أن يحال الأسلوب على الإنسان، ذلك بداهة. فهو الذي يعرَف بما يميّزه عن غيره من الكائنات. وأن يكون لكل إنسان أسلوبٌ ما في حياته، حتى لو كان في وسط ضيق، من خلال حركات معينة، طريقة كلام، فذلك مألوف بالمقابل. سوى أن ما يُسجَّل للإنسان، ويضفي عليه اعتباراً، حين يظهر مغايراً عمن حوله في سياق آخر، يعرّف به كاتباً أو فناناً. إنه صنيعه، وهو مرجعه. نحن هنا إزاء انعطافة حياتية، مسعى للخروج عما هو معتاد عليه، دون ذلك سيكون عبئاً على الأسلوب.

لكن الأسلوب في الوقت نفسه، بمقدار ما يتجه بنا إلى الخارج، ونحن نتتبعه، أو نقتفي أثره من خلال الآثار الدالة عليه، والتي يكونًها في آن، أفقياً، فإن ثمة ما يصعب التحكم في مساره أو كيفية رسْمه لمساره، حيث الداخل يكون منبعه، والصعوبة تتمثل في كيفية ادعاء معرفة الداخل، حيث يوجد الكثير مما يكتنف بنية الكتابة هنا، وملابساتها، ومناخها النفسي، والمُجاز الكتابي؟ وهو ما يتطلب حذراً جهة أخذ الكاتب والتعريف به من خلال مفهوم الأسلوب  المركَّب .

إن الحديث عن هذا الكم الوافر من الأسماء الفاعلة كتابياً وفنياً، يمثّل الكم الوافر اللافت كذلك، لتلك الأساليب التي تتباين فيما بينها وساعة وعمقاً ورحابة، وحتى بالنسبة للشخص الواحد نفسه نوعياً.

أن يكون الإنسان معرَّفاً به في أسلوبه، كما يقال، هو محك الاعتبار لما ينشغل به، وله من امتحان يستغرق عليه حياته، ويبقيه مرصوداً من قبل الآخرين، قراء ونقداً بالتأكيد.

ولأهمية الأسلوب وخطورته كذلك، كان هذا التركيز عليه، وتشعب مفهومه وتنويره .

ثمة تحدّ لمن يقرأ، ولمن يكتب، جهة البحث عن الآخر فيه، اعتماداً على أسلوب يجسّد تمايزه .

فالأسلوب رهان دائم ومستمر لا يتوقف عن التحول والتغير تجاوباً مع الحراك الزماني- المكاني.

وهذا يعني أنه في اللحظة التي يُكتَب يكون قد تعرَّض لتغيير ذي صلة بفعل الصيرورة حيويتها!

في كتابه " شعرية سليم بركات: مقاربة أسلوبية " للشاعر والناقد الكردي" زيرفان أوسي " يظهر الأسلوب رهاناً يختبر من خلاله قدرته القرائية والكتابية معاً، من خلال اسم له حضوره، له فتنته، وله طلسمه في كتابته، أي الشاعر والروائي الكردي سليم بركات. لا مبالغة إن ردد أحدهم: أن تقرأ سليم بركات، تلك مغامرة لا تخفي جهداً مركَّزاً، أما أن تقرأه وتكتب عنه، فثمة مغامرة مضاعفة، ثمة تحد للذات، وللمقروء نفسه، إذ ينبغي إبراز هذا " السحر " المنسوب إلى بركات، وفي الوقت نفسه نزع السحر عنه، ليكون في الإمكان التفاعل معه، أي إمكان مكاشفة أسلوبه، وهو إمكان لا يعدُ بالقطعية، أو التمامية، بمقدار ما يكون رصداً لقراءات معينة، ومن زاوية تقنية " تقنية القراءة " تهتدي بمفهوم موسوم، جهة الأسلوب، وما إذا كانت الإحاطة به ممكنة، وكيف، وإلى أي درجة!

وقبيل البدء بالكتابة في هذا الشأن، أشدد على أن مجرد الكتابة عن سليم بركات، حتى يحضر الأسلوب، إنما بأي معنى؟ وهل يمكن تسمية معنى محدد، انطلاقاً من طبيعة الكتابة لديه، وهي الطريقة التي تسمّي الأسلوب لديه، وقد حار في أمرها نقادها، وتباينت مراتهم من هذا الجانب .

بناء عليه، تظهر كتابة بركات محمّلة بالعوائق الحائلة دون متاخمة حدودها، وإمكان تنويرها. فالخاصية الكتابية لدى بركات تقرّبه مما هو قاموسي، جهة المفردات التي يعرَف بها، من ناحية، وكيفية " تعبئتها " بأبعادها الثلاثية، ومزجها بالتخيل، من ناحية أخرى، وتسطيرها فيما بعد، لهذا، فإن مجرد قراءة هذه الكتابة في تنوعها: بين شعر ونثر، يعتبَر فضيلة معتبَرة، حيث يظل بركات بكتابته والمدرَج بين طياتها، في وضعية المقاوِم على التفسير العابر، ربما حتى بالنسبة لبركات نفسه، حيث لغته لا تخفي انتماءها إلى تاريخ معين، وواقع معين، ولكن كيفية اعتمادها أمر آخر.

زيرفان أوسي –ربما- اختار- الزاوية الأصعب في قراءة هذا الكاتب الكبير، الكاتب بلغة الآخر، والكاتب بما يشكل تحدياً للآخر وفي لغته، وهذا يزيد من حمولة الدلالة الفنية والمتوخى منها رمزياً.

في الشعرية تكون مأثرة اللغة وكيف أفصحت عن نفسها فنياً برؤيتها الجمالية، وهو ما يمكن للأسلوب أن يستعد لها، والسعي إلى تنويرها.

تأكيد

يُسجَّل للباحث أوسي هذا الإقدام على قراءة بركات من زاوية الأسلوب وهو الأشبه بسياج شائك إلى أبعد الحدود، وفي قراءته مغامرة لا تخلو من المخاطر، لحظة مكاشفة طريقة قراءته لشعرية كاتبه، وفي الوقت الذي تظهِر قراءته أنه في اعتماده منهج( التكامل الأسلوبي)أي ( عبارة عن تطبيق للاتجاهات الأسلوبية الثلاثة، وهي الأسلوبية التعبيرية، والأسلوبية النفسية، والأسلوبية الإحصائية. وهذا التطبيق يكون قراءة تحليلية للبنيات الأسلوبية ، وما تعطيه من دلالات مخبوءة في شعر سليم بركات..ص10- 36).

نحن إزاء مثلث قرائي في " أضلاعه " الثلاثة، يصل فيه الداخل بالخارج، ومن خلال التفاعل بين مكونات هذا المثلث، يكون النفسي، الاجتماعي والثقافي الخاص بالكاتب .

والظاهر أن زيرفان قد ترك له خط الرجعة، كما يقال، جهة القراءة المسماة " تحليلية" وعلى أنها لن تستنفد الحصاد الإبداعي" الشعري " لدى بركات، إنما ما يمكن النظر فيه عبر تسميته. كون الدلالات المخبوءة تبقى عصية على الكشف، في كلّيتها. إنها استحالة، لأن الأسلوب، مثلما أن بركات يعرَف بأسلوب يميزه، يبقى هو نفسه أبعد ما يكون عن إمكانية توصيفه كما يريد، فالتوصيف مفارق للتعبير الإبداعي، ليظل هناك ما لا يسبر غوره، كذلك مع الكاتب، حيث الدلالات المخبوءة، كتوصيف وتعيين، لا تضمن تسمية كل ما عرِف به بركات. الأسلوب أكثر مما يُسمى به هنا. إنها حيلة الكاتب، أسلوبه هو الآخر الذي يُسمّي فيه بدوره ما يغفل عنه، لتبقى القراءة قائمة.

في جملة النقاط التي تعرض لها جهة الأسلوب والأسلوبية، ماضياً وحاضراً، والتركيز على التوسع والتعمق في مفهوم الأسلوب حديثاً، وصلته بالثقافة والهوية، نقرأ عشرات الصفحات، تمهيداً لتلك القراءة المنتظرة، والتي انحصرت في بنية العنوان، وكيفية تأطيره.

ما يسمّيه زيرفان في تحرّيه للأسلوب والأسلوبية، محاولة معرفية واضحة بغية بلوغ نص بركات. دون هذا الإجراء لا يمكن إقامة علاقة فعلية بين القراءة والنص المرشح لها.

إن هذا الجهد المبذول إشعار بحقيقة بحثية، وهي منْح نفسه فسحة من الحرية في المتابعة، ومشروعية قراءة وتحديد علاقات مع النص، عبْر الأدوات التي تنتمي إلى عالمه البحثي هنا.

أبسط مثال، هو الذي يدخل في اعتبار الأسلوب " انزياحاً" والذي يعرف به هو فريمان ". أي بوصفه: انحرافاً عن القاعدة- وتواتراً واستثماراً للإمكانيات النحوية...وليوجز المفهوم هنا( الانزياح في المفهوم الأسلوبي هو المخالف للمعيار السائد وقدرة المبدع على تجاوز المتناول المألوف، فهو خروج عنه وما يقتضيه ظاهراً. ص 31) .

لعل ذلك، لحظة المقاربة النقدية، من البداهات الكبرى في معرفة الأسلوب. إذ لا حضور لكتابة وتكون مألوفة. الكتابة، وباعتبارها كتابة لها صفة أدبية أو فكرية، تحمل موتها وحياتها معها. إن موتها هو أنها تحمل هويتها الذاتية معها، وعلى الآخرين البحث عنها، والتدقيق فيها، وحياتها، تكمن في أنها مفارقة لما هو موجود. لا بل إن مجرد الحديث عن المألوف في الكتابة أسلوبياً يكون إثقالاً على المعنى، وإساءة إلى المفهوم نفسه. حيث كل كتابة مؤهلة لأن تكونها، انزياحية، فهي إذا مغايرة للكلام اليومي، وبالتالي فإن وجهتها الآتي. هنا الكتابة تتوخى أفقاً مسمى، يتوقف عليها، وعلى الذين يهمهم هذا الجانب النظر عن بعد وعن قرب إلى هذا الأفق الذي ينبههم إلى المختلف.

كيف يتمثل هذا الانزياح في مثال بركات على صعيد اللغة؟

الثقافة تتكلم محتواها كثيراً. ولغة بركات هي لغة الآخر" الضاد " وكيل المديح في اعتماده العربية لغة كتابة بالطريقة التي تثير إعجاب " الضادي " واستغرابه " على صعيد التمكن منها إبداعياً.

كما لو أن بركات في العربية أراد التعبير عن روحه بخاصيتها الفردية وتمثيلها الجماعي" الكردي ضمنياً" حين أخرج لغة الضاد من تلك الخاصية القائمة وحتى المعتمدة لدى كتابها. فثمة تجاوزان: جهة السائد" الرسمي " وجهة المعتمد كتابياً، والأسلوب تارك بصمته هنا انزياحياً. كما لو أنه يقول في كل كتابة: بهذه اللغة التي عانيت منها كانتماء قومي، كثيراً، وحرمت من لغتي" الكردية طبعاً " سوف أعرّي ما انجرحت به، وأبلبل لسانكم في التذكير بما تغفلون عنه، أو تتجاهلونه هنا وهناك.

وزيرفان يتحرك في ركاب بركات، حيث يعتمد العربية في قراءته " كما الحال معي هنا " ربما تجاوباً نفسياً مع شعور مقدر بركاتياً. فاللغة لا تخفي بُعداً انتقامياً في تنوير ما كان موجعاً.

وحديث سليم بركات هنا عن " اللغة منفى، كل لغة منفى، لأنها الحدود الاجتماعية، والدينية للمخيلة..ص40 ) تتطلب كشف حساب بنيوياً لها، أولاً جهة اللغة بوصفها منفى، لأن اللغة تلزم المنفي هنا في أن يجيدها، أن يثبت جدارته من خلالها، فهو محكوم بها، ولن يتاح له الانطلاق إى الخارج إلا إذا أحسن استعمالها. المنفى وضعية رضاعة، وإجادة اللغة فطام وتمايز، وهذا المنفى لا انفصال عنه، حتى بالنسبة للإنسان العادي، في وجوب معرفة اللغة، أما الكاتب فمهمته مضاعفة، حيث لا يكفي أن يتكلم اللغة، إنما كيف يطوّعها لإرادته، لتتكلمها بأسلوبه، ويهذبها بطريقته، وفي لغة الآخر، يبقى التحدي المضاعف، وكيفية ضبط النفس، لأن العلاقة تستغرق عمراً بكامله ثانياً.

إنه هو نفسه من يؤكد هذا المفهوم الذي يكاد يتلبسه كلياً في كتابه الحواري" "لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة، بيروت، 2020، حيث يقول: نحن " منفيون " منذ ولدنا... نحن و" المنفى " جسد واحد، فأنّى لي أن أقيم " فروعاً " للكتابة، وأن أصف فرعاً منه  بـ " أدب المنفى "؟..ص86)..

وما يأتي الكاتب على ذكره يستوقف قارئه( يجد قارىء سليم بركات كثيراً من متاهات لغوية أشبه بسحر متداول يصعب في بادىء الأمر إلى إلى عمق الخطاب الذي يتناوله، ما يدعو إلى قراءات متعددة ليزيل ما خفي رموز ودلالات اللغة لا يمكن تجاوزها إلا باستحضار اللذة، يفعلها بركات باستمرار دون تعب.ص42).

طبعاً لا بد من الإشارة بداية، إلى أنه من المستحيل بمكان، لا مع بركات ولا مع سواه في قراءة كتابة من هذه النوعية المنغلقة على نفسها، أي بادي التطلسم، التأكيد على أن بركات هنا، كان يكتب دون تعب، ودون الجزم بأن الذي يكتبه يوازيه دائماً بما له معنى محدد. ليس لدى الكاتب إمكان القول بوجود علاقة محسوبة كهذه، خصوصاً في قول الشعر، وإلا لأشير إلى افتعال يبعده عن قول الشعر وهو يرتبط بالمتخيل، باللاشعور، أي تلك الحالة النفسية التي تشده إلى استهواءات أحياناً، وإلى شعور بالمتعة في سياق كتابته لنص معين وبالتالي، ليس في مقدور قارئه أن يقول عن أن كاتبه كان يقصد بقوله" قول ما " المعنى كذا.. ثمة مخاض في معاينة الأسلوب بالصيغة المنوّه إليها، والولادات مستمرة، بالمعنى الرمزي. الاسلوب يفيض على كل ما منسوب قولي إليه . ومن جهة اخرى، يبقى الحديث عن المتاهة هنا عالقاً في فخ زعم التفسير، أو الوعد بأن الوضوح قادم.. تلك إشكالية لا تتضح في بنيتها بالسهولة المتصورة، إنما ما يراه قارئه من زاوية محددة تعنيه ولا تعني قارئه في الحالة هذه. وفي الانزياح عينه ما يعزز هذا المقام. إنه انزياح بتصور معلوم حصراً بالنسبة إلى تلك العلاقة المرتبط بثقافة معين، ووضعية  تلقّ للمقروء..

ربما يحضر هنا جاك دريد صاحب " المهماز: أساليب نيتشه " وهو يتكبد جهداً كبيراً في محاولته البحث عمن يكون نيتشه المفكر، الفيلسوف، والفيلولوجي، بصعوبة الإحاطة بأسلوب له أو أكثر.

هو نفسه" دريدا " من قال في حديث عن أسلوبه(غالبًا ما نربط المصطلح بالتفرد، مع تفرد الأسلوب الفريد والمحدد. ولكن لكي يستحق هذا الاسم، هناك حاجة إلى شيء آخر. لا يكفي أن يكون فريدًا، بل يجب أيضًا أن يكون مكانًا لشيء لا يمكن تحديده: توقيع، حدث." ينظر دريدا، المصطلح، الأسلوب [Derrida, l'idiome, le style] ")

في المستوى التركيبي

زيرفان معدٌّ نفسه بشكل جيد جهة التعامل مع الأسلوب، وتلك الأمثلة التي تضيء فكرته.

هناك ما يستوقف القارىء لحظة القول( الأسلوبية علم وصفي، يبحث عن الخصائص والسمات التي تميّز النص الأدبي. ص 52 ).

طبعاً يتركز الوصف على الممكن تبيّنه في الجملة الفعلية أو الاسمية، مثلاً وتتالي معانيها. سوى أن هذا الوصف لا يستنفد مفهومه المقدّم للبحث، إلى جانب أن ذلك لا يعني " تعبيد " طريق القراءة بسلامة، وضمان الشرح أو المعنى المتوافق مع المبنى. ذائقة القارىء لها مهمازها النقدي.

يتعامل زيرفان مع نصه كما لو أنه مفتوح، أن قراءة معينة تكفل كشف مغاليقه. لكن ذلك خيار من خيارات القراءة، لا صلة للنص به" أي الخيار " وأن الحديث عن الوضوح في المعتبَر " مقصد " الشاعر إنزال للمعنى من عليائه وهو لا يحاط إلى عملية حسابية ، أو شرحية مباشرة. كقوله:

( لا تنفك شاعرية بركات في المعنى المفتوح للنص، إذ يرى من خلاله مأوى له، خاص ومشترك في آن واحد مع التخييل...ص55) .

من الذي يرى هنا؟ الشاعر أم قارئه؟ لو توقف المعنى على مثل هذه العلاقة البينية، لتوقف الشعر في عمومه وليس شعر بركات عن أن يكون شعراً. ما يُرى في الشاعر، هو ما يتراءى فيه من خلال قراءة معلومة بزاويتها وأفقها الدلالي، والحديث عن " المعنى المفتوح للنص " لا يخلو من شعور نفسي، حيث المعنى هنا من لدن القارىء أو الباحث، ولا ينفتح النص في كليته ..

في مثال آخر يتمثل في أسلوب النداء، يشير زيرفان إلى التالي( ثمة علاقة واضحة بين عالم النبات والشاعر، العلاقة تكمن في استحضار هيبة الطبيعة الأزلية والقوة التي تكمن من وراءها في مشهد وصفي رصين، يستنجد المخاطبُ من ( العشب ) الذي يرمز إلى الحياة/ السكون، يقول بركات:

يا عشب، هيا تعال، وأوثق يخضورك الجياعَ، أوثق كأمسي غدي المجفَّل..ص66 ).

ما يفصح عنه يشير إليه، إلى المعنى، معنى محدد، يقتصر عليه، في قراءة خاصة به، وهو يتحدث عن مفهوم " العشب " ودلالته، وحضور العشب هنا في المشهد الشعري الذي لا يستهان ببنيته.

نعم، نقول إن العشب، وكونه نبات يشير إلى الحياة، ولكن هذا التحديد، هل هو الوحيد الممكن الذي أراد بركات نقله إلى قارئه بالطريقة غير الواضحة هنا؟ أي معنى يتغير قاعدياً لحظة ربط العشب بـ" الجياع " بالزمن الماضي والقائم والمنصرم؟

في سياق " البنية الصرفية " ثمة متابعة لما هو انزياحي( الصرف أو التصريف في اللغة يعطي معان كثيرة منها" التحويل والتغيير..ص97 ) .

بهذا الصدد، اللغة في مجملها قائمة على التصريف، حتى في أبسط حالات الاستعمال لها، بينما لدى الشاعر، فثمة تصريف مفارق لحالته العادية. لا بل إن التصريف المفكَّر به في الحالة هذه، قائم في ذهن المعني به، ليكون على علم بذلك الحد الفاصل بين ما هو معتاد، وما هو مغاير مستجد. لعله المحذور الموجه إلى أي باحث وفي ذاته رغبة في قراءة تنصب على نص معين عبر الأسلوب الذي يضمن التقرب منه، أو محاولة تفهمه بالمقابل.

ولنا هذا النموذج، في قصيدة لبركات:

الطرق إجاص على شجرات الصباح،

فإن هرول المكان، متربصاً هروِل أيضاً:

أمامكما دراجات الأزل، وعلى أكتافكما أكياسه الفارغة .

ينطلق الباحث من صيغة الفعل " هَرولَ " بوصفه رباعياً، وما في ذلك من تحقق الدلالات التالية:

التبعية التي تجبر المخاطب على ذلك متأثراً بتصاريف الدهر وتقلباته- الاستعجال وعدم التقييد. ص 116 .

إنها قراءة معلومة بموقع معين، ويبقى المقبوس متحدياً قارئه في الذي يضمره، ولا إمكان للقول بأن هناك كلمة السر الضائعة وتحتاج إلى من يعثر عليها. فسر الشعر هنا مستمر، وما يقال في أمره يشير إليه دون أن يتطابق معه. وتلك القائمة من الرموز آنفة الذكر تعزز مثل هذه العلاقة الشائكة.

المستوى الإيقاعي

ثمة تقديم يوضح مفهوم الإيقاع هذا المتميز بشموليته ووساعته " ص 121 " وهو قائم في الشعر والنثر، وخاضع للتطور.ثمة الخارجي( مرتبط بالوزن مع تأدية المعنى الذي يحقق الفهم..ص122" ) وثمة الداخلي( هو التفاعل مع مستويات أخرى ضمن مكنونات النص من الرمز والصورة الشعرية والموسيقى والبنيات البلاغية المختلفة، مما تجعل لهذا الإيقاع موسيقى خاصة به.. ص 123 ) .

في قصيدة النثر ثمة المستحدث( قصيدة النثر تشكل موسيقى فريدة في داخل النص.. ص126).

في مثال التضاد، نجد تقابلات، وفي شعر بركات حضور متميز من هذا القبيل، مثل:

مضت البارجة الأولى وعادت أختها

فتلقاها العراة بحديد ليّن كالروح.

يحدد زيرفان دلالات ثلاثاً لهذين البيتين:

الانفعال والغضب- التحدي " وصف الحرب- والخراب..ص141 .

من المؤكد أن الذي يقول لا يصادر عليه، أو يُردُّ إليه، بمقدار ما يسجل المحدد باسمه، ولا لا يجري استملاك النص في هذين البيتين، لأن طريقة استعمال الكلمات وتلك الفراغات ذات الأثر بينهما، في حضورها الزماني- المكاني، تبقي الغربة قائمة، وخاصية البرّية عصية على التسوير معنىً.

إن مجرد قراءة البيت الثاني يضمن مثل هذا اللاتناهي في الممكن تحديده، ولدى بركات وله بمثل هذا الانبناء القولي بالذات، وفض الاشتباك بين قول وآخر تضادياً غير متاح بسهولة، لحظة تقديم الجواب على سؤال مألوف: ماذا يريد الشاعر أن يقول؟ إنما ماذا يمكن قوله دون تأطيره .

هذا ما يمكن التوقف عنده بالنسبة إلى الصورة الشعرية ولا ثبات معناها، في التالي:

جذورك الظلالُ، أيها الطليق كالتعب، والأرض حِبر.

حيث يقول:

( في هذا المقطع المحْكم يخاطب الشاعر ذاته، مخاطبة عدو عدوه، .. تبرز في قوله ( أيها الطليق كالتعب ) دلالة على الاستمرارية في مشهد واقعي وخيالي، ما يناسب إيقاع الصورة بشكل لافت..ص170.

زيرفان، كما هي قراءتي لكتابه لا يخفي لك الذائقة الجميلة في قراءة الشعر، والسعي العنيد، إن أمكن إلى كيفية تجاوز المسافة الفاصلة بين قراءته ونصه، وإلباس الأخير المعنى الذي يعتبره حامله أو المعرَّف من خلاله به . ولكن هل حقاً أن الصورة الشعرية يجاز القول فيها بطريقة كهذه حصراً؟

هل يمكن حصر البيت بجملة من الكلمات بمثابة مكاشفة للمعتبَرة " حقيقتها " المجازية ؟ في ضوء ذلك ليس سهلاً القول بـ" المقطع المحكم " أو " ما يناسب إيقاع الصورة ".. إنه عالم آخر للشاعر، يظل متحدياً كل تأطيراً من جهة، وفي الوقت نفسه يقبل المساءلة حول مدى التفاعل بين جملة وأخرى، ما إذا كان هناك صد أو نفور في العلاقة البينية، في استفسار يخضع منطق بركات الشعري نفسه للاستجواب، جهة نوعية التخيل لديه، وأين يترسخ المعنى أكثر، وهو الذي يشكل علامة فارقة داخلة في نطاق " مصلحة النص " و" سوية القراءة والكتابة " معاً.

أعني أن التباين بين أي كتابة وأخرى يحدد مسار الحوار المثمر، لأنه أصل البحث عن الثغرات، عن وجود ما يحرّك جوهر الحوار، ورؤية المختلَف عليه، ودونه لا يكون للأسلوب من أثر يُذكر.

أي ما يراه الباحث في نص بركات محْكماً، وما يمضي به إلى الثناء عليه، وفي النص المبتكر ينوجد الأسلوب الذي لا ينفتح على عالمه الداخلي، جرّاء فرادته، ومدى قراءته إلى جهد استثنائي، من جهة، وفي الوقت الذي يُشدَّد على أن مفهوم " المحْكم " يأتي من الخارج، الداخل خلافه. المحكم أحادي البعد، لا يروي ظمأ المعرفية بحثاً وتعميق حوار، وكل قراءة تراهن على المحكم تمجيدية، وفي الحالة هذه يكون المقروء مسمى بوصفه متعالياً، والقارىء بعيداً عن رؤيته من الداخل.

المستوى الدلالي:

تشغلنا الدلالة في كل ما نقول ونفعل. وجرّاء ذلك كان هذا الاهتمام بأمرها وتوصيفها ضمن مباحث ثلاثة: طبيعية- صناعية- وحقول دلالية.

في موضوعنا ثمة ما يفيدنا في المتابعة بقول الباحث( هناك علاقة بين دلالة اللفظ وقراءة النص، إن فهم النص يساعد للوصول إلى المعنى الكامن..ص180 )

هل مكّنته قراءته إلى فهم المعنى الكامن ؟

في نطاق الدلالات الثلاث، حال ما سلف من تحديدات بحثية، في المستوى التركيبي- فالإيقاعي، نتلمس تلك الثقة بالنفس، في إرادة منصبة على قراءة مأخوذة بصفتها: الأسلوبية.

كما في حال الدلالة الطبيعية

الطبيعة تقوم بلعبتها عبر مكوناتها، ما ينتمي إلى العالم العلوي( السحاب، البرق، المطر..) وما ينتمي إلى العالم السفلي ( الأرض، النهر، السيل، الهضبة.. إلخ.

الباحث يستخدم في صفحات كتابه عبارة " صور مكثفة " كثيراً، تعزيزاً لعلاقة مع قراءته، كما في:

نامت المياه والغيوم والأرواح ولم ينم هو بعد،

نام الشجر، والسهل، والحكايات،

ولم ينم هو بعد،

نام الغاضبون ، ونام المساء، ولم ينم هو بعد.

ثمة الألفاظ السفلية( المياه، الشجر، السهل)، وثمة العلوية ( الغيوم ، المساء). وهناك ما يترتب على مزيج من ألفاظ ذات دلالات مختلفة، حيث يتحدد: السكون- القلق وتشظي الذات..ص188 .

هذه الصفات تكاد تكون ملازمة لمجمل كتابات بركات. بركات بالكاد يعرف الفرح ويشهره كتابة واضحة القسمات. بالكاد يعرف الهدوء أو السكينة، كما تكون كتابته شاهدة عليه. حياته الكتابية عبارة عن موجز مكثف من السخط، الغضب، القهر الداخلي، الثورَان العنيد، التعرية...إلخ.

يبقى المعضل في طريقة البناء لصرحه الأدبي في الشعر، وحتى في الرواية، حتى في تلك المقالات التي كتبها ولا تخلو من حالة الهجنة بين النثر والشعر.

في موضوع النوم، ثمة الكم الوافر من الدلالات المتغيرة والمستجدة تبعاً لموقع المفردة " فعل الماضي " وبث إشارات عائدة إلى تنوع المواقع عالياً ودانياً. وفي هذا المشهد الذي يكون للطبيعة الحضور الأكبر، تنويهاً إلى الرهان على الطبيعة، إلى البرّية وفعلها الكوني، وثمة إشارة واحدة إلى كائن حي" إنساني ": الغاضبون، وما يدل على الكائن الإنساني " الحكايات "، وإشارة دالة على غائب، ربما لأجله كان هذا الانهمام بفعل الماضي " هو الذي لم ينم ". ثمة قابلية لقول المزيد مما هو شعوري، وإشاري جهة دراسة العلاقة بين اللفظ والآخر.

هكذا الحال مع نموذج آخر

يا الموت، عميقاً، ينحني عليّ،

ليستعيد القناع الذي أعارني،

ليستعيد مراياه، وسبائكه الصلبة،

وفوانيسه التي يهتدي بها إلى ممراته،

ليستعيدني، معافىً كالشكل..

ربما لا كاتب شعراً أو نثراً مثل بركات يكرّر كلمات معينة وفي صفحات أحياناً، من مثل " ليستعيد " ومن يراجع نصوصه من السهل جداً معاينة هذا المسلك لديه.

ليقول زيرفان: يواجه بركات مرة أخرى الموت، كأنه فعل يومي، لا بد يقوم به، أو يقام عليه، يعبّر عنه بألفاظ تدل على الصناعة، في تعبير غير مألوف، فهو ينظر إلى الحياة بعين الموت..ص213.

مقبوسات الشاعر تسمّيه بصفته شاهد الموت على الحياة وبالعكس، جرّاء العالم الذي يعيشه في داخله، وانطلاقاً مما ذكرت عن تلك المؤثرات التي حملها معه، ولازالت مؤثرة فيه: من سخط وغضب ونفور وقهر وتمرد وتعرية ومكاشفة حادة...إلخ.

لا يعود المقدّم باسم بركات خارج المألوف، لأن في أصل الشعر الفعلي ما ينزع عنه أي علاقة قائمة مع المعتاد، وشعره شاهده في ذلك: من يستطيع قراءته بسهولة؟ من يستطيع الاستشهاد بمقبوس مما ذكرت في مجلس عام، وحتى بالنسبة لكثيرين ممن يعرَفون بتحصيل علمي معين؟

ثمة وجود لقارىء لقارىء معين، لناقد معين.. وهذا يذكر بموقفه من الذين قرأوه وكتبوا عنه بالعربية، فهو غير راض من ذلك( ينظَر هذا التقييم الصادم لهؤلاء في " لوعة كالرياضيات ونين كالهندسة... بقول: نقد مستسلم، طيّع، يمشي على الجانب الآمن من أحكامه..)،وهذا يفصح إلى أي مدى تكون غربة الشاعر مركّبة، لحظة الأخذ بموقفه الحاد والصارم هذا: عدم رضاه من جل من كتبوا عنه، والدفع بالمجتمع الذي يتناوله بصيغة شتى في اتجاه واحد، كما لو أن هؤلاء الذي يقرأونه ويكتبون عنه، ينتمون إلى مجتمعه الموصوف بقطيعية معينة، وأنه في قرارة نفسه يعدِم من قرأوه وكتبوا عنه، لأنهم يعجزون عن فك" طلاسمه " أو إبراز مزياه الشعرية بالطريقة التي يريد، وفي هذا الضرب من العلاقة لا يعود من حوار قائم بينه وبين أولئك.

كما لو أنه أحال كتاباته إلى متراس فولاذي لا يُرى بداخله، ولو بنسبة معين وراءه، ليستمر العزل هذا إلى إشعار آخر، وفي الوقت الذي يكتب نثراً وشعراً، ويعلم تماماً أنه موجه إلى قراء معينين، أو هناك من يقرأه، ومن ينتظر قراءته، ومن يتهيأ للكتابة عنه، وتلك عدمية صارخة يعرَف بها بركات في موقف التعالي على قرائه أو نقاده، وربما الشاهد الذاتي على وجود مشكل في القراءة. وهو ما يتناسب ونظرته شديدة الخصوصية إلى الكتابة عموماً، والشعر خصوصاً، وفي وضع كهذا يكون شريك هذا" الإثم " في النقد، أو كما لو أنه ينتظر من قارئه الذي لم يظهر بعد، لينجح في " امتحانه " بالمقاييس التي حددها هو مسبقاً، وما في ذلك من مبالغة، أي حيث يكون إرضاء سليم بركات غاية لا تدرَك أبداً، إن جاز التعبير..

نعم، سليم بركات كاتب كبير وكبير وكبير، لكن هذا الاعتداد بالنفس إلى درجة إقصاء المحيطين به على أنهم ليسوا في مستوى الكتاب أو النقاد الجديرين بالإصغاء إليهم، مشكلة تستشرف أكثر من علاقة بينية، في خللها، له دور في ذلك، ومن هناك يبقى على قارئه أو ناقده أن يقول كلمته، على الأقل ببعض الرضى ضماناً لكتابة قائمة، أما أن يأخذ بما قاله بركات في قرائه أو نقاده، كما لو أن كتاباته لا يمكن أن تقرَأ بطريقة معينة، إلا بتلقي كسمة " السر " منه، ففي ذلك الانسحاب الكامل من العالم أو طرحه سديمياً.

ما كتبه زيرفان أوسي يصيّره ناقداً، وله جهده الجدير بالتقدير، وكتابه يحمل قيمته البحثية والقرائية لمن يقبل على قراءة بركات أكاديمياً، على الأقل، وهو يوفّر عليه الكثير من الجهد في نقاط ارتكازه البحثية، وتفهّم جوانب مؤثرة في عالم بركات الشعري والنثري معاً..

إشارة

زيرفان أوسى: شعرية سليم بركات " مقاربة أسلوبية "- دراسة- منشورات رامينا، ط1، 2023.




مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية