وسط ما يعصف بالبلاد من أزمات سياسيّة، اقتصاديّة، وصحيّة، لم تؤجّل تونس معرضها الدولي للكتاب أكثر، وأقامت دورته الـ"36" في الفترة الممتدّة من 11 إلى 21 نوفمبر 2021. وبحسب ما هو متداول؛ أن الموعد المحدد له، طبقًا لجدول مواعيد معارض الكتاب، يفترض أن يكون في نهاية مارس ومطلع أبريل من كل عام. لكن، الإصرار على إقامة المعرض، بخلاف موعده المذكور آنفًا، حتّى لو تضارب مع موعد معرض الشارقة الدولي للكتاب، رأى فيه البعض أنه انعكس سلبًا على حجم مشاركة دور النشر العربيّة والأجنبيّة. ذلك أن الأخيرة فضّلت المشاركة في معرض الشارقة، نظرًا إلى أن القوّة الشرائيّة هناك أكبر مما هي عليه في معرض تونس. في حين رأى آخرون، أنه صحيح يمكن اعتبارهُ؛ "معرضًا بمن حضر"، إلاّ أنه بقي كبيرًا، ولقي نجاحًا أكثر مما كان متوقّعًا، وحظي بحجم مشاركة جماهيريّة واسعة، ومستوى تفاعل كبير، يعكس حجم تعطّش التوانسة إلى الكتاب واقتنائه. معطوفًا على ما سبق، ولأن الدورة 36 لمعرض تونس، كانت "دورة تحدًٍ" حسب وصف مديره الدكتور مبروك المنّاعي، في كلمته، إذن؛ يترتّب على ذلك التحديّ ضرائبهُ وأكلافهُ. ذلك أنه ليس أمرًا سهلاً وهيّنًا إقامة معرض "ينافس" معرضًا هامًّا آخر، له وزنه وحضورهُ في سوق الكتاب، داخل منطقة الخليج، والعالم العربي.

شخصيًّا، وجدتُ نفسي أكثر ميلاً إلى الرأي الثاني. فما رأيته من حضورٍ جماهيري كثيف، بخاصّة في الأسبوع الأخير من أيّام المعرض، مضافًا إليه البرنامج الثقافي والأدبي الثري، سواء على مستوى الكمّ والنوع، والمواضيع والمحاور، وحجم التفاعل، وتنظيم الفعاليّات والنشاطات، في ظلّ تلك الظروف الصعبة والاستثنائيّة والطارئة، وضمن الإمكانات المتاحة، كلّ ذلك، خلق لدي انطباعًا مفاده؛ أن التوانسة نجحوا في التحدي، عبر إقامة أكبر وأهم تظاهرة ثقافيّة وطنيّة ودوليّة في 2021، ويتّجهون نحو إقامة الدورة 37 من معرضهم، في موعد المعتاد.

"لوغو" المعرض أتى معبّرًا ولافتًَا، وكان عبارة عن امرأة تنظر إلى الأمام، وظهرها إلى الناظر لها، رافعةً يديها إلى الحدّ الأقصى، وتطلقُ كتابًا متفوحًا في الهواء، كأنّها تطلقُ طيرًا. ومن تكوين جسدها، يظهر أنها حاسرة الرأس، بشعرٍ قصير، منتصبة القامة، ووجها إلى تدرّجات لونيّة هي أقرب إلى ألوان الشفق منها إلى الغروب.

سَمّى المعرض دورته تلك بـ"دورة الشاذلي القليبي" الكاتب والسياسي التونسي، والأمين العام السابق لجامعة الدول العربيّة، واتّخذ من شطرٍ للمتنبّي "وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ" شعارًا له. كانت دولة موريتانيا هي ضيف الشرف. وتمّ في المعرض تكريم كل من المفكّر، الكاتب والسياسي التونسي الراحل؛ الشاذلي القليبي (1925-2020)، والكاتب والسياسي التونسي؛ البشير بن سلامة (1931-)، والكاتب المسرحي فرج شوشان، والكاتبة والإعلامية التونسية؛ السيّدة القايد.


أنا وتونس

زرتُها أوّل مرّة في روايتي الأولى "وطأة اليقين" (٢٠١٦ – دار سؤال - بيروت) عبر شخصيّة شاب تونسي من "بنزرت"، درس الطب في سويسرا منتصف الخمسينات، موفدًا من الجيش التونسي. وهناك، دخل في حكاية حبّ وغرام كبيرين مع فتاة بلجيكيّة تدرس معه في جامعة "جنيف". ثم عاد إلى بلاده. الحديث عن حياته وتجربته، جعلني أدخل تونس وأجوب في حاضرها وماضيها القريب، منذ حقبة الاستعمار الفرنسي، وصولاً للثورة ونار البوعزيزي، مرورًا بالحقبة البورقيبيّة ما خلّفته. كذلك زرتها مرّةً ثانية في روايتي الثالثة "الأفغاني: سماوات قلقة" (٢٠٢٠- دار خطوط وظلال - الأردن) عبر شخصيّة مهاجر غير شرعي، من مدينة هرقلة، ولاية سوسة، كان متواجدًا في سجن المهاجرين غير الشرعيين بجزيرة "خيوس" اليونانيّة. أمّا المرّة الثالثة التي زرتُ فيها تونس، ورأيتها رؤية العين في ١٧ نوفمبر ٢٠٢١، كانت بأن وجَّهت إليَّ إدارة المعرض دعوة رسميّة لحضوره كضيف، والمشاركة في نشاطاته وفعّاليّاته الثقافيّة. وكان لي مساء 18 نوفمبر 2021 شرف قراءة شعريّة شارك فيها كلّ من: أحمد الشهاوي (مصر)، عبدالله الوشمي (السعوديّة)، محمد الخالدي، المولودي فروج، عادل المعيزي، أحمد شاكر بن ضبّة، طارق الناصري. كما كانت لي مساء يوم 20 نوفمبر 2021 مشاركة في ندوة حواريّة حول الكتابة الأدبيّة الالكترونيّة، شاركت فيها؛ سلوى السعداوي، خولة الحسني، ووحيدة اللمي.


مجرّد أفكار:

خلاصة الأفكار التي طويت عليها مساهمتي في الندوة، واختلفت فيها مع الشريكات الأخريات، كانت على النحو التالي:

في ما يتعلّق بالتعامل والعلاقة مع مواقع التواصل الاجتماعي، وما ينشر عليها من نصوص أدبيّة، نحن إزاء موفقين متعارضين. أولّهما، يمثّله الروائي والفيلسوف الإيطالي أمبيرتو إيكو، ومقولته التي تتداولها ألسنة الساخطين على الـ"سوشيال ميديا" وما ينشر عليها، ومفادها: إن مواقع التواصل الاجتماعي "تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء". على الطرف الآخر، ثمّة موقف يمثّله الروائي البرازيلي باولو كويلو، وحضوره اللافت على مواقع التواصل الاجتماعي، وكيف أنه يحظى بما يزيد عن 13 مليون متابع على موقع "الفيسبوك" وحده، وكيف أن كويلو يتفاعل ويتواصل مع قرّائه، ويردّ على التعليقات، وبل يستفيد منها. والحقّ أنني أجد نفسي أكثر ميلاً إلى طريقة ورؤية كويلو، لأنها تعتبر هذه المواقع مجرد وسائل وأدوات وأوعية، وظيفتها نقل المحتوى – النصّ. يعني، لا تتحمّل الوسائل رداءة المحتوى والمضمون. وإذا كان النصّ سيئًا ورديئًا، لن يجمّلهُ نشرهُ في الأدوات التقليديّة؛ كتاب، صحيفة، مجلّة ورقيّة، ولن يجعلهُ نصًّا مقبولاً.

ملحمة "جلجاميش" و"الإلياذة" وصلتنا على الرقم الحجريّة. انتقلت تلك النصوص إلى الورق، وحاليّاً هي موجودة على رقائق الكترونيّة صغيرة الحجم والمساحة، وموجودة على شبكة الانترنت. يعني، العصر سيطوّر أدواته، وينبغي علينا ألاّ نثير المخاوف على الأدب والكتاب والمكتبات وطرائق الكتابة، لأن مواقع التواصل الاجتماعي باتت طاغية، وبسبب أن غزارة "اللايكات" والتعليقات – المدائح، عززت أوهام النبوغ والفرادة والإبداع لدى أنصاف الموهوبين والموهوبات، وخلقت لديهم/ن حالة من التطبّل ووسواس العظمة الثقافيّة والأدبيّة. هناك أشياء من هذا القبيل. كما أن حجم الفساد والإفساد في الصحافة الثقافيّة المكتوبة، من مقالات ودراسات نقديّة عالية التفخيم والتضخيم لنصوص في منتهى الرداءة والسخف، منشورة في الكتب، المجلاّت والصحف. ناهيكم عما تنشره بعض دور النشر من نصوص شعريّة وروائيّة وقصصيّة، غاية في الغثاثة والتفاهة، وتتقاضى لقاء نشرها أموالاً من كاتبيها وكاتباتها. مقصدي؛ أن حالات الفساد والإفساد والسطو والاختلاس في حركة الطباعة والنشر الورقي، إن لم تكن ضعف ما هو موجود على مواقع التواصل الاجتماعي، فهي توازيها. وعليه، العطل والمشكل ليس في مواقع التواصل الاجتماعي، بل في الكتّاب وحركة النقد، وفي المحتوى.

وأضفت بالقول: بات علينا التخلّي عن خرافة "العالم الافتراضي" أو "الصداقة الافتراضيّة" أو "الكاتب الافتراضي"...إلى آخر هذه التوصيفات التي هي أحكام قيمة مشوبة بالسلبيّة، ليست في محلّها. ذلك أن كمّية الوقت الذي يصرفه كل واحد منّا على مواقع التواصل الاجتماعي، تكاد أن تكون بالساعات يوميًّا. وبل يتجاوز ذلك، الوقت الذي تمنحه بعض الزوجات أو الأزواج لأطفالهم وأهلهم وأصدقائهم الحقيقيين. زد على هذا وذاك، حجم التأثير النفسي الحقيقي الذي تحدثه هذه المواقع، لجهة الغضب أو الحزن أو الفرح. مضافًا إليه، أنها باتت خاضعة لقوانين وشرائع داخليّة ناظمة تتعلّق بها، وخارجيّة ضابطة تتعلّق بأنظمة الحكم والإدارة والقضاء في بلدان العالم، لجهة الملاحقة والمسؤوليّة القانونيّة لجهة إساءة استخدام تلك المواقع ضد الأشخاص أو المؤسسات أو الدول! ناهيكم عن أنه كيف يمكن اعتبار هذه المواقع عالمًا افتراضيًّا، وفي الوقت عينه، نرى حكومات، وزارات دفاع، خارجيّة، داخليّة، عدل، اقتصاد....، مؤسسات بحثيّة وأكاديميّة، محليّة، إقليميّة ودوليّة، رؤساء دول، رؤساء حكومات، شخصيّات عامّة، صحف، مجلاّت، قنوات تلفزة، بنوك، شركات طيران...الخ، لها حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي! كذلك، أصبحت إلى مصدر زرق وعمل لعشرات الألوف من البشر، ثمّ ما نزال نصف تلك المواقع بـ"العالم الافتراضي"؟! هذا العالم الذي نسمّيه "افتراضيّا" بات أكبر وأكثر قوّة وفاعليّة وتأثير مما نعتبرهُ عالمًا حقيقيًّا. والكتابة الأدبيّة والإبداعيّة، على هذه المواقع، مما تمّ ذكرهُ، وليس استثناء، بل كتابة حقيقيّة؛ بقضّها وقضيضها، بغثّها وسمينها.

شريكاتي الفاضلات الثلاث في الندوة، اختلفن معي، واتفقنا مع بعض على شنّ الهجوم على تلك المواقع وما تنتجه من نصوص على أنها أوهام وخرافات وليست حقيقيّة. إحداهن أعطت إجابة بـ"نعم" و"لا"! فما كان عليّ إلاّ التوضيح؛ بأننا هنا نحاول الاجتهاد في الإجابة على بعض أسئلة العصر، وتحديدًا؛ أسئلة الإبداع والنصوص الإبداعيّة الالكترونيّة، ويفترض أن تكون إجاباتنا واضحة ولا التباس أو تأويل فيها، وألاّ تكون محيّرة، وتنحو منحى أغنية فيروز "تعا ولا تجي".


الدين والتنوير:

حاولت بذل قصارى جهدي كي أحضر أغلب الندوات الفكريّة والشهادات الإبداعيّة، والمواضيع التي تثير اهتمامي. وهذه عادتي أثناء الاشتراك في أيّ ملتقى أو معرض. والحقّ أن برنامج المعرض كان غنيًّا بالمواضيع الهامّة، منها ما يتعلّق بأسئلة الدين وقضايا التديّن ومشاكل العصر. فكانت لي مداخلة على هامش إحدى تلك الندوات. وبعد البسملة والحمد والشكر والصلاة على النبيّ، ذكرت الأفكار التالية:

أعتقد أنه بات علينا التخلّي عن خرافة تجديد الخطاب الديني. ذلك أن الدين ليس محض خطاب وحسب. والموضوع لا ينحصر في تجديد تأويل النصّ ومدى مواكبة قراءته للعصر، بقدر ما يتعلّق بالنصّ نفسه، الذي يناقض بعضه بعضًا في أماكن كثيرة. قداسة النصّ تعصمه من الجرح والتعديل. لماذا أقول ذلك؟ لأن العرب والمسلمين، ومنذ واصل بن عطاء ومنحه لنا خيارًا ثالثًا عبر قوله المشهور عقب اختلاف مع الحسن البصري؛ "منزلة بين منزلتين"، ومرورًا بجمال الدين الأفغاني، محمد عبده، عبدالرحمن الكواكبي، وصولاً لنصر حامد أبو زيد، والمسلمون ينظّرون في فضائل العقل وترجيحه على النقل، وضرورات الإصلاح الديني، وتجديد الخطاب، ومراجعة كتب التراث...الخ، ولكن العالم العربي والإسلامي يزداد انحدارًا نحو السلفيّة والتطرّف والتزّمت. لماذا؟ لأن التغيير بالإضافة إلى التنظير بحاجة لقوّة راعية داعمة وحامية له. نحن بحاجة إلى واقع عملي تطبيقي، أكثر من حاجتنا للتنظير. بدليل الخليفة المأمون حين أصبح "معتزليًّا" جعل مذهب الاعتزال مذهب الدولة. يعني؛ منذ نحو 1300 سنة والتنظيرات في العالم الإسلامي ودعاوى الإصلاح والتنوير لا تنتهي، ولم تحرّك ساكنًا!، ولن تحرّكه على امتداد 1000 سنة أخرى، إذا ما بقي الحال على ما هو عليه؛ كلام في كلام في كلام...! ذلك أن مجمل كل تلك التنظيرات وعلى امتداد مئات السنوات، كانت كافية لإعلان مئة ثورة تشبه الثورة الفرنسيّة، في العالم الإسلامي. في حين أن بضع سنوات من التنظير في أوروبا كانت كافية لإعلان ثورة على النظام الملكي في فرنسا، وتحييد الكنيسة، وكفّ يديها عن التحكّم بالدولة.

يبدو لي أن هناك حلف خفي بين قوى اليسار (الثوريّة التنويريّة) وقوى الإسلام السياسي الظلاميّة. فشلُ الأنظمة العسكريّة الانقلابيّة (العلمانيّة) قدّم تموينًا زخمًا للإسلام السياسي، فشل المشاريع القوميّة (العلمانيّة) العربيّة في نظم الحكم والإدارة، وما رافقها من فقر، بطالة، قمع، فساد، حروب، هزائم...، زاد من سحر وبريق مشاريع الإسلام السياسي بشكل خاص، ومن الدين بشكل عام. إذا تحوّل العالم العربي غدًا إلى دول علمانيّة خالصة ناجزة محققة كاملة الأوصاف والأركان، يلزمنا 1400 سنة حتّى يحدث توازن مع 1400 من الدولة الدينيّة التي تعاقبت علينا بأسماء وشعارات مختلفة.

على هامش المعرض أيضًا، كنت ضيفًا على القناة التلفزيونيّة الثقافيّة، وعلى إذاعة تونس الثقافيّة، برنامج "شرفات المدينة" الذي تعدّه وتقدّمه الصحافيّة التونسيّة سماح قصدالله. كذلك لا مناص من القيام بجولة قصيرة في أزقة المدينة القديمة، قريبًا من باب البحر، وجامع الزيتونة، والأسواق الشعبيّة.

الخلاصة التي خرجت بها من تلك الزيارة؛ أن تونس الجميلة والأنيقة والخضراء، تستحقّ نظام حكم أفضل بكثير من الأنظمة التي تعاقبت عليها، منذ حقبة الاستقلال وحتّى هذه اللحظة. العقد الأخير الذي مرّ به هذا البلد الصغير لم يكن سهلاً أبدًا. وكانت البلاد قاب قوسين أو أدنى من تتحوّل إلى مرتع للفاشيّة الدينيّة التي وضعت نصب عينيها جعل تونس محجّبة منقّبة، وعبارة عن مصنع لإنتاج الظلام والظلاميين والتكفيريين، وتصديريهم إلى العالم.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).