رامي العاشق

في مجتمع أبويّ، تتحوّل العلاقات بين الناس إلى علاقات مركّبة ومعقدة، تبدأ تعقيداتها من العائلة. كيف يصبح مفهوم العائلة في المجتمع الأبوي؟ كيف تتشكل الهرميّة التي تدير هذه العلاقات؟ يولد الأفراد في مجتمع كهذا مبرمجين على وجود من هو “الكبير” الذي هو بالضرورة صاحب السلطة والقدرة، الأب، الأخ الأكبر، وهكذا حتى تصل إلى الديكتاتور الأكبر، هذه العقلية ديكتاتورية بالتأكيد، وتضعنا أمام أسئلة جدلية، من الذي خلق الديكتاتور؟ هل الديكتاتوريات هي التي خلقت المجتمعات الأبوية؟ أم أن الديكتاتور هو ابن هذا المجتمع؟

تشكل هذه الأسئلة نواة العمل المسرحي “يا كبير” للمخرج السوري رأفت الزاقوت، ومن تأليفه بالتشارك مع أمل عمران، الذي يعرض حاليًا في أكثر من مدينة أوروبية وألمانية.

نحن أمام عرض مسرحي “جدلي، استفزازيّ بعض الشيء، يغلق دائرة الحوار، ويفتح باب الأسئلة: من القاتل؟ ومن القتيل؟ من الضحية؟ ومن الجلاد؟ وهذا يخلق عدم راحة في تقبّل العمل، هناك مشاهد تحمل طاقةً من الغضب والدم، مع أعمال بصرية تحمل هذه الأفكار” يقول المخرج رأفت الزاقوت.

“يا كبير” هو العمل الثاني لمجموعة “مقلوبة” وهي مؤلّفة من المخرج رأفت الزاقوت (برلين)، الممثلة أمل عمران (باريس)، الكاتب مضر الحجي (برلين). اجتمع ثلاثتهم حين أعلن مسرح (أن دير رور) عن منحة إقامة فنية، وقرروا التقدم لهذه المنحة معًا، وكانت فرصة مهمّة تتضمن التجهيزات والمكان والمتطلبات اللوجستية لمدة عامين. “سمّيناها مقلوبة، نسبةً للطبخة الشاميّة، كذلك كنايةً ساخرةً عن قلب كل شيء، القلب هنا يعني التقليب والبحث” يقول الزاقوت.

“يا كبير”، فكرة تحتمل السخرية والتهديد، تقولها لصديقك ممازحًا، لله شاكيًا ومستعينًا، لمن تخاف منه توددًا، ولأبيك احترامًا، “من هنا انطلقت فكرة الأبوية، في مجتمع تقوده فكرة السيطرة والسلطة، وهذا أمر بشري لا يرتبط فقط بمجتمعنا، المسرحية تعالج فكرة ’اليا كبير’ وتدخّله في حياتنا”. يعمل الأب ضابطًا كبيرًا في المخابرات، وهو متورط بالدم المسفوك في البلد، يأتي خبر وفاته إلى أبنائه الذي يعيشون في المنفى، تقرر الابنة (أمل عمران) العودة إلى سوريا، ويمنعها الأخ (حسين مرعي)، وهو فنان تشكيلي. يلتقي الأخ بأخته، ويبدأ الماضي بالظهور على السطح: علاقة الأب بالأبناء، التشويه الذي يطرأ على الطفولة، مرحلة من مواجهة الماضي، تنتهي باغتصاب الأخ لأخته، التي ستقتله بعدها وتنتحر، “مشاهد قاسية، تشبه ما يجري في سوريا” يقول الزاقوت، ويكمل “لا أدري إن كانت هذه الجملة ستزعجك ولكن: الديكتاتور نحن، ونحن الديكتاتور”.

بعد 2011، كثير من العائلات السورية انقسمت، مع أو ضد النظام، مع أو ضد الثورة، مع أو ضد الإسلاميين، مع أو ضد السلاح، وهكذا، بعد سبع سنوات، لا يستطيع عمل مسرحي بممثلَين اثنين أن يلمّ بما جرى، “ما يحدث في سوريا، يحتاج كتبًا وأعمالاً ومؤلفات، هذه مجموعة من التساؤلات الصغيرة التي تراودني خاصة بعد عام 2015، تضيء على بعض الزوايا المسكوت عنها في علاقاتنا كبشر، وهي ما يتراكم ويصل إلى مآلات دموية وتراجيدية” يقول الزاقوت.

يمكن القول إنّ “يا كبير” متأثر بالتراجيديا اليونانية، ولكنه يقدمها بطريقة أبسط للمشاهد، بلغة محكية بسيطة ولكنها مكثّفة، ولو أن البيئة التي يدور فيها العمل هي بيئة نخبوية، فالأخ فنان تشكيلي، وهذا يتقاطع مع العمل السابق للمجموعة  “حبك نار” الذي تناول شخصية كاتب مسرحي، والعمل القادم سيتناول شخصية ممثلة. إذن، نحن أمام أعمال تتناول أسئلة الطبقى الوسطى أو المثقفة، بلغة بسيطة ويومية، “تناول هذه الشخصيات سلاح ذو حدين، فمن الممكن أن تكون الأسئلة قوية، تشبهك لأنك من هذا الوسط، ومن الممكن أن تكون منفصلة عن المجتمع، وهذا يحتاج جهدًا مضنيًا، فهو أمر مخيف أن توصم بالنخبوية” يقول الزاقوت. ويستدرك: “ولكن بناء النص على أسئلتي الذاتية، يلزم، دراميًا، أن تكون الشخصيات شخصيات كتاب أو فنانين أو من الطبقة الوسطى لتسطيع طرح هذه الأسئلة”.

مع خروج الفنانين السوريين من وطنهم، واقتلاعهم من جذورهم، أصبحوا أمام أسئلة وتحديات جديدة، منها سؤال الجمهور، هل يتوجهون اليوم إلى جمهور أوروبي أم عربي؟ يقول رأفت الزاقوت: “كنت أهتم بذلك في البداية، أما الآن، فلم أعد أفكر بالموضوع، هذا عمل فني مسرحي، يطرح أسئلة تهمّني كسوري، في قالب فني قد يكون عالميًا، في النهاية، كل شخص ينظر من زاويته، ولكن هذا يُغنِي، ويجعلك تبني جمهورك بيديك، تحديدًا إن كنت تفرض ذائقة جديدة، فنحن البشر مختلفون بذائقتنا، كيف نكتب الشعر، كيف نقدم المسرح، كيف نلبس، كيف نأكل، كيف نتحرك، كيف تكون لغة جسدنا… مختلفون، ولكنك حين تصنع شيئًا جديًا، فأنت تصنع جمهوره معه”.

وكيف هو جمهوركم؟ “في ’حبك نار’، بعض السوريين اعتبروا العرض جريئًا جدًا، لأن فيه مشاهد جنسية، وليس لأنه جريء بالطرح، بعضهم أحبّ بانزعاج، بعضهم كره، بعضهم أحبّ بشكل عاطفي، بعضهم تفهّم بشكل عقلاني، وهناك اثنان أو ثلاثة غادروا المسرح لأن هناك “مشهدًا إباحيًا”. وعن مشهد انتحار الكاتب في مسرحية ’حبك نار’  كان الممثل عاريًا، فكتبت صحيفة ألمانية أننا نستغل الحرية هنا. هناك نظرة فوقية، يجب كسرهها، وتكسر في فرض أنفسنا كأنداد”.

بني النص على أربع صفحات من يوميّات كتبتها أمل عمران، ثم تطور، “خروج النص من الذاتي إلى العام يشبه خروجنا كسوريين من بلدنا الصغير إلى كل أنحاء العالم.” ولكنّ هذا الخروج يجعلك مكشوفًا، عاريًا، ينظر إليك الناس في الشارع والمطعم والدكّان، وهذا ما يجعل المجتمع الأبوي الذي جاء منه السوريون أكثر انكشافًا وعريًا، “يثير غضبي سؤالي: هل تريد تغيير نظرة العالم عن اللاجئين، أو السوريين، هذه ليست وظيفة الفن! حالة الاغتصاب وسفاح القربى هي حالة منتشرة في كل أنحاء العالم، وهي غير مرهونة بمسلم أو مسيحي أو شرقي أو غربي، هذا كلام ضيّق! هذا مسرح متأثر بالتراجيديا اليونانية، (ميديا) قتلت أولادها، (أوفيليا) عشقت رجلاً مجنونًا كهاملت، وهو قريبها! هذه حالات تتكرر، وكما ذكرت لك، هذا عرض استفزازي بعض الشيء، لنرى ماذا سيفعل”.

تخرّج رأفت الزاقوت من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق عام 2003، ومنذ تخرّجه إلى عام 2011، كان في رصيده أكثر من خمسة عشر عملاً مسرحيًا قدمهم في أهم مسارح دمشق، يعيش اليوم في برلين منذ 2015، طرأ تغيّر على أسئلة المسرح لديه: “توسعت أكثر، فقد كانت تراعي الرقيب، وهو العائلة والأصدقاء والمجتمع والسلطة والدين، بعد 2011 تغيّر الحال، أصبحت الأسئلة أكثر حرية، فقد هزّت الثورة مفاهيم كثيرة، وأصبح ممكنًا اليوم أن نتحدث عن السلطة الدينية والاقتصادية في دمشق قبل عام 2011 على سبيل المثال”. هذا الأمر يشغل رأفت الزاقوت كثيرًا، فالعمل الثالث ضمن هذه الثلاثية، سيتناول مرحلة السنوات العشر قبل 2011 تمامًا، بدءًا من استلام بشار الأسد للسلطة، وسيبحث في تزاوج السلطة الدينية المتمثلة بالقبيسيات، مع السلطة الاقتصادية المتمثلة في تجّار حلب ودمشق، مع السلطة المخابراتية.

تواجه مجموعة “مقلوبة” بعض العقبات، منها ما هو جغرافي، فأمل عمران تقيم في فرنسا، وحسين مرعي في إيطاليا، وهذا ما يخلق تكاليف أكبر في التدريبات، ولا يسبب استقرارًا لمن هم بالأصل في المنفى. كذلك ثمة صعوبات أخرى مثل قضية الشروط التي تفرضها الجهات الرسمية “عرض علينا أن نقدم ’حبك نار’ في الصين، ولكنهم طلبوا منا حذف بعض الأعمال البصرية لما فيها من إشارات كبيرة لما يجري في سوريا، ولكننا بالتأكيد رفضنا.” وماذا عن ألمانيا؟ “لا توجد شروط كهذه في ألمانيا، ولكن هناك منغّصات من قبيل ’اشتغلولنا شي عن اللاجئين’ هذا مزعج ولكننا نستطيع التعامل معه. لقد أوقفت عقدًا مع أحد المسارح لأنهم يريدون توجهًا معينًا، تحديدًا في قضية اللاجئين، أنا لاجئ، ولكنني فنان، لست متخصصًا بموضوع اللاجئين، لدي أسئلتي وأفكاري وحواسي، وهذا الخلط بين الفن والعمل الاجتماعي مزعج”

(مجلة فن)

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).