفق في هذا التشبيه البليغ عندما يشبه البحيرة بالغمازة .

يقول الشاعر في قصيدة بعنوان " كأن الأمر...! " :

" رخام عنقك يسطو عليّ دون رأفة “، ص 11

ويقول في قصيدة بعنوان "إمعانا في البهاء":

 " هكذا وامعاناً في البهاء فخذاك، ساقاك، رخام صقيل، كثافة شهوة مريعة " ص 5

يكرر هنا لفظة " رخام " – اللفظة التي ربما تكررت في   قصائد أخرى من الديوان – هذا التشبيه ينبعث من قلب شاعر توّاق للجمال والبهاء، الحقيقة أنه أمر جميل عندما يشبّه الشاعر مواضع في جسد المرأة بالرخام وهذا دليل عمق الحالة الجمالية المتشكلة لدى الشاعر، ويستخدم عبارة " كثافة شهوة مريعة " وكأني به يظهر حرقة الحبيب لحبيبته، ولا يكتفي بعاطفة المحب، انما يدمجها هنا بالحاجة الإيروتيكية للكائن البشري. 

وفي قصيدة بعنوان " سماوات متكسرة " نقرأ نصا رائعا في جماله:

"شَفَتَاكِ تَقْطُرَانِ شِهَاداً" يُدَنْدِنُ لها ويميلُ على نهدِهَا المحاطِ بأصابع من نارٍ؛ تتكسّرُ السَّماواتُ في عينيها وتتفتَّحُ لَهْفتُهُ عن زهرةِ جلّنار...!

لا أغنيةَ، لا موسيقى أَعْذَبُ من يديها المرميتين حَريْرَاً على كَتِفَيْهِ، تمسُّ بأظافرِهَا، حليبيةِ اللونِ، جَسَدَهُ؛ فتخبُّ الجيادُ صَاهَلةً في دَمهِ. تمسُّ يداه خصرَهَا العَالي؛ فيصعدُ زئيرُ اللبُؤَة، يَذُوْبَانِ في الاحْتواءِ، يَنْصَهِرَانِ، يَقْطَعَانِ الطَّريقَ إلى السَّماءِ البعيدةِ لهاثاً فلهاثاً ثمّ يتبددان في حشرجةٍ أخيرة..."ص16

هنا يبين الشاعر التماهي بين الذكري / الأنثوي بين عاشقين – حبيبين – متيمين ــ سميهما ما شئت – أي تصوير شعري في هذا التماهي الى حدّ الذوبان والانصهار؟ ان الشاعر بهذا المقطع الشعري إنما يصوّر ذروة التلاقي الروحي / الجسدي والتماهي  الى حد الصعود معا الى السماء حيث الصفاء والنقاء والقداسة اللامتناهية وحيث النهاية العشقية معاً " يتبددان في حشرجة أخيرة" .

وفي قصيدة بعنوان " كقصيدة تمكث على لسان لغة "

نقرأ له عبارة إدهاشية لافتة " يا لهذه الشجرة التي تضيئ المكان بصمتها " ص 17 هنا يمنح الشاعر الشجرة طاقة اضاءة، نور، ولكنه يصدمنا ويدهشنا اكثر عندما يستخدم كلمة (بصمتها) أي أن الشجرة تُضاء  بالصمت...! هنا تزداد دهشة القارئ أكثر باستخدام كلمة " بصمتها ",

وفي نص شعري بعنوان " في هذا الصباح المحتفي بالحديقة هنا " يقول :

 "بُحَيْرةُ صَفَاءٍ روحُكِ، يداك ضِفَافُها وشعرُكِ الضاربُ إلى ذهبٍ فِسْحَةُ طيورٍ غافية تُحيطُ بكتفيكِ، شفتاكِ قَصِيٍدةٌ تنتظرُ الكتابة حيثُ عيناكِ مُسبّلتانِ في حَنَانٍ أخّاذ وأنا أمسكُ بأصابعكِ الطّويلةِ ينبعثُ صَوْتُ نَاي من بعيد...!! " ص 52

هنا يمازج الشاعر بين الجمال الفني والجمال الطبيعي، بين جمال البدن وجمال الطبيعة، ويشكل منهما لوحة بديعة، حيث الشاعر  هنا في هذه القصيدة والعديد من القصائد الأخرى في الديوان الحالي بستخدم تقنية قصيدة الهايكو، فتقنيات الهايكو متوفرة لدى الشاعر، ذلك أن قصيدة الهايكو في ما فهمته أنها تمزج بين المشاعر الإنسانية والطبيعة .

" قامتكُ ينهبها الرّقصُ

وناي العازف الإيزيدي يحاصرُ الأبدية بحنان.

هناك على ضفّةِ تلكَ البُحيرةِ الصّغيرة،

بين أصابع عاشقين، بين جسدين، بين نداءين تستيقظُ نارُ نوروز...! " ص 62

هنا لا ينسى الشاعر استخدام الرموز القومية في شعره " العازف الإيزيدي " ويمازج هذه الرموز مع حالة العشق بين عاشقين وذلك ليضفي على المشهد بعداً قومياً جميلاً:

"مثلَ كرديٍّ يُطَارِدُ حُلماً مُسْتَحِيْلاً، مثل أيِّ كرديِّ تَتَرَبّصُ بهِ الجِهَاتُ موتاً ويُعَانِدُهُ التَّاريخُ كلَّ وردةٍ، طَاردُ الحلم وطريدُهُ أنا، سأَتَدثّرُ أفقاً عَلَّ معجزةً يَهَبَها الإله غَفْلةً في غَفْلةٍ...!  

عَاشِقٌ غَضٌّ وَرَّطَني القَدَرُ؛ اصطادني في الوَهْم مِنْ حَيْثُ لا أَدْرِي. أَنَا مَمُو، مَمِيْ آلَانْ؛ أكان ذَلكَ حُلُماً أم هو يقينُ العَيْنِ حين دهمتني الغَزَالَةُ في مُنْعَطَفِ الليْل وأَنَا أُروِّضُ َشَراسَةَ البَحر في صَهِيْل المُهْر...؟ "، ص 85

أعلاه نص شعري يلخص بلغة شعرية بليغة أزمة الكردي الوجودية وتربص الأعداء به هنا وهناك، فهو يحلم دوما وتنكسر أحلامه الواحد تلو الآخر، فالحلم يخونه دوماً، فهو طارد للحلم وطريده، ودوماً هو ينتظر معجزة إلهية تخلّصه من محنته المستمرة عبر التاريخ ، وهو ممي آلان ، ممو ، متقمصاً إياه – كرمز ثقافي شهير – فهو العاشق في ملحمة "مم آلان" .

وينشد الشاعر بيئته الجزراوية ويعزف سيمفونية العشق بين عاشقين مارقين يتبادلان العشق المجنون، ويستخدم أسماء نباتات وأزاهير من البيئة البرية الربيعة هناك " البابونج “، " العندكو “، كل ذلك في حنين نوستالجي إلى  الطفولة والشباب، حيث  الطبيعة هي الأم الرؤوم لنا نحن المغتربون قهراً إلى منافي الله الواسعة والقصية، ناهيكم عن القهر القومي الظالم:

" هناك... يلتقي عاشقان مارقان؛ هي بوردةٍ حمراء، هو بقلقهِ السَّرمدي، يلتقيان في مدينتها الكبيرة، يغوصانِ في عناقٍ عميقٍ على رصيف المحطة، تأخذهما القبلةُ إلى ربيع "الجزيرة"...يفوح البابونج و"العندكو"، تفوح رائحةُ العشب من شعرها المجعّد... يغدو العالم مدى فحسبُ وهو ينظر في شساعةِ عيني الغزالة...!" ص 89

ديوان الشاعر والناقد د . خالد حسين ديوان متميز، لغة شعرية جديدة على المشهد الشعري عموماً، صور مبتكرة، ايحاءات، وتشبيهات شعرية شفيفة، تداخل وتمازج الأجناس الأدبية، تمكّن من الأدوات والتقنيات الشعرية، حداثة متميزة في التراكيب اللغوية.

استطاع الشاعر إيصال حالة الألم والجمال معاً الى القارئ والمتلقي، وحسبي هنا أنني - كما قلت في المقدمة - قدمت قراءة  انطباعية، لأنني لا أملك أدوات النقد لكي أقدّم قراءة نقدية متماسكة رصينة ومتكاملة العناصر والأركان .

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).