الخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2014 صادفَ مرور قرنين على ولادة ميخائيل ليرمنتوف في موسكو عام 1814 لعائلة من طبقة النبلاء. 

الناظرُ في أوائلِ سيرته يخالُ بأنّ الطفلَ سوف لا ينعمُ طويلًا بعد وفاةِ أمّه، وهو ابنُ الثالثة، في كنف جدّته لأمّه، فسرعانَ ما سيُضحي حرمانُه أضعافاً، بيدَ أنّ الجدّةَ تخيّبُ الظنون ولا تني ترعاه وهي الثريّةُ العطوف، حتّى بعدَ موته العبثيِّ مبارزةً في مدينةٍ بعيدة فإنّها تستردّه رفاتاً إلى مقبرة العائلة في بلدةِ تارخانا.



سطا الحفيدُ الرقيقُ السقيمُ على قلب الجدّة، وقد جعلها قلقُها على صحّته أن تذهبَ به في رحلاتٍ مضنيةٍ إلى القفقاز للمعالجة بالمياه المعدنية، تلك الرحلاتُ غدَت آنفاً كنزَ ذاكرته.
عشيّةَ تداعَت روسيا، وآستها فاجعة قضاء شاعرها ألكسندر بوشكين على إثر مبارزةِ دفاعٍ عن الشرف، كتبَ ليرمنتوف الضابطُ الفارسُ المغمورُ آنذاك قصيدته (قتل الشاعر) متأسّفًا على سقوطه، ناقماً على البارون الفرنسي الذي تمادى مرارًا، وكانَ أقصى تماديه إرداء رمز البلاد بوشكين. رأى الناقد فيساريون بيلينسكي على الفور في ليرمنتوف إحياءً للشاعر القتيل. انتشرت القصيدة سريعًا في البلاد، وحظيَ صاحبُها بالنفي من قبل السلطات.
ما بين بايرون وبوشكين توزّعَ ليرمنتوف، إضافةً لسحر القفقاز الذي أخذ منه عبر رحلات التداوي في الطفولة، وتلتها رحلاتُ النفي شباباً.
قَدَرُ الموهبة التي تخطّت الزمنَ أن تحذو حذوَ بايرون شعرًا، وأن تلقى مصيرَ بوشكين ختامًا لسيرةٍ قصيرةٍ مشوبةٍ بالاضطراب في سنواتها الأخيرة. لم يكن تقاطعه مع بوشكين في حيّز الشبه وحده، الذي في الغالب قد تعمّده في اختيار الخاتمة الحياتية، وإنما يُنظر إلى أدبهما من منظار أنهما يتكاملان ويتقوّيان ببعضهما.
ألّفَ ليرمنتوف بدايةً المسرحَ، وكان المسرحُ حينذاك منتعشاً مؤثّرًا، وكان هو فتيًّا، ساخطًا على حياة الأرستقراطيين وما يكتنفها من فجاجة وتسطّح وعنف. المسرح كان وسيلتَه إلى فضح ذلك، بيدَ أنّ الشعرَ تخاطفه إليه، فاختلفَ الفحوى، سطعت قصصُ الذاكرة الملحميّة، وتقدّمت روحُ الشاعر السئمة غيرَ متمسّكة بالوجود، كان عالمٌ آخر ماورائيّ أو عالمٌ في مخيّلة المستغني المفتقرِ للانسجام يجذبُ ليرمنتوف من كلِّ شيء وينتزعه.
إن كان بايرون شذَّ في (رحلة الغلام هارولد)، ملحمةُ هارولد الخارج على النمط الذي هو العيشُ تفصيلًا، السارحُ أبعدَ ما يستطيع ناشداً العزلةَ بعدما انكشفَ له "بطلانُ مطامحه والطبيعةُ الزائلة للسعادة"، فإنّ ليرمنتوف أرسلَ واحدًا من لدنه، مثيلاً، في روايته (بطلُ هذا الزمان) التي أوّل من ترجمها إلى اللغة العربية، السوري سامي الدروبي. لكنّه على الرغم من شدّة تأثّره ببايرون جهرَ بأنّه سواه، فالدماءُ الروسيّة تختلف، والروحُ الروسيّة لا تحتويها قوالبُ الغير: "لا، أنا لستُ بايرون، أنا مختار / آخر غير معروف / مثله، غريب يلاحقه العالم / ولكن بروح روسية / أنا بدأت أولًا، وسأنهي قبل / وعقلي لن ينجز سوى القليل: / في قلبي، كما في المحيط / يوجد ثقل الآمال المحطمة / فمن يستطيع، أيّها المحيط الكالح / أن يكشف أسرارك؟، مَن / سيحكي للناس عن أفكاري؟ / أنا، أم الربّ، أم لا أحد!".
قصيدته (النبي) فيها النبيُّ شابٌّ غريبٌ منتَبَذٌ من الناس. عاشَ في الصحراء قصيّاً وحيداً، ثمَّ أشفقَ عليه الصبيةُ والأطفال:
"لطّخت رأسي بالرماد / وهربتُ بائسًا من مدن البشر/ وها أنا ذا / أعيشُ في الصحراء / كما الطير/ يطعمني الربّ / أحفظ الوصية الخالدة / المخلوقات الدنيوية هناك / تخضع لي / والنجوم، وهي تلعب بالأشعة بفرح / طوع أمري".
وفي ملحمته الشعريّة (الشيطان) التي تنطوي على أرقّ وأعمق قَسَمٍ، يدسّه إبليسُ في أذنَي تامارا التي لاذَ بحبّها يظهرُ الشيطانُ في المستهلّ خائباً خائرَ الجناحين، تُعرِضُ الملائكةُ عنه، وتومئُ بأنّها لا تراه، وما بينَ أطوارٍ من صعود الهمّة وتأرجحها تحدثها مجرياتُ المحبّة الطارئة المحرّمة تكونُ الخاتمةُ حسماً برجوعه لمنفاه الشاسع، أبديَّ العذاب في السماء.
نبيُّ وشيطانُ ليرمنتوف ليسا بنقيضين على الإطلاق، أو هما لا يختلفان إلّا قليلاً. هكذا صنعهما في فئةٍ واحدة، تتشابه سيرتاهما ومصائرهما ويدنيهما إلى بعضٍ النبذُ والنفيُ ونزعاتُ بتر الصلة بالوجود والكون الراهن. هما على نحوٍ لا يخفى مرآتاه، بداخلهما يغوصُ الغريبُ، أو من آثرَ أن يكون غريباً.
لا يُجزَم أأخذاً بالثأر لبوشكين أم تشبّها به (وهذا غيرُ مستبعدٍ إذ لم يكن ميخائيل ليرمنتوف متشبّثًا بالحياة) طلبَ ابنَ المبعوث الفرنسي إلى مبارزة تنتهي بالموت، ولكنّها لم تتم، وهذا لم يحل دون نفيه مجدّدًا إلى القتال في جبهة القفقاز. في الطريق كتب ليرمنتوف، وفي الحرب، وحين عادَ إلى العاصمة ردّوه ثانيةً من حيث آب. في مدينة بياتيفورسك نالَ استراحةَ لعلّةٍ انتابته، والتقى أصدقاء قدامى من كلية الفرسان، لينهيَ بمسدّسِ أحدهم في مبارزةٍ من طرف الندّ فقط حياةً قصيرةً لم تتخطَّ سبعةً وعشرين عاماً. مثلَ بوشكين أنهاها ليرمنتوف، وإنّما مع كثيرٍ من الفروق في الدافع والسبب، والشخصيّة من ورائهما. لم يتحدّث بيلينسكي وسواه عمّن يخلف ليرمنتوف.
لعلَّ الرفاتَ الشابّ استراحَ محفوظًا مثلما أرادته الجدّةُ، ولعلَّ مخيّلةَ الشاعر خارجَ قبره قد استقرّت في الأعالي، أعالي القفقاز.

المصدر: العربي الجديد

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).