بدأت الحرب العالمية الثانية في الأول من سبتمبر عام 1939 في أوربا، استمرت على مدار ست  سنوات؛ حتى انتهت في الثاني من سبتمبر عام 1945، شارك فيها بصورة مباشرة أكثر من 100 مليون شخص من أكثر من 30 بلداً حول العالم، وأدت الحرب إلى وقوع ما بين 50-85 مليون قتيل حسب التقديرات.

وعلى الرغم من أن هولندا كانت قد أعلنت عن حيادها، إلا أن القوات الألمانية اجتاحت الأراضي الهولندية في العاشر من مايو 1940، وسيطرت عليها كاملاً بعد خمسة أيام، لتبدأ بعدها خمس سنوات من احتلال هولندا على يد النازيين.

وقد تم تحرير هولندا في الخامس من مايو 1945 بواسطة القوات الكندية ودول أخرى.  ويعتبر هذا اليوم يوم تحرير وطني يتم الاحتفال به سنوياً، ويوم الرابع من مايو يوم استذكار ضحايا الحرب، يشارك فيه جميع الهولنديين بالوقوف دقيقتي صمت حداداً على أرواح ضحايا الحرب العالمية الثانية والذين يقدر عددهم بـ 250 ألف شخص.

وصادف هذا العام الذكرى الخامسة والسبعون لتحرير هولندا من النازيين والفاشيين. ففي الخامس من مايو هذا العام هاتفتُ صديقة هولندية، مهنئاً إياها بيوم التحرير، مترحماً على ضحايا الحرب.

سعدت كثيراً، وهي بدورها ترحمت على ضحايا الحرب في بلدي الذي يرزح تحت وطأة حرب شعواء، منذ قرابة التسع سنوات وتمنت أن تنتهي تلك الحرب المجنونة، ثم قالت: إننا الآن في هولندا، لا نحتفل بالتحرير فقط، وإنما نحتفل بالحرية بشكل عام، لأنه من المهم أن تكون لنا حرية تعبير، ونعيش في بلد حر، يمكننا فيه أن نقول ما نفكر به ونصوّت على ما نريد.

أجبتها، بأننا في بلدي، لا نعرف المعنى الحقيقي للحرية، و عندما نحاول ممارستها في بلاد أخرى التجأنا اليها، فإننا نمارسها بشكل خاطئ، لأن فهمنا لها خاطئ.

هذه الصديقة الهولندية لم تعِ بالضبط معنى ألا يعرف الإنسان كيف يمارس حريته!

انتهى الحديث عن الحرية.. لقد كان طويلاً، عاودت الحديث عن طريقة احتفالهم بيوم التحرير، أو يوم الحرية كما تحب هي أن تسميه: عادة ما يكون احتفالنا بهذا اليوم كبيراً، ولكن هذه السنة بسبب فيروس كوفيد-١٩ كان هناك طقس خاص جداً. فقد اجتمع في ساحة الاحتفالات، الملك والملكة ورئيس الوزراء وبعض المسؤولين الحكوميين، مرتدين الكمامات، وبين كل شخص وآخر مسافة متر ونصف، ولم يردد النشيد الوطني سوى الملك والملكة ورئيس الوزراء.

ثم أردفت ضاحكة: هل تعلم أن غالبية الهولنديين لا يحفظون النشيد الوطني، فنحن الهولنديين لا نؤمن بهذه الأمور، لأننا في الغالب نجدها هراءً.

قلت لها: جميل أن يسمو الإنسان فوق القوميات والشعارات البراقة، ولكن إذا ولد الإنسان في بقعة جغرافية، كلها إثنيات وطوائف، ويضطهد الإنسان منذ ولادته بسبب انتمائه. ستكون ردة فعله (لا إرادياً) هي التمسك بقوميته، وسيحفظ نشيده الوطني غيباً، وسينظر إلى العلم الذي هو مجرد قطعة قماش مزخرف بأنه رمز مقدس.

أيدتني صديقتي في كلامي قائلة: أنت محق فيما تقول، ربما لن أدرك شعورك تماماً، كوني لم أخض هكذا تجربة ولكنني أشعر بك.

تابعت قائلاً بحماس: أجل النشيد الوطني الذي هو عبارة عن بعض الكلمات الحماسية المهيجة للمشاعر، من استذكار لأمجاد تلك القومية، إلى كلمات مرهونة بالحاضر وفيها من التحدي ما فيها، إلا أنه بمثابة إثبات وجود لتلك القومية، والعلم الذي هو كما قلت، مجرد قطعة قماش مزخرف، إلا أنه رمز للتحدي، ورمز للبقاء.

بعد أن أنهيت كلامي الذي بدا أشبه بخطاب حماسي، شعرت بالخجل من كم الحقد الدفين الذي ظهر في كلامي، حاولت الاعتذار بطريقة ما عن تلك اللهجة.. تمنيت أن يكون هناك زر كما في لوحة مفاتيح الكمبيوتر،  يمكّنني ضغطه من الرجوع  بالزمن ما قبل نطلق تلك الكلمات.. لم أستطع درء خجلي فأنهيت المكالمة، متمتماً بكلمات اعتذار غير مفهومة.

بعد المكالمة شطح بي الخيال، ماذا لو استطعنا اختراع آلة زمن تمكننا من الرجوع بالزمن إلى ما قبل الحروب.. إلى ما قبل الابادات.. إلى ما قبل القوميات.. إلى أي زمان سنعود! فالتاريخ كله بحور من الدماء! منذ بدء الخليقة وإلى الآن! فلو عاد بنا الزمن إلى أي حقبة تاريخية، فالحال كما هو عليه الآن، كله انقسامات وتفرقة وعنصرية، كله حروب واقتتال على أتفه الأمور.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).