ظهرت موسيقى الـ روكيوكو، وهي عبارة عن قصائد روائية إيقاعية يغنيها مغني بمصاحبة عازف الشاميسن (آلة موسيقية يابانية تقليدية ثلاثية الأوتار)، كشكل شائع من أشكال الترفيه خلال عصر ميجي (1868-1912). يُعرف هذا النوع أيضًا باسم ”نانيوا بوشي“ أو أسلوب السرد الحزين، وقد تطور من الأساليب التقليدية لرواية القصص الشفهية مثل الـ ”جوروري“ التي يعود تاريخها إلى قرون مضت. وقد انضمت إلى فنون ”كودان“ و ”راكوغو“ كأحد أشكال السرد السائدة الأخرى في تلك الفترة، وتمتعت بشعبية واسعة حتى أوائل القرن العشرين.

والعروض عبارة عن فعاليات حية مفعمة بالنشاط والتنوع. ويكون في وسط المسرح الـ روكيوكوشي أو المغني، الذي يقدم حكايات ملحمية ميلودرامية مكونة من مقاطع غنائية إيقاعية (فوشي) وسرديات قصصية (تانكا). ويكون المُغني بمصاحبة الـ كيوكوشي (عازف الشاميسن) الذي يقدم الدعم الموسيقي ويساعد في الحفاظ على الجو الدرامي للعمل ككل. ويستمد هذا النوع من الفنون قائمته الواسعة من الأغاني في الغالب من الأحداث التاريخية والحكايات الشعبية والقصص المعروفة التي تتشابك بشكل غني مع موضوعات مثل الولاء والصراع الذي ينشأ بين الواجب والمشاعر الإنسانية.

مغنية الـ روكيوكو الشهيرة ميناتويا كوريو. (© باسو باسو/ كاواكامي آتشيا)

تراجعت موسيقى روكيوكو في العقود الأولى من القرن العشرين، لكنها عادت بقوة مع بداية عصر شووا (1926-1989)، متأثرة بانتشار الإسطوانات والراديو. وفي عام 1947، كان سبعة من أصحاب الدخل الأعلى في صناعة المواد الترفيهية من مغنيين الـ روكيوكو. وفي أوجها، كان هذا النوع من الفنون يضم حوالي 3,000 مغني، والعديد منهم، أمثال مينامي هارؤ و موراتا هيدييو، واصلوا مسيرتهم المهنية الناجحة في موسيقى الـ إنكا وغيرها من الأنماط الموسيقية.

ومع ظهور أنواع جديدة من المواد الترفيهية وتربعها على مراكز الصدارة في السنوات التي أعقبت الحرب، تلاشت شعبية نجوم الـ روكيوكو. فاليوم مثلًا لا نجد سوى حوالي 100 مغني وعازف شاميسن ما زالوا على الساحة. والعديد منهم يحاولوا الصمود مع مرور السنين، كما هو الحال مع محبي هذا النوع من الموسيقى، مما يثير شبح أن موسيقى الـ روكيوكو سوف تتلاشى تمامًا في نهاية المطاف. وقد أدى إحياء أشكال سرد القصص مؤخرًا إلى تهدئة هذه المخاوف إلى حد ما من خلال غرس المواهب الجديدة في موسيقى الـ روكيوكو وجذب الجماهير الأصغر سنًا إلى العروض.

وابتداء من عام 2014، قامت مخرجة الأفلام الوثائقية كاواكامي آتشيكا بتوجيه عدساتها على موسيقى الـ روكيوكو، وأخذت كاميراتها إلى قاعات الأداء، وغرف التدريبات، وحتى إلى حياة فناني الأداء. وتتويجًا لمساعيها التي استمرت خمس سنوات كان فيلم (زيشّو روكيوكو ستوري) (مع كل نفس عابر)، وهو فيلم يرسم صورة رائعة للفنانين الذين يعيشون في عالم موسيقى الـ روكيوكو الديناميكي. ومن هذا المنطلق تحدثنا مع المخرجة وناقشنا أسلوبها في صناعة الأفلام الوثائقية إلى جانب مواضيع أخرى.

التعرف على الأسطورة

تعترف كاواكامي بأنها لم تكن تعرف شيئًا عن موسيقى الـ روكيوكو حتى تعرفت عليها في إحدى مناسبات الموسيقى الفلكلورية من قبل أحد رواد الحفلة الموسيقية الذي شجعها على البقاء ومشاهدة أسطور موسيقى الـ روكيوكو المغنية ”ميناتويا كوريو“. وبالفعل قبلت كاواكامي النصيحة وأُذهلت بالأداء.

ولدت المغنية كوريو في محافظة ساغا، وبدأت حياتها المهنية مع موسيقى الـ روكيوكو في عام 1945 بينما كانت لا تزال في سن المراهقة. وأمضت أربعة عقود تتجول في البلاد، ولكن منذ أواخر الثمانينيات كانت تظهر في معظم الأوقات في طوكيو ومناطق أخرى في منطقة كانتو. وتقول كاواكامي إن تحمل مشاق الحياة على الطريق أضفى على حكايات المغنية طابعًا قويًا وماهرًا ميزها عن معاصريها المستقرين الذين كانوا يقدمون حفلات منتظمة في المدينة. وتصف كاواكامي قائلة: ”لقد كان صوتها ينبعث من مكان ما في أعماقها“.

وفي عام 2014، قامت كاواكامي بتصوير عرض منفرد للمغنية كوريو، وحولته إلى فيلم مدته 33 دقيقة كان يحمل عنوان ”على أنغام ميناتويا كوريو“. وفي الفيلم حاولت التقاط جوهر الحضور المسرحي لكوريو، لكنها تعترف بصعوبة القيام بذلك وإبرازه من خلال أداء حي واحد. وتشرح قائلة: ”كانت هناك جوانب كثيرة محورية في أسلوب فنها لم تظهر في العمل النهائي. والأشياء التي تحملها بداخلها لا تظهر على المسرح.“ وقد كانت كوريو في هذه الأثناء في أواخر الثمانينيات من عمرها عندما بدأت كاواكامي بالتصوير، الأمر الذي أضفى مزيدًا من الشعور بالإلحاح على المخرجة لتوثيق أكبر عدد ممكن من العروض.

المغنية ”كوريو“، على اليمين، تعانق عازفة آلة الشاميسن ”ساوامورا تويوكو“ بعد أحد العروض. (© باسو باسو/ كاواكامي آتشيكا).

الاقتراب

أثناء تصوير فيلم ”مع كل نفس عابر“، وسعت كاواكامي من تركيزها على ”كوريو“ ليشمل تقديم مجموعة غنية من الشخصيات المشاركة في موسيقى الـ روكيوكو. ومحور القصة هي ”كوسوميه“، تلميذة كوريو الأصغر، التي كانت تجوب الشوارع سابقًا بموسيقاها، وتبدأ أحداث الفيلم وهي لا تزال تتعلم مداخل ومخارج موسيقى الـ روكيوكو.

وخلال التصوير، تقول كاواكامي التي كانت تراقب عن كثب: ”أردت أن أظهر العلاقة الوطيدة بين المشاركين في موسيقى الـ روكيوكو. وأحد الأمثلة الدالة على ذلك يظهر في مشهد مبكر في شقة ضيقة مكونة من غرفتي نوم للمغنية المخضرمة ”تاماغاوا يوكو“. وعلى الجانب الآخر تقيم ”كوريو“ في إحدى الشقق الواقعة على مشارف طوكيو عندما كانت ترتحل إلى العاصمة من منزلها في محافظة آيتشي. وتعكف ”كوسوميه“ هي الأخرى على زيارة تاماغاوا بانتظام، وتأتي للتدريب معها، ونرى كلتهما مستغرقتين في أحد الدروس الموسيقية.

وتوضح كاواكامي قائلة: ’’كانت كوسوميه تلميذةً لدى كوريو لمدة قاربت العام في هذه المرحلة، وكانت حريصة على تعلم المزيد عن موسيقى الـ روكيوكو.‘‘ واستمرت المخرجة مدفوعة بحماسها الذي كان يدفعها للأمام، جاعلة عدساتها مصوبة تجاه الثنائي، قائلة ”في بعض الأحيان شعرت كما لو كنت جزءًا من الدرس“.

تاماغاوا يوكو، على اليمين، تقوم بإرشاد كوسوميه في شقتها في حي أكابانيه. (© باسو باسو/ كاواكامي آتشيكا)

وتاماغاوا التي بلغت العام المائة من عمرها في 2022، هي إحدى الشخصيات الرئيسية الأخرى في الفيلم. وهي أرملة مغني موسيقى الـ روكيوكو ”تاماغاوا موموتارو“، وهي أقدم عازفة في مسرح الـ موكوباتي الواقع بحي أساكوسا بطوكيو، وهي قاعة موسيقى الـ روكيوكو الوحيدة المخصصة في اليابان. وهي تتمتع بمسيرة مهنية تمتد لثمانية عقود، وهي حلقة وصل حيوية لتاريخ وتقاليد فن السرد.

تاماغاوا، التي بلغت 100 عامًا في عام 2022، هي إحدى الشخصيات الرئيسية في الفيلم. كأرملة للفنان المشهور تاماغاوا موموتارو، تعتبر أكبر سنًا فنانة أداء في مسرح موكوباتي في حي أساكوسا في طوكيو، وهو أحد أقسام الروكيوكو المخصصة في اليابان. تتمتع بمسيرة فنية تمتد لثمانية عقود، تشكل وصلة حيوية مع تاريخ وتقاليد فن السرد.

وتبدأ أحداث الفيلم في منتصف عام 2010 وتظهر العديد من عروض كوريو اللاحقة. وعلى الرغم من كبر سنها وتقدمها في العمر وتدهور صحتها، إلا أن المغنية المخضرمة لا تزال قادرة على أسر الجماهير بأدائها النابض بالحياة والممتع.

نهاية مسيرة طويلة

مهما طال الزمان فالنهاية حتمية للجميع، وكذلك هو الحال مع كوريو. ففي إحدى اللحظات المؤثرة، تعترف أنه بعد 70 عامًا من العمل كفنانة موسيقية، وصلت مسيرتها المهنية إلى نهايتها وتقرر الاعتزال. وتروي كاواكامي أنها صُدمت من هذا التحول المفاجئ في مسيرتها، واصفة قرار كوريو المؤلم بأنه ”لحظة تاريخية“.

كوريو تتحدث مع قطة تاماغاوا آن-تشان. (© باسو باسو/ كاواكامي آتشيكا)

ولاحقًا، تسافر كاواكامي مع كوسومية إلى مدينة إينوياما لزيارة كوريو التي تدهورت صحتها. ولرفع معنويات معلمتها طريحة الفراش، تُشغل كوسوميه أحد أشرطة الكاسيت لأحد عروض كوريو القديمة. وعلى وقع أنغام الشاميسن والغناء القوي لكوريو، تنتشي وتبدأ بتحريك يديها في وهن مع قسمات الموسيقى.

مجموعة لعروض كوريو القديمة مسجلة على شرائط الكاسيت. (© باسو باسو/ كاواكامي آتشيكا)

وتقول كاواكامي التي تأثرت للغاية بتلك اللحظة. ”بدأت رحلتي بتوثيق أعمال ”كوريو“، فنانة موسيقى الـ روكيوكو، مؤكدة على اسمها الفني الذي عرفها به جمهورها، إنما الشخصية الراقدة هناك، هي ”إيواهاشي توشيء“، لم تكن أبدًا جزءًا من تلك القصة“. لذلك اكتفت كاواكامي بتلك اللحظة فقط. ”فعندما بدأت بتحريك يديها على أنغام الموسيقى، بدا الأمر كما لو أنها استعدت حضورها على المسرح. لقد ارتقت مع ظهور كوريو إلى عنان السماء“.

تسليم الراية

تقول كاواكامي أنها مع مرور الوقت حولت تركيزها تدريجيًا من كوريو إلى التلميذة كوسوميه. لقد تنبأت بهذا التغيير من خلال لقطات تم التقاطها لكوسوميه وهي تعزف على طبلة ثلاثية الطبقات يستخدمها موسيقيو ”تشيندون-يا“ في مشهد تم تصويره في متنزه ”هارومي وارف“ بطوكيو. ويبدأ الفيلم بهذه الصورة، وتعود إليها كاواكامي لاحقًا - وهي اللحظة الوحيدة التي يتم فيها تعطيل الجدول الزمني للفيلم الوثائقي كوسيلة سردية للإشارة إلى ظهور دور كوسوميه.

تقدم كوسوميه عروضها في متنزه ”هارومي وارف“ بطوكيو. كانت قد بدأت بمفردها كعازفة لموسيقى الـ تشيندون-يا في عام 1997، وفي عام 2013 بدأت في دراسة موسيقى الـ روكيوكو على يد الفنانة كوريو. (© باسو باسو/ كاواكامي آتشيكا)

والمخرجة لا تذكر كيف جرت الأحداث مع كوريو. وبدلاً من ذلك، تستخدم لقطات لكوسوميه وهي تمشي بمفردها في الشوارع الفارغة وتنظر بشوق إلى أشجار الكرز في فترة إزهارها الكامل للإشارة إلى مصيرها جنبًا إلى جنب مع حالتها الذهنية وهي تمضي قدمًا بإصرار على الرغم من فقدان معلمتها.

كانت تاماجاوا قد بدأت بالفعل في تولي تدريب كوسوميه عندما اعتزلت كوريو المسرح، ويركز النصف الأخير من الفيلم على هاتين الشخصييتن. وتقول كاواكامي: ”مع التطور الطبيعي للأحداث، تصبحان هما محور قصة الفيلم. الأمر الذي يشير بالنسبة لي إلى كيفية بقاء المجتمع واستمرار روح هذا النوع من الفن.“

رسالة الصمود

وبأسلوب ”نانيوا بوشي“ (أسلوب السرد الحزين) المثير للدموع، تنتهي القصة في عام 2019 مع ظهور كوسوميه رسميًا لأول مرة في مسرح موكوباتي باعتبارها مغنية معتمدة لموسيقى الـ روكيوكو. وعلى الرغم من أنه لم تكن هناك مؤشرات تذكر عندما بدأت كاواكامي مشروعها قبل ثماني سنوات على أنه سينتهي بمثل هذه اللحظات الدرامية، إلا أنه بحلول نهاية الفيلم يبدو الأمر كما لو كان نتيجة حتمية تقريبًا. إلا أن كاواكامي تصر على أن هذا لم يكن بتدخل منها، بل الانسياب الطبيعي للأحداث. ”لقد قمت فقط بتوجيه ما رأيته إلى الفيلم“.

تشارك تاماغاوا كوسوميه بالزي الأزرق على اليمين، أثناء ظهورها الرسمي لأول مرة في مسرح موكوباتي. (© باسو باسو/ كاواكامي آتشيكا)

وتقول كاواكامي إن ما بدأ كرغبة في توثيق فنانة أسطورية تحول إلى دراسة لعالم موسيقى الـ روكيوكو. إلا أنها وهي في خضم ذلك وجدت أن هذا العالم يترنح من الموت المفاجئ للنجم كونيموتو تاكيهارو، وهو عضو في الجيل الأصغر من فناني الأداء. وجنبًا إلى جنب مع كوريو وكوسوميه، قامت بتوثيق فنانين مهمين آخرين مثل مخضرمي عازفي الشاميسن ساوامورا تويوكو و تاماغاوا نانافوكو، والموهبة الصاعدة ساوامورا ميفونيه، الذي يضيف إلى فن السرد.

وقد قامت كاواكامي ببراعة بتحرير وإعداد كم هائل من اللقطات والمقاطع التي صورتها، والتي تبلغ مدتها حوالي 200 ساعة، لتحويلها إلى فيلم وثائقي جذاب مدته 111 دقيقة، وهي مهمة ساعدها في تنفيذها حالة الإغلاق العام للأنشطة المجتمعية التي حدثت أثناء اجتياح فيروس كورونا، الأمر الذي أتاح لها المزيد من الوقت للتركيز على عملها.

وتقول: ”لقد أمضيت ثماني سنوات من حياتي في صناعة الفيلم. لقد كان عملًا مكثفًا ومهمة حقيقية ذات معنى أن تكون منخرطًا بشكل وثيق مع الناس ومع حياتهم.“ إنها سعيدة برد الفعل على الفيلم حتى الآن والتأثير الذي يحدثه على الجمهور. ”آمل أن يلهم هذا شخصًا ما للذهاب إلى قاعات المسارح والاستمتاع بموسيقى الـ روكيوكو بشكل مباشر. وفي عصر الاتصالات والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لا تزال مثل هذه الأماكن تقدم تجربة حقيقية لمشاركة طاقة الآخرين“.

اللافتات ترفرف خارج مسرح موكوباتي في حي أساكوسا. (© باسو باسو/ كاواكامي آتشيكا)

المصدر: نيبون 




مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية