يكتب الشاعر كاميران حرسان المقيم في السويد منذ سنوات طويلة، الشعرَ لأّنَّهُ يحيلُ العالمَ إلى فردوسٍ للعقل ومهوى للروح كما يقول. فالكتابة تخلق النور في داخله، فلا يستطيع العدول عن قرار المضي إلى هذا النداء الذي يتردّد صداه  عميقاً في روحه.

له في الشعر دواوين عديدة، المنشور منها "رشيقاً أعمى كالدمى" و"نجومٌ من أعماقها"، وله أعمال أخرى شعرية وروائية منجزة ستصدر في وقت لاحق.

اشتغل حرسان أيضاً في حقل الترجمة الشعرية عن السويدية، وله فيها: "درب الغريب: مختارات شعرية" للشاعر السويدي غونار إيكيلوف، صادر ككتاب مع مجلة الدوحة، و"مجرات سحرية" وهو عبارة عن ترجمات منوعة من الشعر السويدي، صادر عن دار الفيصل، و"السماء نصف المكتملة" وهو عبارة عن مختارات من أشعار توماس ترانسترمر، صادر عن دار موزاييك.

ضمن سلسلة حوارات موقع "رامينا نيوز" مع المبدعين والأدباء والفنانين والشعراء من سوريا وحول العالم، حاوره عبدالله ميزر عبر البريد الفيسبوكي، منقباً في فلسفة كاميران حرسان الشعرية والكتابية والحياتية، فكان التالي:

- ما هو الشعر؟ ماذا تريد منه وماذا يريد منك؟ ما طبيعة العلاقة بينكما؟

الشعرُ هو باقةٌ عبقةٌ من الأزاهير البريةِ المقتطفةِ من براري الكلماتِ، فضاءٌ شاسعٌ من نسيجٍ أسودَ تتلألاُ فيهِ النجوم التي أسعى إلى الوصول إلى أشكالها وطبعها على الورقِ؛ أشكالٌ تمنحني البهجةَ فأمنحها قلبي؛ الشعرُ يريدُ قلبي ليهبني أحجارهُ الكريمة ما يجعلُ طبيعة العلاقةِ بيننا كعلاقةِ الفلكي معَ النجوم؛ يلجُ مرصدَهُ المثبتَ على قمَّةٍ من قممِ العواطفِ المُحدّقةِ في أعماقِ النفسِ البشريةِ لتكشفَ عبرَ أستارِ الغبارِ عن كنوزٍ نجميةٍ نبتغي الوصولَ إلى أسرارها البعيدة، إلى تلكَ المشيئة التي ابتكرتْها ثمَّ خبَّأتْها في أعماقِ العقلِ البشري ذي النفسِ المتأجِّجة والقلبِ النابضِ بالأسرار!

ما الذي يحرّك حسك الشعري كثيراً، ويدفعك لكتابة قصيدة؟

ما يحرِّكُ أوتارَ الشعرِ فيَّ إطلالةٌ على الهدوءِ، والاسترخاء في رحابِ التأمُّلِ وفي التريُّضِ بينَ الكلماتِ الطافحة بالأحاسيس والصورِ المبتكرةِ التي تجنحُ بالخيالِ إلى عالمٍ أكثر بهاءً وأعذب ماءً وأشهى ثماراً حيثُ يتدحرجُ العقلُ بينَ الأفكارِ ويتقلَّبُ الفؤادُ بينَ دفقِ العواطف والأحاسيس التي من شأنها أن تستضيف رخاء الروح؛ بكلماتٍ أخرى أنا أكتبُ الشعرَ لأّنَّهُ يحيلُ العالمَ إلى فردوسٍ للعقل ومهوى للروح.

قد تكون القصيدة وليدةَ فكرةٍ عابرةٍ بينَ الأفكارِ المحتشدةِ أمامَ أبوابِ النفسِ المتأمِّلة ِبحالها!

فجملة أنيقةُ المظهرِ رقيقةُ الاحساس قد تمدَّ يدها في جرابِ الأحلام فتستخلص من الوعي واللاوعي تفاصيلَ صغيرة، عابرة لترتِّبها في حلم جديد!

كيف يؤثر المكان على فلسفتك الشعرية؟ وكيف أثرت عليك تجربة الحياة في السويد؟

الشاعرُ ابنُ بيئتهِ وخيالهُ من خيالِ طبيعتها ولو كانَ يسعى في كلِّ الأزمان إلى التمدّدِ بأفكارهِ عبرَ حدودها، متخطِّياً إيَّاها نحوَ عالمٍ آخر نتوخّاهُ بديعاً؟!

أنا ابن الريف يفاعةً بيد أنّي أضحيتُ بالتبنّي ابناً باراً للمدينة؛ مدنٌ شتّى زرتُها، عايشتُها ثمَّ افترقتُ عنها، لكنّني حملتُ معي منها تُحفاً للذكرى، تجاربَ تُغني لوحةَ حياتي بتفاصيلَ كبيرةٍ وأخرى صغيرة تسنَّى لي الإفادةَ من بعضها في نتاجي الأدبيّ كما ظلَّ بعضها الآخر على رفوفِ الأفكارالمرشّحة للتجلّي تنتظرُ دورُهِا كي تنتظم بينَ السطور.

أغرتني الحياةُ إلى تجاربها وأنا مازلتُ في ميعة الشباب بعد طفولةٍ دافئةٍ في كنفِ جدٍ عطوفٍ حملتُ ـ متأثّراً بالصورِ التي رُسمت أمامي والأحلام معي ـ حقيبةً صغيرةً وصيفاً لا تُنسى لياليهِ ميمِّماً شطرَ السويد، في بلادِ "الفايكينغ" المثلجة الباردة تعلّمتُ لغةَ الحياةِ الباردة بعدما منحتني بسخاءٍ كلَّ زواياها المنعزلة حتّى صرتُ في قوقعتها شاعراً مكتظّاً بهمومِ الدنيا تبتسمُ لهُ مرةً وتتجهّمُ مرات، بحيث أنّ تجربتي الشعرية المقامةِ على أعمدةِ تخومِ أممٍ أوربيةٍ اكتسبت زخما ًنفسياً وعمقاً حياتياً وفلسفياً بسببِ ما خبرتهُ في الحياة وما زرتهُ من مدنٍ كثيرةٍ جميلةٍ؛ درستُ في بعضها "برايتون وبطرس بورغ"، وأقمتُ في أخرى طويلاً على شواطئ بحيراتها "إستوكهولم وأبسالا" مدنٌ من ثلجٍ ورملٍ، منحتني الكثير لكنَّها حرمتني أيضاً من الكثير!

ما جعلني أستفيضُ بالكتابةِ عن ذلكَ الحرمان! أسترشد بنور البصيرة بعد أن فقدتُ نور البصر الذي غاب عني منذ عقدٍ ونصف فدفعتني دفعاً الظَلماءُ وظُلماتُ الوحدة التي تكتنفُ حياتي وقلبي الذي باتَ قمراً يرشدني إلى نورٍ آخرَ أراه يبزغُ فيَّ كلُما وجدتني ألتقي بنفسي وأنا أكتب.

ما عناصر القصيدة الناجحة في رأيك؟

ما أبتغيهِ من القصيدة أن تتحلّى بالرشاقة والمرونة ممَّا يحسّها القارئ مطواعة في تفاصيلها؛ ممشوقة القوام كامرأة تستملك عليك قلبك ووجدانك؛ جمالها يكمن في براءتها وأقصدُ هنا بالبراءة ابتعادها عن التكلُّف أو التزلُّفَ للكلمات، للمعاني و التراكيب التي قد تحرجُ معاني القصيدة، تُقولبها في شكلٍ يمنعُ تَمَدّدها في الخيال وكأنَّ لسانَ حالِ الشاعرِ يقول: هذا الكفنُ لي وحدي، هذا التابوتُ تابوتي وحسب ولا يجوزُ لأيٍّ كانَ التمدد فيهِ!

أتّفقُ مع الرأي الذي يجد في الشعرُ صنعةً بديعةً؛ لبُّها فكرٌ وقوامها إحساسٌ بالجمالِ، حاجزٌ رهيفٌ بينَ الثرثرةِ والكلام.

أجتهدُ كثيراً أن أجعلَ القصيدةَ عميقةً دونَ أن تغرقَ فيها الكلمات لذا أسعى إلى صياغتها رشيقةً بحيث ترتقي دون أن تطفو كأسماكٍ نافقةٍ على السطح،! واهباً بعداً آخر للمعاني بل أجنحةً متجانسة تكون فيها" الخوافي قوة للقوادم" كي يتسنّى لها تجنح عالية، حاملةً في نفسها كلَّ ذلكَ العمقِ الذي تطفو فوقه. دونَ أن ترتقي إلى السطحِ فتعلق في شباك التسطّحِ!

كل شاعر تلميذ لشعراء كبار حتى يكبر ويتحرر من سطوتهم.. من أهم أساتذتك؟ وماذا تعلمت منهم؟

ما من أديبٍ لا يتأثّرُ بالكبار،؛ فتجربةُ الشاعرِ الشعرية هي عبارة عن خلاصةِ ماترسّب في مجاهل ذاكرته من أشعارِ غيره من الأدباء مضافاً إليها مُخرجات الخيال والفكر!

في سن المراهقة عندَ ضفافِ الشعرِ الأولى سحرني جبران خليل جبران بأجنحتهِ المتكسِّرة ولاحقاً بنبيّهِ الذي شدَّني بكلِّ حكمةٍ إلى صدرهِ وعمَّدني في جرنِ فلسفتهِ الروحيّة؛ حيثُ تأثرتُ لكنّني سرعانَ ما جففتُ العبرات ومضيتُ لأرتقي سُلَّماً آخرَ، على أدراجهِ العليا فَردْتُ خيالي، سائرَ أجنحتي الشفيفةِ ثمَّ قفزتُ أطيرُ في فضاءٍ آخرَ، فضاءِ سليم بركات؛ حيثُ الكلماتُ دررٌ والنصوصُ الأدبيةُ قممٌ شاهقةٌ؛ لن يعشعشَ على سفوحها سوى النسور أمثاله.

تأثَّرتُ بهِ كما فعلَ جيلٌ كاملٌ من الشعراء يحذون حذوه فيتعلَّمون منه الطيران في فضاء الأدب الرحْب، حتّى استحالَ الزغبُ لديهم ريشاً فطاروا؛ طرنا فرادى وأسراباً حلقّنا في كلِّ الاتّجاهات! سرنا أجراماً جسيمةً وصغيرة بعضها قريبة وأخرى بعيدة عنهُ، لكنّها ما انفكّت تدورُ أغلبها حولَ ذلكَ النجمِ اللامع، تستمدُ ولو نذراً قليلاً من ضيائهِ الذي أبهرَ عيون الكثيرين أمثالي.

لكن ثمّةَ نجومٌ بديعة أخرى في السماءِ رصدها مقرابي الأدبي، لها بيئتها وكواكبها التي تدورُ حولها؛ لم تتجلِ أمامي إلّا بعدما تمزَّقت أستارُ اللغةِ بيني وبينهم كالأديب السويدي الصوفي "غونار إيكيلوف" والشاعر "توماس تران سترومر" الحائز على جائزة نوبل. ترجمتُ إلى العربية مختارات من أعمالهما الشعريةِ الجميلة! فعمّقا لدي مفاهيم كثيرة حتَّى جعلا لديّ من اللامرئي مرئيّاً ومن النورِ ألواناً لا حصرَ لها.

كيف أمضيت وقتك خلال الحجر الصحي؟ هل استفدت منه كتابياً وقرائياً؟

لم يكن لدينا حجرٌ صحيٌّ بالمعنى الحقيقي للكلمة وإنّما اقتصرتْ إجراءاتهُ على التباعدِ الاجتماعي الشائع أصلاً في السويد وإغلاقٍ مؤقتٍ لبعضِ المؤسساتِ الحكوميةِ والمدنية كالنادي الذي كنتُ أمارس فيهِ الرياضة.

روتين الحياة لم يتغيّر كثيراً لديّ سوى أنّي بتُّ أقضي جلَّ وقتي في قفصِ المنزلِ تماشياً مع مستجدات الوضع الراهن، حيث وجدتني مضطرَاً أن أتنقّل ما بين الحاسوب وطاولة المطبخ وشرفة البيت.

أطالع في أحايين كثيرة باللغات التي أتقنها كتب الأدب المسموعة وأكتبُ أشعاراً وأترجم أخرى؛ هذا كما أنجزتُ روايتي الثانية "غربان طائرة" والتي أنا بصدد وضع لمساتها الأخيرة.

 ما هي مشاريعك الكتابية الراهنة؟

أخمّن أنّي سوف أعودُ إلى الترجمة فلديّ الكثير ممّا ينبغي القيام به، ولا سيَّما وقد بدأتُ بترجمةَ أزاهير الشعر السويدي المعاصر ومختارات للشاعر الإيسلندي "سنوري يارترسون" بعدما أهملتها لانشغالي بأعمالي الروائيّة.

 ما الذي يثير غضبك في الحياة؟

أنا قد أكون سريعَ القدحِ ولكن شراراتِ غضبي لا تتطايرُ حولي بعيدا فتصيب من حولي بجهالة. من حسن طالعي أن غضبي لا تدوم غلواؤه طويلاً؛ غضبي طفوليّ، قصيرُ الأمد وإن استدامَ فمردّه هو شعورُي بالمرارة التي تفرزها لنا الحياةُ كقاضٍ غيرِ عادلٍ؛ همّهُ أن يسترضي المرارةَ فينا، أن يعاقبنا على السعادةِ التي انتشتْ بها أعماقُنا حتّى نبتتْ بسببها لنا أجنحةٌ تندفعُ صوبَ الحياة الرغيدة التي أثقلتْ كاهلَها يدُ الفرصِ غيرالمتكافئة.!

 هل من لحظات شعرت فيها أنك تحلق من الفرح.. ما هي؟

في طفولتي الغضّة كان بوسعِ روحي أن تحلّقَ عالياً عبر الأثير بيسرِ وعفوية مبتهجة ًلأيّ سببٍ كان والآن لا أعتقدُ أنَّ بمقدوري ـ بعدما غاصتْ قدماي عميقاً في مستنقعِ الحياة ـ فعلَ ذلك بسببِ ما أحملهُ في نفسي من أثقالٍ وهمومِ ولكن غرس الفرح في نفوس الآخرين من شأنه أن يحشو وسادةَ السعادة ريشاً.

أنا مرحٌ بطبيعتي، متفائلٌ محبٌ للفكاهة، لكنّني حذرٌ من السعادةِ الفائقة أيضاً! فأنا أخشى إذا بلغتُ قمّتها أن أتدحرج مخذولاً نحو منحدرِ الأسى حيث هاويةَ الحزنِ العميق؛ لقد آنستْ روحي ألّا تجنح خارجَ فضاءِ الذات كسربٍ من الطيورِ الملّونةِ وإنّما تكتفي بالقفز كجندبٍ على مرجٍ أخضر.

 ماذا تفعل عندما تكون حزيناً؟

الحزنُ ضيفٌ ثقيلٌ، مطرٌ يتساقطُ في غير موعده، بردٌ يُحطّمُ مواسمَ البهجةِ! فأهربُ منه وإن حاصرني أحاولُ كسرَ حصارهِ عبرَ التنزِّهِ أو التحدُّثِ معَ الأصدقاء، أتحدَّث عنهُ ومعهُ أيضاً حتّى يملَّ منّي فيتركني.

لا أحاولُ تدوينه البتةُ بأي شكلٍ كانَ قبلَ انعتاقي من أغلاله وبعد رحيله ـ غير مأسوفٍ عليه ـ واستحالته ذكرى فيسهلُ عليَّ التقاطَ جمراتهِ المنطفئة لأدوِّن برماد ذكراه نصّاً منفعلاً ذا جذوة متوقِّدة.

كيف هي علاقتك العاطفية مع الطعام...؟ أي نوع من الطعام تفضل؟ هل لديك وجبة مفضلة؟

لستُ مولعاً بالطعام لدرجة الهيام، فعلاقتي بهِ كعلاقةِ الضأنِ بالمرعى، علاقةَ الثعلبِ بدجاجاتِ القريةِ حينَ يفاجئها ليلاً؛ فأنا أتسوّقُ نهاراً وأتناولُ غالبَ وجباتي ليلاً، أحبُّ وصفات الطعامِ المرتجلِ الذي يضمُّ في عناصره الكثيرَ من الخيال وهنا لا تهمّني التسمية فيهِ!




مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).