حين أصدر مارشال ماكلوهان كتابه «فهم وسائل الإعلام» تحول من أكاديمي مغمور إلى نجم، في أوائل الستينات من القرن الماضي، كان الكتاب بما حوى من تكهنات وأفكار معقدة حصيلة مثالية لفترة الستينات. كان الكتاب في جوهره نبوءة - كما يقول نيكولاس كار في كتابه «السطحيون.. ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا» - تتعلق باضمحلال التفكير الخطي، إذ أوضح ماكلوهان في كتابه بأن «أجهزة الإعلام الكهربائية» في القرن العشرين من هاتف ومذياع وأفلام وتلفاز كانت قد بدأت في تحريرنا من النصوص المكتوبة التي استبدت بأفكارنا وحواسنا، لنصبح شيئاً فشيئاً كياناً واحداً، بعد أن كنا أفراداً منعزلين ومشتتين، كل منا حبيس قراءته المنفردة للصفحات المطبوعة، فأخذنا نندمج في قرية قبلية واحدة على مستوى العالم، ندنو شيئاً فشيئاً من «محاكاة تقنية للوعي تمتد من خلالها عملية المعرفة الإبداعية بشكل جماعي ومؤسسي إلى كافة المجتمع البشري». 

كان ماكلوهان قد كتب: «إن التقنية الكهربائية عدو مستتر ونحن لا نحس ولا نسمع ولا نرى ولا نتحدث عن تقاطعها مع تقنية مطبعة جوتنبرج التي نشأ عليها ومن خلالها أسلوب الحياة الأمريكية» كان ماكلوهان يعتقد أنه كلما ظهرت وسيلة إعلام جديدة ننشغل بطبيعة الحال بالمعلومة أو المحتوى الذي تنقله تلك الوسيلة. 

وجاءت شبكة الإنترنت – كما يوضح نيكولاس كار في الكتاب الذي ترجمته إلى العربية وفاء يوسف - لتكون أخر وسيلة تثير هذا الخلاف، واحتدم الصراع بشكل أكبر من أي وقت مضى بين المتحمسين لفكرة الشبكة والمشككين بها، وجرى هذا الخلاف في عشرات من الكتب والمقالات وآلاف المدونات المكتوبة والمسموعة ومقاطع الفيديو، عبر فيها المتحمسون عن استبشارهم بعصر ذهبي، لإمكانية الوصول إلى المعلومة ومشاركتها.

بينما أسف المشككون على بدء عصر ظلام جديد يتسم بالضحالة والنرجسية، وكان النقاش ذا أهمية، إذ إن المحتوى مهم بالفعل، إلا أن هذا النقاش كان مبنياً على أيديولوجيات وأذواق شخصية، وصلت به إلى طريق مسدود، فغدت الآراء متطرفة، والهجوم مشخصناً، إذ يهزأ المتحمسون بالمشككين، ويتهمونهم بمناهضة التطور التكنولوجي، والتشاؤم المفرط، ومن جهة أخرى يسخر المشككون من المتحمسين، وينعتونهم بعديمي الثقافة، والمتفائلين أكثر من اللازم.
لم يتمكن أحد من التنبؤ بمأدبة الطعام، التي وضعتها شبكة الإنترنت أمام أعيننا، ومع صغر حجم أجهزة الحاسوب المرتبطة بالشبكة، أصبحت المأدبة متنقلة ومتاحة في أي زمان وفي أي مكان، فهي موجودة في منازلنا ومكاتبنا وسياراتنا وفصولنا الدراسية وحقائبنا وجيوبنا، حتى إن الأشخاص المتحفظين تجاه التأثير المتزايد لشبكة الإنترنت نادراً ما يدعون مخاوفهم، تحول بينهم وبين استخدام التقنية والاستمتاع بها.
يرى المؤلف أنه من الصعب مقاومة مغريات التقنية، وقد تبدو منافع السرعة والكفاءة في عصر المعلومة الفورية، منافع لا تشوبها شائبة، ولا مجال لمناقشة مسوغاتها، ويمثل هذا الكتاب نقطة تحول في مسارات البحث الأكاديمية، التي تتناول المجتمع الرقمي بشكل عام، وشبكة الإنترنت بشكل خاص، فقد وصل إلى القائمة النهائية لجائزة البوليتزر عام 2011 إضافة إلى تحقيقه لأعلى المبيعات، في دول عدة، علاوة على ترجمته إلى أكثر من عشرين لغة.
كما أثار الكتاب منذ صدوره ضجة إعلامية كبيرة، فقد تناول المخاطر المحدقة بالإنسان في ظل الإنترنت والمجتمعات الرقمية التي أبعدت العالم عن واقعه المادي الملموس، وزجت به داخل عالم رقمي، مسيج بالأوهام والأمراض والاستلاب، التي ستظهر في استعمالاتنا اليومية لشبكة الإنترنت.
ويعاين الكتاب التطور الكبير الذي شهده العالم، بفضل الحوسبة، وآثار ذلك في الصحة العقلية للإنسان، مستدلاً في جميع أفكاره على حجج منطقية وعلمية، لا تخرج سياقاتها عن الواقع، ولا تخلو من نظرة استشرافية لما سيحدث في المستقبل.

المصدر: صحيفة الخليج 

الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).