محمد علي علي

عندما جلسنا تحت شجرة الجوز الهرمة، سادت لحظة من الهدوء المكان، وأخذ كل واحد منا يتتطلع في الآخربحثا عن معالم دفينة في الوجوه، لم تكن هناك أقنعة تتستر خلفها أسرارأو خبايا، فالريفيون طبيعيون بطبعهم، وكيف لا وهم يتماهون مع الريح في الأنين، ومع الماء في الصفاء والخرير، ومع الغابات في الامتداد بالظل، ومع الجبال في الأنفة والصمود، أنهم عباد الله الأحرار، أبناء الطبيعة الأبرار..كم أنتم أوفياء، كوفاء الظل للشجر، كم أنتم أنقياء كنقاوة العطر بين جفون الورود، كم أنتم كرماء، كسنابل الحقول وأشجار الزيتون..لا تقطعون صلة الرحم مع الأم في رحالكم وترحالكم، أنتم الحبل السري الآزلي مابين الأرض والسماء. آه منك أيتها المدن الصدئة بالمدى والخناجر، في الصباح تتاجرين بالسكاكين، وفي الليل ترتدين ثوب الحداد على موت رغيف الخبز!


لم يدم الصمت طويلا، فقد بدأ العم أبو رستم الحديث مرحّبا بنا من جديد،ثم طلب من الشباب بإعداد الطاولة للفطور. بينما كان الرجال يساعدون النساء في إحضار بعض الأطباق من المطبخ، تابع العم حديثة عن الأحداث الجارية في منطقتهم، وكيف أنهم تركوا كل شيء نتيجة الحرب" نحن الكرد..هكذا هو قدرنا.. نحن بلا وطن، كغرباء في أرضنا،مهد الآباء والجدود نتذوق العذاب، كضيوف مزعجين في بيوتنا وديارنا ..لماذا يالله، لماذا رسمت لنا هذا القدرالاسود اللعين،فنحن أيضا من أبناء آدم وحواء؟!". تأثرجميع الحاضرين بخطبة العم أبو رستم، وقد تأكد لي ذلك عندما قام الكثيرمن الرجال والشباب بإشعال لفافات التبغ والسجائر، فتعالت من المكان سحابة دخان كبيرة، امتزجت بالآهات والآلام..

تلاشى الدخان في الهواء بعد حين، ولكن أنفاس الآهات لم تندثر، فسيجارة الألم لاتنطفئ لهيب نارها، والبحث عن الهوية مسألة حياة ووجود، وهي بمثابة بحث المؤمن والناسك عن الإيمان والعبادة للفوز بالنعيم والجنة الموعودة، ولكن على الأرض، على هذه البسيطة ..ليس هناك جنة يسكنها الأنقياء، فالشياطين قد أشتروا كل صكوكها بالدم والنار. آه منك يا ييريفان..قلب أرمينستان، لا تمزقي أوردة فؤاد آرامي ديكران! دعيه خلودا يعزف عن آرارات وكردستان، ألا ترين و تسمعين؟ مازالت "غزالة"عارف الجزراوي ترعى على ضفاف بحيرة "سيفان"، وآلهة البلابل عيشاشان، ماتزال تصدح للعذارى والأنس والجان مووايل " لي قدري" و"بيريفان".


افترشت الطاولات بالصحون والمأكولات من جبن ولبن ومربيات، وكذلك بالزبدة والقشطة واللحم المقدد، كما وضعت كؤوس كبيرة وأكوابا فارغة أمام كل واحد منا، ولكن لم يكن هناك أي وعاء من الماء أو العصير، وفجأة ظهر أحد الرجال محملا بصندوق مليء بقواريرطويلة، وأخذ يضع أمام كل فرد واحدة، تساؤلت في نفسي"يا إلهي..إنها الفودكا الروسية!" ابتسم صديقي اليمني الجالس بقربي وهمس في أذني ممازحا" يبدو أنهم لايشربون الشاي مثلنا عند الإفطار في إبريق، بل يشربون الفودكا في قوارير!" نظرت من حولي فوجدت جميع الأصدقاء متسمرّين في مكانهم،يتبادلون فيما بينهم النظرات، يراودهم نفس الشعورالمريب، فهذا النوع من المشروب ناري كالطلقة، حارق كالأسيد، لاسع غدّاركالعقرب، ماكركالثعلب، إن شربت منه كأسا من المؤكد بأنك لن تطلب منه المزيدا".

الجبال لا ترهبها العواصف والأعاصير، فهي تعانق الغيوم، تداعب الريح بقممها الشمّاء، تحتضن وميض البروق في عناقها مع الرعود كي تعزف السماء سيمفونية الخلود بأناشيد الثلج والمطر، عندها ترتدي الأرض ثوبها القشيب كعروس في عرس كرنفالي بهيج، أما في الوديان، فالحجارة وحدها تسقط فيها وتتكدس فوق بعضها البعض دون حراك كالموت في المقبرة، الشلالات أيضا تسقط من قمم الجبال، ولكنها لاتنتحر ولا تموت، فهي تسير في سواقي وأنهار حاملة أخبار سارة للحقول والبساتين والينابيع بأن الحياة قادمة، فلا استسلام للظمأ والموت طالما هناك قطرة ماء تجري في عروق الأرض!


يتبع

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).