تنقل المراجع أن الحيّة أخرجت آدم وحواء من الجنّة بحنكتها ودهائها.

في أفلام الرعب، نجدها تخرج من التوابيت، وتتسلّل داخل الأسرّة أو إلى حوض الاستحمام، فتدسّ الذعر في النفوس. وفي أفلام المغامرات لا بدّ أن تنبعث أفعى من رمال الصحراء وتحوم حول جسد البطلة النائمة.

وإن كنت تُشاهد وثائقيات "بي بي سي إيرث"، فستذهل بجمال الأفاعي .. تلك الزواحف المتنوعة بأشكالها وألوانها، فمنها السام والقاتل والمسالم، منها ساكن المياه، ومنها ساكن الأدغال. ولكن، في عالم آخر، بعيد عن عجائب الطبيعة، ونعني في عالم الأساطير والأقاصيص الشعبية، تصير الأفاعي آلهة وملكة وحكيمة شافية.

هذا الأسبوع، يحتفل الهندوس في الهند والنيبال ودول أخرى، بمهرجان الأفاعي، أو ما يعرف بالـ"ناغا بانشامي"، وهو عيد مخصص منذ مئات السنين لتكريم الـ"ناغا" وتعني الأفاعي باللغة السنسكريتية (من كلمة ناغا أخذت الكاتبة الإنكليزية جاي كاي رولنغ اسم الأفعى ناغيني، حارسة المشعوذ الشرير فلدمورت، في سلسلة هاري بوتر).

يوم الأفاعي المقدسة

هذا اليوم هو يوم عطلة رسمية في الهند، ورغم التضييق على الحركة وفرض قواعد التباعد الاجتماعي للوقاية من كورونا، يستعدّ الهندوس لأداء الطقوس الدينية المعتادة لهذه المناسبة.

يُحتفل بهذا المهرجان كلّ سنة، في اليوم الخامس من شهر شرافان الهندوسي القمري، ويحلّ عادةً بين شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، وهو الشهر المخصص لتكريم أحد أكبر آلهة الهند شيفا.

من تقاليد العيد، أن يحتلّ مروّضو الأفاعي زوايا في الساحات العامّة، فيتحلّق الناس حولهم لتقديم الحليب لثعابين الكوبرا كي تشربه. وتشمل الطقوس أيضاً الصوم، والامتناع عن حراثة الأرض، خشية مضايقة الأفاعي.

وفي هذا المهرجان أيضاً، يرتل الناس أسامي عدد من آلهة الأفاعي المعروفة، طالبين منها الزواج والوفر المادي والحماية من لدغاتها القاتلة. وتنتشر كذلك تماثيل صغيرة لأفاعي الكوبرا، في البيوت والشوارع، وتضاء لها الشموع. كما يسعى الناس لاقتناء رسومات ملونة لبعض أشهر الأفاعي المقدسة.

ومن التقاليد الشائعة في هذه المناسبة أيضاً، المصارعة على الرمال، في محاولة للتشبّه بعراك الأفاعي. وتشير وسائل إعلام هندية إلى أنّ محترفي هذا النوع من المصارعة، يواصلون التمارين في منازلهم هذا العام، على أمل أن يتمكنوا من أداء عراكهم السنوي، رغم الإجراءات الصحية الوقائية من فيروس كورونا.

في رمزيته، يعدّ مهرجان ناغا بانشامي، طريقة للتأكيد على عدم الخوف من الموت. تمثّل الأفاعي اللانهاية والرغبة والطاقة والحكمة والثراء، وترتبط بالأنهر والبحيرات والينابيع. لذلك يقدم المصلون في هذا اليوم زهرة لوتس، ويتركونها تطوف فوق مياه نهر الغانج.

لا يقتل الهندوس الأفاعي أو أي حيوان آخر، وذلك من أبرز معتقدات ديانتهم القائمة على التناغم مع الطبيعة بكافة عناصرها.

في أحد معابد مدينة سكندرباد عام 2019

الأفعى في خلق العالم

تتسبّب لدغات الأفاعي في الهند بوفيات كثيرة. وحتى عهد قريب، كانت لدغة الثعبان السبب الأساسي للوفيات في البلاد. لذلك قد يكون من الطبيعي أن يخصص أتباع أكبر ديانة في البلاد (حوالي مليار هندوسي) الصلوات لدرء خطر تلك المخلوقات. لكن الأمر متجذر في الثقافة الدينية والشعبية بشكل أعمق.

فما هي مكانة الأفاعي في الديانة الهندوسية؟ ولماذا نراها في كثير من الصور والتماثيل والأفلام الهندية؟ في الهندوسية، ليست الأفاعي شخصيات ثانوية على الإطلاق، بل هي حاضرة وتلعب دوراً مهمّاً في أساطير خلق العالم.

هناك اعتقاد سائد أنّ الهندوسية ديانة متعدّدة الآلهة، وذلك غير صحيح، فالهندوسية تؤمن بإله واحد، هو براهمان، أو الكون الصامت، والروح العظمى الموجودة في كلّ شيء. أما باقي الآلهة، فليست إلا تجليات لبراهمان، وأجزاء متفرعة عنه.

في أساطير خلق الكون الهندوسية، ثالوث إلهي يحتلّ المشهد المركزي، ويتمثّل بالآلهة الثلاثة: براهما، فيشنو، وشيفا.

براهما هو الخالق، له أربع رؤوس، وله يعود الفضل في بعث النصوص المقدسة الهندوسية الأربعة والمعروفة باسم الفيدا.

فيشنو، هو حافظ العالم، واله البقاء والطيبة وغالباً ما يعرف بلون جلدته الأزرق، وله تجليات عدة في الاساطير الهندية أشهرها راما وكريشنا.

وأخيراً شيفا، وهو إله الدمار والظلام وهو المسؤول عن دمار الكون عند نهاية كل حلقة من حلقات الحياة، ويعرف بعينه الثالثة.

ولأن الحياة تدور في حلقات لا نهاية لها، وكلّ بداية هي نهاية والعكس، فإنّ توازن الكون يحتاج بحسب الفلسفة الهندوسية لهذه الأقانيم الثلاثة.

لكنهم ليسوا الوحيدين، بل لهم زوجات وأبناء يلعبون دوراً مهماً في تاريخ الهند، كما يرد في تفاصيل الملحمتين الهندوسيتين المقدستين الشهيرتين: المهابهاراتا، والرامايانا.

ما دور الثعابين هنا؟ من الصعب تفصيل دورها، فهي في كلّ مكان! في تماثيل الإله شيفا، نجده يلفّ ثعباناً كطوق حول رقبته.

هذا الثعبان هو ملك الثعابين، واسمه فاسكوي، سنعود إليه بعد قليل. أخته هي ماناسا، إلهة الأفاعي، ويصلي لها الهندوس لطلب الوقاية من لدغات الكوبرا، الخصب والانجاب، وطمعاً بالازدهار المالي.

في تمثيلات الاله فيشنو، نراه يحتمي بثعبان برؤوس متعددة، اسمه شيشا، وهو أحد أوّل المخلوقات ويقال إنه حمل الكواكب في وسطه ليثبّتها. يظهر الثعبان أيضاً في تمثيلات الإله غانيشا صاحب رأس الفيل الشهير، إذ يلف أفعى حول خصره، أو يرتديها كتاج.

ملك الثعابين فاسوكي، رمز مقدس في العديد من ديانات الشرق الأقصى، وليس فقط في الهندوسية.

وتقول الأسطورة إنّ الآلهة استخدموه لخضّ محيط الحليب، لاستخراج إكسير الحياة الخالدة، لذلك تُبجل الأفاعي بتقديم الحليب لها (مع أنها لا تشربه).

يكرم المصلون الكوبرا عبر غسلها بالحليب
يكرم المصلون الكوبرا عبر غسلها بالحليب

معاهدة الصلح مع الثعابين

يعدّ هذا المهرجان من أقدم الاحتفالات الهندوسية، وتقول ملحمة المهابهاراتا إنّ الملك جناميجي كان قد قرّر إحراق كلّ الثعابين والأفاعي، انتقاماً منها لقتل والده. فطلب من البراهمة (أو طبقة الكهنة الهندوس) تلاوة صلوات لإنزالها في النار، فخافت الآلهة وعقدت معه صلحاً. يوم ذلك الصلح، هو اليوم الذي بات مهرجان ناغا بانشامي.

وبعيداً عن أساطير نشأة الكون، تعتقد الهندوسية أنّ الـ"ناغا" مخلوقات مقدسة، تظهر على شكل انسان أو أفعى، أو أفعى برأس انسان، تحكم العالم السفلي، وتمتلك كافة كنوزه ومجوهراته. كما أنها عنصر مهم في اليوغا، إذ تتركّز قوّة الأفعى في جذع العمود الفقري، وتعدّ مجرىً أساسياً للطاقة في الجسم.

هناك إشارة إلى الافاعي في عدد كبير من الاقاصيص الفلكلورية الهندية، وتروي غالباً تجارب مزارعين قتلوا ثعباناً وهم يحفرون الأرض او يزرعونها، فعوقبوا، وطلبوا الصفح من إله الافاعي عبر تقديم الحليب لها.

تتناول بوليوود قصص الأفاعي التي تأخذ شكل انسان في عدد من أفلامها، كما أنّ مروضّي الأفاعي شخصيات شهيرة في الأفلام الهوليوودية. ولكن، في الواقع، يرى بعض الهندوس أن معاملة مروضي الأفاعي لتلك الحيوانات قاسية وغير إنسانية. فهي لا تشرب الحليب، لذلك يبقونها لأيام من دون شرب، حتى تقبل في يوم ناغا بانشامي بشرب أي شيء كان لشدة العطش.

ليست الهندوسية الديانة الوحيدة التي تحتفي بالأفاعي، ففي حضارات العراق القديم، ساد اعتقاد أنّ الأفاعي خالدة، لقدرتها على تغيير جلدها. وكما يؤمن الهندوس بأنّ الأفاعي تحكم العالم السفلي، كذلك كان لدى السومريين اله أفاعٍ، يحكم العالم السفلي، يلتفّ على عصاً، ويعدّ رسولاً للأرض الأم.

في الحضارة الفرعونية، تكريم فائق لثعابين الكوبرا التي ارتبطت باله الشمس رع. في الميثولوجيا الاغريقية، تتخذ معظم الوحوش شكل أفاعٍ متعددة الرؤوس، كذلك يحمل اله الصحة أسقليبيوس ثعباناً، أسرّ له بأسرار الحكمة والشفاء، ويظهر الثعبان كذلك في تماثيل ابنته هيجيا، إلهة النظافة.

يلاحظ الأمر ذاته في حضارات القارة الأميركية القديمة، مثل المايا، إذ يوجد تمثيلات للثعابين.

هذا في الحضارات القديمة. أما إن أردنا الدخول في تعداد ذكر الأفاعي في الكتب السماوية، من التوراة إلى الانجيل فالقرآن، فسنحتاج إلى عدد لا يحصى من الأبحاث والمقالات.

bbc.com

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).