تتقدّم الرواية بنصها بعيداً عن أي نقطة مركزية فيه. إنها منيعة حتى على كاتبها، إن أراد تحديداً نقدياً لها، انطلاقاً من نقاط قوة تتقاسمها، ولكلّ منها اعتبارها، مهما بلغ درجة من الضآلة في الدور والأثر، فما تغيّبه داخلها، وما للداخل من وساعة غير مؤطَّرة ، لا تنفد قراءة، يشدها إلى المستقبل الذي قد يكون بعيداً، تبعاً لتيمة الإبداع فيها، مهما اُدّعيَ أنها ترضع من " حلَمة " الماضي، وهي لا تنفك تنمو وتزداد حجماً ودلالة ومأثرة فن، في عهدة مستقبل مفتوح أفقاً .

في ضوء هذه المعاينة البحثية- أساساً- للرواية كفن أدبي، من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، الإقرار بوجود سرد، كما هو المفهوم المتداول عنه في الأعمال الروائية لسليم بركات. هل هذا يعني أن سليم بركات يعمل على الضد مما هو سردي معهود؟

كيف يمكن للخطاب الروائي أن يعرّف بنفسه، بعيداً عما هو قائم سردياً؟

وإذا افترضنا أن لكل نموذج كتابة روائية أسلوباً يضيء محتواه، فأي أسلوب يعرّف به روائياً؟

إن ما أحاول النظر فيه، هو إمكان تناول روايته " هؤلاء الصغيرات وأكياسهن الورقية " من الزاوية الأكثر انفراجاً، ومن منظور مفهوم أتقدم به، وهو " الاستدراج " وهي حيلة فنية، برع فيها صاحب " كل داخل سيهتف لأجلي..." و" فقهاء الظلام " و" الريش "..إلخ، حيلة تكاد تسمّيه كثيراً، يجري فيها امتحان السرد كمفهوم شائع في الدراسات النقدية الأدبية، وتطبيقاتها الروائية خصوصاً، ويكون السرد هذا في مواجهة صورته، وتعريفه، ودوره في نسْج النص الأدبي، وما يصل هذه الرواية بنماذج روائية أخرى له، وإخراج القارىء من نوعية القراءة المعتمدة، والتي تشده إلى النص بطابعه الحلقاتي عموماً، حيث يصعب الربط بسهولة، بين فقرة وأخرى، ومغزى هذا الإجراء في الكتابة، وإلى أي درجة تثير تداعيات تخيلية لدى قارئها ومدى تأثيرها جمالياً.

طي الأكياس الورقية 

ماالذي يمكن تبيّنه في رواية " هؤلاء الصغيرات وأكياسهن الورقية " "1 "

في كتاب حواري مع بركات، أشار إلى دور مفهوم" المأزق " في تسطير ما يكتب( لا أبدأ إلا من مأزق. وكل كتاب لي هو مأزق أرمي بنفسي فيه ...الكتب تفترس الرضى عمّا كان، وما سيكون، في مطالعها وخواتيمها ) " 2 "

وما يؤكد هذا التوجه لديه( الرواية عراك القارىء مع حظوظه على جبهات كثر. والخاتمة " خطة ". ص ) " 3 " .

نعم، هي الحال كذلك. ولعلها من البداهات الكبرى، أن كل كتابة تندرج في نطاق فكري، أدبي، وعلمي، لا بد أن تكون هناك مشكلة، هي مأزق " خميرة " الكتابة هذه. ولعل بركات فيما أفصح عنه، أراد أن يشير إلى ما يعنيه بمفهوم " مأزق " خلاف سواه، وما يشغله في كل كتاب خلاف ما يشغله في كتاب تال، وما كان يشغله في كتاب سالف.

بالطريقة هذه، ربما، تكون قراءة بركات صعبة، تحدّياً لقارئه مع نفسه، في كيفية الدفع بنفسه، وهي على مقدرة من الزاد المعرفي القرائي تحديداً، والقدرة على قراءة نص كاتبه .

ولئلا يجري أسْره بلغته، وكأنها تعنيه لغة وسرْداً بالمفهوم الشخصي، لا بد من مقاومة قادرة على إبقاء مسافة ضامنة لهذه العلاقة الأدبية والنقدية، حيث يجري النظر في نصه هذا أو ذاك، وليس في صورته وهي تنعكس على مرآته وتغيّب بنْية نصه ذي العوالم، وما في ذلك من تحرّر من سطوة الغواية الشخصية للكاتب، كما هو المعهود في كمّ مريع من تلك المعتبرة قراءات في أدبه: شعراً ورواية، وما لذلك من تمثيل تحريفي للأدب وكأنه تجويد للنص الديني في حضرة شيخه.

سأحدد طريقتي في قراءة ما أفصحَ عنه بركات، من خلال النص الروائي، ومن الزاوية المحددة عنواناً رئيساً للمقال- البحث، لأنوه إلى أن بركات يدفع بمفهوم المأزق إلى قارئه المرتقب، ليعيشه، لا بل لينظر في أمر نفسه، وحدود تمكنه مما يقرأ وما يقول عما يقرأ.

بركات يمارس انبعاثاً مستمراً في كتاباته، ومن خلال النظر إلى الواقع بمرآته الخاصة، حيث يركّب عليها تصوراته بخاصيتها الغاية في الترميز وفي التعقيد أحياناً، مواجهاً الواقع الصلد، فارضاً عليه سلطته الرمزية في حيازته إليه. إنه يشد إليه الواقع، وهو ينسجه بلغته المرمزة .

يكون واحداً، وليس واحداً. في الواحد الكلي، يتلاشى الجمع الكلي، ولديه ما يمنح الواحد انتشاراً وداخله ما يعتبره الجمع الكلي، بلغته، وسعياً إلى تحفيز إرادة القراءة تجاهه،لتلمس عالمه. ربما أكثر من ذلك، وأنا مازلت في البداية، أن بركات أودع كتابتَه عائداً خلودياً في جمعها : شعراً ونثراً، ما يشكل تحدياً لمن حاولوا ويحاولون مأزقته واقعاً له تاريخه، كردياً وغير كردياً تالياً، ليكون أكثر تعبيراً عما يصله بالواقع الذي يتنكر له بمعايير كتابته، ورؤيته الفنية. ما هو منتصر في الواقع بخاصيته السياسية والمبتذلة بامتياز، يعرَّى، ويضاء،لقول الأبدي، وما يذكّرنا ذلك بقول البيريس ( الرواية بديل عن الموت ) " 4 "

لا بد أن كل ما مأخوذ كتابة، باسم الفن، باسم الأدب، باسم أي كتابة فكرية فعلية، يتـوخى من ورائها الخلود. وما يُترجَم إليه الخلود جهة المقاومة لمن يريدون تخليد أنفسهم على الأرض، ضد أولئك الذين يكونون من وجهة نظرهم رعاعاً، هامشيين، ممن هم في السلطة ومن في حكمهم. هكذا تأخذ الكتابة مداها المجدي والمرضي لكاتبها، في عجْن الواقع بمعيار الفن .

بركات يمارس صهراً لما هو تاريخي ولما هو جغرافي، وما يجعلهما دفّتي كتابه، وهو يشغلهما بما تتفتق عنه قريحته، فالرواية هنا صنيعة لغة الآتي، وبلبلة ما كان، وهو مختزل.

في روايته هذه،عالم يصل في الكثير مما يكوّنه أسلوباً بما كتِب سابقاً

نقرأ عن تاريخها ، كما هو مكتوب على الغلاف، وبكتابة قامشلو " القامشلي " الطريقة المغايرة، وذات الدلالة في معناها وفحواها لما هو معتمد لدى بركات في الداخل، ومقام الاسم هكذا على الغلاف في سطوره العديدة: مدينة القامشلي السورية سنة 1962، فتيات صغيرات من عائلتين يتشاركن في جمع أكياس الإسمنت الفارغة، يفصلنها من جديد أكياساً صغيرة يبعنها للدكاكين.... عالم بسيط محمول على ثرثرات هي فهمهن للوجود بسيطاً وفهمهن للحياة متعلقة بعْد بعناصرها الريفية من التفاصيل الرهيفة، والفاتنة، والطريفة .

تحددت الجغرافية بدورها، ولسنة 1962 عالمها السياسي والاجتماعي المضطرب في سورية، وقد كان عمر الكاتب حينها " 11 سنة ، كونه من مواليد " 1951 "،وما جرى بناؤه فنياً، وبعد ستين عاماً، يثير أكثر من سؤال عما يخص ذائقة مخياله ومجهوده التذكري وأبعاده المختلفة.

وكعادته في مستهل رواياته، يشار إلى الشخصيات ومواقعها بأسمائها وأعمارها ، والمهمة هنا:

زلفو 15 سنة، صانعة أكياس، كميلا: أختها. 14 سنة، هدلا، أختها، 13 سنة، كامل: أخوها، 11 سنة، هاديا ، أم زلفو، 31 سنة . يونس محسوب، والد زلفو، 33 سنة .

سبحان: شريكة زلفو، صانعة أكياس، 16 سنة، فوزو، أخت سبحان، 13 سبحان، عبدالباسط، أخو سبحان، 18 سنة،صافي، أخو سبحان، 5 سنوات، سربند، أخو سبحان، 3 سنوات، وتفا، أم سبحان، 35 سنة، سردار مُلا بًروان، والد سبحان 39 سنة .

إدريس كالوا، جار عائلة زلفو، 48 سنة ,,

دجاجات كثر، بقرة واحدة، معزاة واحدة...

شخصيات كردية، والأدوار التي ترسم حدودها، وخطوط تفاعلها اجتماعياً معبّرة عنها، إنما كما أراد لها بركات، وكما وجّهت من قبله بالذات كثيراً، في تمثيل عوالم مختلفة، حيث إن الغرائبية الموجودة في أسلوبه حال جلَّ روايات مختلفة له: فقهاء الظلام، الريش، دلشاد" فراسخ الخلود المهجورة"...إلخ، عمل من أعمال التصدي للواقع المأهول بالعنف الرسمي، بما يقلقه.

ليس من شخصية إلا وتتنفس بالطريقة التي حُدّدت لها، فنياً،إنها مخلوقاته المتخيلة والمطلق سراحها، في محميته التي تحمل اسمه، تحمل بصمته، تسمّي خاصيته في الكتابة ورهاناتها.

في الكثير مما هو يُسمى غرائبياً، ثمة المتعة في التوصيف، في عملية نسج العلاقات بين ممكنات وجوده الروائية الخاصة واللافتة، ثمة الرغبة في الاستزادة أحياناً، في عملية التحريف التي لا يدّخر بركات جهداً في اعتماده طرداً مع تقدم في قراءة نصه، تحريف هو مطلوب نصه وإرتقاء بمحتواه ليكون في مستوى ما ينشده. الغرائبية ليست الواقع، إنما محاول إرجاع الواقع إلى رشده.

في الذي كتبه بركات رواية، وفي الذي أثاره في الرواية هذه، وفي الذي احتفظ بمقابله الدلالي، فيما تطرق إليه بأسلوبه الأدبي الخاص، يكون إزاء حقيقة لا يمكن دحضها، وهي ترتد إلى الذاتي فيهن واستحالة الفصل الفعلي والدقيق بين المعتبَر ذاتياً يعنيه، وما يخرج عن طوعه، وإن زعْم تنسيبه إليه، وهو الموضوعي خارجاً، أو المجتمعي. بين خاصية الذاكرة الفردية التي يستحيل النظر فيها، دون تأهيلها بمكوناتها، وأين، وكيف، ومدى تمازجها بالذاكرة الجماعية، واستحالة التعبير عن الأخيرة ككل متناسق، أو متناغم، وفي مجتمع لا يخفي صراعاته قليلاً أو كثيراً.

هوذا مفهوم الخطاب، وما يصل بالخطاب الروائي حقاً في العمق. والذي يضع كاتبه وقارئه في نقطتيْ تقابل، من جهة الاعتبار، ترتبطان بالمقروء: ما يعتبره الروائي نصه، وليس المحكوم بما يعتبره مفسَّراً حصراً من جهته، أي يعرف مداخله ومخارجه، بمختلف مغاليقه، وهو ما يتعداه داخلاً وخارجاً، ليكون اختلاف المعنى غير مستقر، وما يعتبره القارىء مرجع روائيه، في الذي يراه عائداً إليه، وهو وهم من أوهام القراءة وغواياتها بالذات .

ذلك يذكّر بما أشار إليه فوكو، وهو يمارس تنويراً بمفهومه لأصل الخطاب كنظام( ليست كل مناطق الخطاب مفتوحة بنفس الدرجة، وقابلة للاختراق بنفس الدرجة: فبعضها محروس ومممنوع علانية ( مناطق مميَّزة ومميّزة )، في حين أن البعض الآخر يبدو مفتوحاً تقريباً أمام كل الرياح وموضوعاً رهن إشارة كل ذات متكلّمة بدون حصر مسبق .) "5 "

في ضوء ما يتضمنه الخطاب كهذا من تباينات وجهات النظر، من حالة استحالة التأطير لمعنى معين، لنص معين، ولما يزعَم أنه مقصد الكاتب في أي نص من نصوصه، يكون للإستدراج، الكثير من القيمة الاستكشافية والإستشرافية وقابلية الإستئناف فيما جرت كتابته وقراءته، وهو ما يمنح النص الأدبي جواز استمراره محرَّراً من كل توصية، أو تحديد موقع قيمي ما.

ما الاستدراج؟

إنه ما يتركز على تثبيت كلمة ما، والدفع بها إلى واجهة الاهتمام، بطريقة ما، لتكون عامل جذب للآخر، أو له، دون إمكان الربط المعتاد بين الكلمة المنطوقة والمكتوبة، وما يليها من كلمات أو عبارات، تكون لها انتماءات دلالية أخرى، ومن المستحيل توقع اللاحق عليها .

بركات المأهول بمثل هذه المأثرة الإستدراجية في الزج بكم وافر من الكلمات التي ترتقي أحياناً إلى المفهوم ذي التأكيد المنطقي، ولكنه ضد أي منطق من هذا النوع، رداً على الدائر بوصفه إخلالاً بكل منطق. فما يُستغرَب له هو ما يجري سبْر مكوناته ومدى دقتها اجتماعياً .

حتى بالنسبة لما ينظَر فيه سرداً، ليس كأي سرد آخر، وقد جرى تركيبه بصورة مغايرة لذلك المعتاد، وفي بعض الحالات، يسهل تبيّن ذلك، كما نرى في البداية،تحت عنوان" تسبيح رمادي":

 (تحركت المجرفة دفْعاً إلى الأمام وشداً إلى الوراء في المِلاط الرمادي. كان صفيحها مقلوباً بوجه إلى عامل يشدها من مقبضها الخشبي الطويل، وبظهر إلى عامل يشدها صوبه بسلك سميك طُوّق به عنقها الحديدي، في موضوع دخول المقبض في أسطوانة العنق فأثبتَه فيه مسماران من ثقبين في صفيح الآلة .ص7 .)...

ثم( هكذا هو خلط الملاط في جوف العربة " البرويطة " يدوياً: جذبٌ بالمجرفة إلى قُدّام ووراء مزجاً للعناصر. أربع أيد ٍ تتولى بجهدها إرغام الطحين الرمادي الجاف على التسبيح للرمادي الرطب المائع. ص 8 .) .

وما يصل النص بأصل حيويته  عن الفتيات الصغيرات، وهن يراقبن الجاري( والتحدث معهن بالكردية أو العربية: عمال البناء يعرفون ما الذي هنَّ بصدده من حصاد الأكياس في موسم وقوف الجدران الإسمنت على أقدام صُلبة. سيستولدن من الأكياس الفوارغ الكبار أكياساً من نسلها متوسطة الأحجام، أو صغيرة، يتكسبن ببيعها إلى الدكاكين .ص16 . ) .

البداية واضحة، ثمة ملاط مادة للبناء، وعمال، وأكياس يجري خزقها، وفتيات صغيرات ممن أشير إليهن في البداية، حيث يرين في الأكياس تلك مصدر رزقهن وأهلهن، لكأنما هذه السهولة اللافتة، تشكل تحفيزاً لذائقة القارىء لأن يمضي ويحل في الداخل، ليجد نفسه إزاء مختلف قراءةً.

لا أكثر منها نماذج من هذا القبيل، ولكل نموذج ما يميّزه موقعاً وقيمة ودوراً

حين نقرأ في مشهد ( رفعت سبحان صوتها تخاطب العامل:

-أقسِم لنا أنك ستخبرنا بموضع بناء الإسمنت إن ركلتَ هذا الصبي.

" أقسم برب الإسمنت "، رد العامل .

نظرت زلفو إلى سبحان مستوضحة:

-ماهذا القسم؟

" بعد حيرة من سبحان "

" لكل شيء في الأرض ، وفي السماء، رب واحدُ هو الله. إنه رب الإسمنت أيضاً " رد العامل. ص 25 .) .

إن مجرد القسم، يشير إلى ما هو مألوف، لكن القسم المركَّب تالياً، ليس من هذا النوع، وما في ذلك من استدراج إلى عالم كلامي، وتعبيري، ينزع عن الواقع نمطيته، ويعرضه للمساءلة

وفي مقبرة السريان، من جهة الفتيات:

(-هذا قبرٌ مسلمُ. حفرت هلالاً عليه.

" كيف يصير القبر مسلماً إذا لم يكن الميتُ مسلماً ؟ "، سألتها سبحان .

تردددتْ هدلا في الرد. انبرت زلفو مجيبة:

-القبور كلها مسلمة .

" ماذا؟ "، تساءلت سبحان، فردت زلفو:

-الأرض مسلمة. لكن يُدفَن فيها مسيحيون، ويهود، وغيرهم.

" إن كانت الأرض مسلمة، فلماذا تقبل دفنَ غير المسلمين فيها ؟ "، سألتها سبحان.

" رحمة الله واسعة "، ردت زلفو..ص36 .) .

هذا حوار، ولكنه حوار مركَّب لم يُسمَع به، وهو في الوقت نفسه، صيغة معرفية، ولا تخفي تهكمها الضمي، وفي الوقت نفسه، لا تخفي فعل المتخيل الذي يمنح المتكلمة أساساً، مقدرة بلاغية في تحريف القول وتأليف جملته، ما يصعب تصديقه، من لدن هؤلاء الفتيات الصغيرات اللواتي يشرن بعنوان الرواية إلى خلل في بنية العلاقات الاجتماعية، وكيف تحميلهن بأعباء اجتماعية ما كان لهن أن يقمن به، ومع ماذا؟ مع أكياس ورقية، تصدمنا بنوعيتها" هي أكياس إسمنت " تحوَّل إلى أكياس صغيرة، وبيعها إلى الدكاكين. كيف لهذه الأكياس وهي تخص مادة لا تخفي سمّيتها، وبينها وبين حالتها في تحويلها إلى أكياس صغيرة، ما لا يقبل التحويل أو القبول، حيث تشكل عبوات لفواكه وخضروات وسواها، تتطلب نظافة معينة، حرصاً على الصحة. وهي العلامة التي لا ينظَر فيها عرَضياً، جهة الدلالة، أي كتشهير في واقع مأزوق اجتماعياً وأخلاقياً .

بركات دسّاس معان ملغّمة في جمَل ملقَّمة بتصورات تقلق اللغة عينها، وتلك هي الوظيفة الكبرى للكاتب حين ينزع عن اللغة قدسية التفكير، وحرمة رقعتها الجغرافية، لأنها في جوهرها ذات نسَب إثمي، أي مهجّنة بما هو ممهور بالتناقضات حيث يكون العنف كامناً في الجاري ، وفي الوقت الذي يكون الكاتب نفسه داخلاً في لعبة، لا يمكن إبقاءه خارج صراع دلالاتها.

وفي إثر إشارة فوزو إلى أن قبراً تحرَّك.

( مدَّت زلفو يدها اليسرى من جانب إلى ثدي فوز الأيسر الناهد:

-هذا ما تحرَّك مترجرجاً وليس القبر، يا فوز .

تمنعت فوزو على يد زلفو أن تلمسها..فعابثتها زلفو متصنعة إلحاحاً أن تلمس ثديي الفتاة من غير تمكن.

ضربت سبحان براحة يدها اليمنى على يديّ زلفو كلتيهما توقفها عن التمادي في لهوها:

-أتغارين من ثديي فوزو الناهدين؟

" ثدياك صغيران، يا زلفو"، عقَّبت شريكتها.

" سيكبران "، قالت زلفو بنبرة امتعاض من ذلك التعليق.

غمزتها سبحان لا تريد خروج المحادثةعن نسقها المرح:

-سنشتري لفوزو قريباً حمالة ثديين.

" الكرديات" لا يرتدين حمالات ثدي "، عثبت زلفو.

" الكرديات يرتدينها في المدن الكبيرة، يا زلفو، في الشام، وفي حلب ، وفي الجنة "، قالت سبحان ..ص38 . ).

ماالذي يربط بين صورة الثدي والقبر. ليس ما هو مرتفع " ناهد- كاعب " هو الجامع بينهما، إلا لحظة التوجه بالقول إلى الأبعد فالأبعد: ما يعرّف بالثدي تعبيراً عن مأساة صاحبته، كما هو القبر الذي يضم رفاة أو ميتاً. وما يقوم من معنى في مفارقات الثدي والحمالة، وما يدفع بالقارىء إلى المساءلة عن حقيقة المنسوب من دور لهؤلاء الصغيرات، وما يناسبهن من أقوال هنا وهناك.

وما يعمق المفارقة في نموذج آخر، له مغزاه المكاني، وبنية التوصيف في أمره.

حين رفعت " هدلا " تخاطب أختها زلفو المحتجبة داخل الغرفة:

( -دجاجاتنا شغوفات برائحة الكاز.

" هذا ما تخبرينني به كلَّ مرة تشعلين النار في المكواة"، عقَّبت أختها زلفو من باطن الغرفة.

اعترضت هدلا:

-هذه أول مرة أحدّثك عن شغف الدجاجات برائحة الكاز .

" عمَّ كلمتِني إذاً، يا ابنة الدخان، كلما اقتربت دجاجة من المكواة ؟" ، سألتها زلفو، فردت هدلا:

-عن شغف الدجاج بالنظر إليّ حين أوقِد الحطب في جوف المكواة .

" كان دجاجنا شغوفاً بتشمم رائحتك، والآن شغوفٌ بتشمم رائحة الكاز "، عقبت أختها زلفو..

" السيارات تستخدم البنزين، يا زلفو " عقَّبت هدلا..

" هل من سيارات تشتغل بوقود الماء ؟ " ، تساءلت زلفو...

فردت هدلا:

-لسنا سيارات. نحن شاحنات .

" ماذا عن الدراجات الهوائية ؟ "، سألتها أختها، فردت هدلا:

-دجاجنا دراجات هوائية ..ص 48 . ) .

ينتمي الدجاج إلى العالم الصغير والهامشي ولعله الأنثوي في المعهود المنتشر هنا وهناك بمنتجه الرمزي كذلك، في المجتمع اقتصادياً، كما أن الحديث عن الدجاج وربطه بالكاز، وما يترتب على كل ذلك من تبعات في المعنى، محاولة النظر، إلى الجهة التي تعاني خلل علاقة، وخطورة المشار إليه احتراقاً قاعياً في المجتمع، وبؤس اعتبار في الواقع جهة اللامبالي فيه . إنه العالم المثير للغرابة، وبالغرابة هذه، تنضج ثمار النص بوصفه شجرة متخيلة، ليكون ماليس منطقياً، ما لا يكون سرداً كعهدنا به، هو ما يدخلنا من البوابة الكبرى في ذمة تاريخ آخر، عليه أن يتقدم على ما عداه، ويصوّب مساره، كما يعرض ما هو  معايَن للضوء والمعاينة. صغيرات يعشن شعرية الكلام المرفوع بغرابة ما هن عليه، أو ما هن فيه من ملابسات جارية، ومن الوصل بين اللاممكنات، تشهيراً بالممكنات المخَلة بواقعها، وللدجاج " البائس " أن يشهد على المضحى فيه منه، وعلى المأخوذ به عنه بالمقابل، حيث القوة يمكن أن يشار إليه عالياً .

تعظيم الأثر في الإستدراج

إذا كان المجتمع كمفهوم، له سياق إنساني، لكنه أبعد عن أن يكون بسرعة واحدة، وبلون واحد، ورؤية واحدة، ومكاشفة واحدة للواقع، والإستدراج مسمَّى إنساني في مؤتاه المجتمعي طبعاً.

فما يُرى في المجتمع، يعلَم بمفارقاته، تناقضاته، تعارضاته، وتضاداته، أكثر مما يعلّم بتناغماته، وما حروبه، أهواله، مآسيه، وصراعاته الدامية والحامية إلا منصّات لإبراز معالمه وتفاعلاتها.

الإستدراج لا يسمّي إلا ما يكون قائماً، ويعتمد على مدى استطاعة المعني بإضاءة مكوناته.

الإستدراج ما أكثره تنويعاً في توجهاته وسياقاته الاجتماعية.

في أي نص أدبي، تأكيداً على أن النص ليس مسطحاً، إنما له تعاريجه ومنحدراته مطباته.

هناك ما يشكّل حوامل نافرة، جلية الاثر، وهو ما يعرَف الوسط الكردي المجزأ:

( إدريس كردي تركيّ الجنسية، احتال بابن عمه جمشيد معصوم السوري الجنسية ليشتري الأرض في الضاحية الغربية من مدينة قامشلو بماله هو، واستحصل ترخيصاً لبناء بيت باسم ابن عمه الذي لم يره يونس في تلك الأنحاء إلا مرة واحدة في أربع سنين.

كل الذي عرفته عائلة يونس عن عائلة إدريس أن زوجته غادرت سوريا إلى تركيا في السنة الثالثة من بناء البيت، مع ابنيها وابنتها ، ولم ترجع ... وأشرك أدريس يونسَ في دجاحه لأن لديه مشاغل أخرى..ص 67 . ) .

هذا الصراع الظاهر والخفي، بين طرفي الحدود" سرخت " أعلى الخط و" بنخت " أدنى الخط بالنسبة للحدود الفاصلة رسمياً بين تركيا وسوريا، تكون الصراعات السياسية مرفقة بالاجتماعية.

ليس من مكتشف يمر دون منحه دمغة مفارقة.

كما في لحظة الاهتداء إلى منزل يشيَّد بالإسمنت، وتمنّي النفس بالحصول على أكياس إسمنت فارغة، من خلال فوزو، وحين سألتها زلفو عن كيفية ذلك بإعجاب، ردت:

( " رأيت عربة يقودها بغل...."..أضافت بنبر متفاخر:

" سألتُ البغل أين هو ذاهب، فدلَّني ".

" أدلَّك البغلُ بنفسه ؟ "، تساءلت زلفو مهأهئة.

" حين ترين بغلاً يجر عربة عليها أكياس إسمنت، فهو يدعوك أن تتبعيه إلى موضع بناء جديد"، ردت فوزو.

" أنت ذكية، يا فوزو"، عقبت زلفوا : " ذكية أكثر من بغل ".

" أنا أذكى من عشرين بغلاً، ومن سبعة عشر شاباً، من أولئك الذين...". لم تكمل فوزو جملتها..ص73 . ).

عالم يعاش بمفارقاته وصداميتها، وتتخذ اللغة في مسلكها النصي أبعاداً شاهدة على انجراحاتها، حيث الربط بين البغل وأي من الفتيات، ربما لا يخفي بؤس التشبيه، وعنف الهامش والمردود.

يعزّز هذه العلاقة، ما يكون عليه المجتمع في فساد محتواه.

( احتيال أصحاب الدكاكين في وزن بضاعتهم بأكياس سبحان الخفيفة، أقل قدْراً من الاحتيال في الوزن بأكياس زلفو الأثقل. الباعة يفضلون النوعين، كلُّ نوع يلائم صنفاً من الأغراض التي يبيعونها، بحسب قيمتها غلاء ورخصاً . ص 95 .).

وما يتخلل عملية البحث عن الأكياس عن معرفة العالم، وما فيه من علاقات ومشاعر وغيرها.

حين تشير سبحان إلى معرفتها لأحد الشباب.

( سألتها زلفو" أخبريني شيئاً ما عنه، أي شيء، يا صاحبة الدلال"،..أردفت : " أهو وسيم ؟ " .

" وسيم كجدْي "، ردتْ سبحان.

علَت وجه زلفو استفهامات، من حاجبيها إلى فمها المفتةح. تساءلت:

-هل الجدْي وسيم ؟

" وسيم مادام مطيعاً "، ردت سبحان.

" مطيع ؟ ! "..وبعد سؤال زلفو عن كيفية استدراجه، قال سبحان:

-أستدرجه إلى أي مكان أشاء بغمزة .

ثم:

" تصله غمزتي حتى لو لم يرني "، ردت سبحان متباهية .ص122.

استودع إدريس أمانة له عند يونس..ص 133 .).

ماالذي يربط الشاب بالجدْي، أليس لأن هناك حيونة لما هو اجتماعية، تسخيف للقيم، وفي الوقت نفسه، إذا كان الشاب الوسيم في هيئة جدي، فلا بد أن تكون الواصفة في مقام العنزة ليحصل وصال، وهو ما يجاز قوله، ومدى النظر إلى الأفق البعيد للدائر اجتماعياً . يا للشهوة المحوَّرة!

وما يجري حدودياً، وصلة الحدود بالمجتمع المنقسم على الحدين، حول التهريب:

( سبحان وهي تواجه زلفو:

أخبرتِني أن جاركم مهرّب .

" كذابة " قالت زلفو.

" من يحدث إطلاق نار في بيته يكن مهرّباً "، أكدت سبحان. استطردت:" المهربون يطلقون النار على غيرهم، وغيرهم يطلقون النار عليهم "." لم أعرف أنك عالمة في شؤون المهربين، يا مازوت المدافىء" ، عقبت زلفو. أردفت : " أبوك أورثك هذا العِلْم ".

" ماذا؟ "، تساءلت سبحان غير راضية عن إقحام أبيها في الثرثرة .

" أيهرّب أبوك مدافىء إلى تركيا ؟ "، سألتها زلفو تستفزها. ص 138 . ) .

عامل الطرافة الجلي الأثر في رواية بركات هذه، يحفّز على القراءة كثيراً، وربما كان التعلق بالجاري توصيفه، وفي جانب المفارقة غير المعتادة، تحويل بالمفكَّر فيه نحو منحى مغاير، جرّاء الانشغال بعملية التوصيف، وتردداتها الدلالية وصدمة المثار من خلالها. وهذه اللاجدّية، إن اعتبرناها هكذا، إجراءات كاريكاتيرية بالكلمات، وإمكان تخيل ذلك على الورق.

وهو ما نلاحظه، في حوار آخر، وكيف يجري حبْكه نشداناً لراحة نفسية وتجاوزاً لمكبوت:

قول هدلا عن أن دجاجاتها تسمع غناءها .

وردها:

( -علمتُ الدجاجات كيف يغنين َ.

ضحكت سبحان متطلعة إلى زلفو:

-أختك تحفة. سبحان الله .

رد هدلا وهي تخاطب سبحان:

-أستطيع جمْع الأغاني في سطل، وسكبها في القصعة التي تشرب منها الدجاجات الماء. هكذا يتعلمن أن يغنّين..ص140. ) .

لم يعد هناك إمكان للتفريق بين العالميْن، جرّاء السلعنة البائسة وربما المريعة للوجود نفسه .

وما في قول كامل في أنف فوزو، من معنى آخر:

( -أنف فوزو، أخت سبحان، أنف فتاة خبيثة .

" ماعلاقة أنف أخت سبحان بالغش ؟ "، سألته زلفو مستقبحة ردَّه .

هدلا أيضاً استقبحت رد أخيها. تطلعت إلى أمها. كلمتها مستخفة بما قاله كامل:

-اللأنوف، يا أمي علاقة بالخبث؟

" نسيتُ شكل أنف فوزو. كيف هو ؟ " ، تساءلت الأم هاديا.

سارع كامل إلى الرد:

-أنفها طويل ومستقيم . ص155 .) .

في مجتمع يعيش حشداً انفجارياً من العلاقات المتناقضة، لا بد من قنوات تصله بالعالم الخارجي، ليسهل عليه التقاط الأنفاس، عبر لواقط تسمّيه، وتعرّف بالتحريف الذي يتعرض له .

وفي مساحة جغرافية محدودة، ولكنها دالة بعمق على ما هو سياسي. حيث الحديث عن الدغل الفاصل بين قامشلو ونصيبين، وقد أثير موضوع الجن فيه.

( تصنعت زلفو ارتعاشاً:

-سأتزوج جنياً يخافني .

" أزواج كثر ينتظرونك ، يا زلفو "...ثم: " ألا تخافون جن الدغل؟ ألا تخافون المهربين ؟ " .

" تعودنا عليهم "، ردت زلفو .

" أتعودتم على الجن أم على المهربين؟ " ، سألتها سبحان، فانبرت هدلا إلى رد بانعطاف إلى خبر قد يثير:

-عندنادجاجة زرقاء العينين. نعرف أنها من الجن في هيئة دجاجة.

ابتسمت سبحان متطلعة إلى شريكتها زلفو:

" لمَ نخافها ؟ "، ردت هدلا مستبقة أي رد من أختها: " كل بيضة من بيضها بثلاثة صفارات.

...

انبرى كامل إلى المحاورة يدلي بثرثرة . قال:

-أنا أسقي دجاجتنا الجنية شاياً..ص 195 . ) .

في عالم ما فوق الواقع هناك ما ينشّط التفكير لإماطة اللثام عن الواقع، عما يؤسطره، ويدخله في نطاق الخرافة، وحتى التفاهات في التصوير، وآلية العمل بكل ذلك، والتداخلات تعمية للقائم.

وها هو جانب آخر حول الثعلب:

( تزعم هدلا أنها تحلم حلماً متكرراً أخبرت أهلها به:

-أرى نفسي ثعلباً في المنام .

ثم :

-أرى نفسي ثعلباً في المنام، أداهم قن دجاجاتنا .

" كيف تعرفين أنك ثعلب في منامك ؟ "، سألتها فوزو متشكللة .

" الثعلب ثعلب "ردت هدلا واثقة النبر في تأكيد ما تعرف .

" ألا يعرف أبوك الثعالب ؟ "، سألتها هدلا تحاصرها بما لا تقدِر فوزو على إنكاره، فردت فوزو:

-طبعاً يعرفها. الثعالب تشتري المدافىء من أبي ...ص 215 .

ويواجها مهدي:

-أأنت متأكدة، يا هدلا، أنك ثعلب في المنام؟ قد تكونين إبن آوى، أو هرَّة، أو أرنباً، أو ديكاً رومياً.

" الديك الرومي لا يهاجم قن الدجاج "، عقبت هدلا مستنكرة. أكدت:" أكون ثعلباً في منامي يهاجم قن الدجاج " . ص 216 . ) .

مجتمع يعرَف بهؤلاء الصغيرات، وما للصغيرات من ضعف تكوين جسدياً، وما لكلامهن من دلالات ذات صبغة مجتمعية تشهيرية بمكونه القيمي بالذات، وكأنه مجتمع موتى عملياً .ومجتمع يمنح الثعلب بعداً رمزياً، وجانب المكر فيه، وربما ما يصله بالذكورة الماكرة وفسق لعبته.

بركات، كعادته في روايات له، يجد نفسه وقد تحول إلى ما يشبه المؤرخ عند اللزوم، وبأسلوبه، حين يخصص الفصل السابع للحديث عن التاريخ كألياف، وما لهذا من مكاشفة جلية!

بعد ثلاثة أرباع الصفحة عما كان يحمله الإنسان:

( كان الكيس الأول، ربما، في تاريخ التحايل على عدم التفريط بما لا يمكن ليدي الإنسان على حمله، هو قطعة الجلد من لباسه نزعها الإنسان الأول المتستر، فجعلها صرة ربط أطرافها على الأطعمة، وحملها مع شريك كل بيد، مدلاة من عصا رُيِطت الصرة إليها..ص 231. ) .

هذا ليس سرداً عادياً، إنما ما يشكل المؤاساة الدالة على مجتمع يعيش خلائط متضاربة، فإذا كان الكيس في أصله منجزاً بشرياً في تاريخه، فهو لتخفيس العبء عليه، والتنويع في أشكاله ومادته، وما يدل على الجهة الصانعة من الناحية الصناعية، وكيفية ربط الاقتصاد بالمجتمع والسياسة.

وهو ذا البياض

( " أنت بيضاء البشرة، يا سبحان "، ذكَّرتها زلفو، فعقبت سبحان:

-أريد بياضاً كالحليب.

" زوري حمّام العامة مع أمك، إذاً "، قالت زلفو، فردت سبحان:

-لوسكنتُ بيتاً متزوجةً لما شاركت زوجي الدخول إلى الحمام أستحم فيه عارية.

" شاركيه الحمام وأنت مرتدية عباءة "، عقبت زلفو بنبر ساخر .

ثم يجري الحديث عن الحمّام ..ص264. ) .

عدا عما يجعل الحوار طريفاً وكيفية استدراج المعاني، يكون الحديث عن الحمّام تاريخياً، وما فيه من مشاهد، وما يعيشه بمناخه الاجتماعي، من تهويمات نفسية وشعور بالتحرر تخيلياً .

وفي الصميم، جهة التأكيد لأكثر من مرة على تحليق طائرة عسكرية تركية فوق المكان، وصلتها بالخوف المشهود له في التاريخ الحدودي للمنطقة، وإلى الآن طبعاً ". ص 245-250-252 "، وما يقلق الناظرين إليها، ومعرفتهم لطابعها المميت والتدمير، وارتباطها بنظامها السياسي.

وبعد حديث مستفيض عن الرياضيين، وما للرياضين من جانب استعراضي:

( في سؤال سبحان إلى زلفو:

-ماذا يفعل رياضي بزوجته؟

تأملت زلفو دخان المعنى صاعداً من كلمات سبحان. اراجلت جواباً ملفتاً:

-يجعل فخذيها عضليتين، ويعلمها الصفير.

" يعلمها الصفير؟ "، تساءلت سبحان مهأهئة. " كيف تعرفين هذا ؟ ".

بدت زلفو واثقة من اقتدارها على تلفيق أي جواب، مذ أثارت فضول شريكتها:

-ألم تفهمي، يا سبحان؟ سيُنجب الرياضي زوجتَه طفلاً كل أربعة شهور...الحبل رياضة. زوجة الرياضي تصير رياضية . ص 274 . ) .

حوار استدراجي من نوع آخر، يظهِر مدى انهمام بركات بمتتالياته، ومغذياتها النفسية، وموقعها في البنية الفنية لنص الرواية، وأفقها المعاين واقعاً .

وحتى بالنسبة إلى المدرسة:

( قول زلفو لسبحان :

-مراد قلبي أن أتزوج معلماً. أخبرتك برغبتي مراراً.

سؤال سبحان إلى كامل الصبي:

-مالمدرسة؟

- المدرسة هي المدرسة .

وبعد تردد:

-هي مكان ضرب بالمسطرة على الأصابع.

ثم:

-الضرب بحافة المسطرة على الأصابع أكثر إيلاماً من الضرب بها على راحة اليد.

وتعريف مهدي:

-إنها مكان لجعل الإنسان مؤدباً..ص 276-277 .) .

من يكون القائم بدور السارد، الذي لا بد من الإشارة إليه؟

يبرز السارد الأكثر حضوراً في مفارق الرواية الكبرى، كلما كان الحديث عن واقعة ما: وصف الملاط، عمال البناء، البناء، الأكياس، تاريخ الإسمنت" ص 299 "، التحقيق مع يونس لاحقاً، وحتى فيما يتفوهن به أولئك الصغيرات، بلسان يصعب التجاوب مع منطوقه في المستوى الواحد الذي تتراءى عليه هؤلاء الفتيات فيما يقلنه ويواجهن بعضهن بعضاً،.

وعن " مقتل البقرة " في الفصل التاسع وتبعاته هو الآخر.

بعد الحديث عن تاريخ الإسمنت، تعبيراً عن كيفية تطور البشرية من سكنى الكهوف إلى سكنى ناطحات السحاب، كما يمكن قول ذلك. ثمة الحديث عن مقتل بقرة يونس جرّاء طلق ناري:

 ( لم تقاوم البقرة المصعوقة من إحدى طلقات الليل الغامضة أصابتها. ص 321.) .

وما ترتبَ على ذلك:

لن تشهد ساحة البيت ، إذاً، خواراً تعودته العائلةُ حنوناً من لغة البقرة الكثيرة التناجي مع الشياه الإثنتي عشرة، ومع الدجاج، ومع العنزة الوحيدة..

لن تتذوق الأفواه تلك الرغوة الأولى طافيةً على الحليب في سطل الأمل.

لن تسمع العائلة ذلك الصراخ المستنكر من فم الأم حين يبلغ الحرَد البقرة أحياناً أن لا تهدأ للحلْب..

لن تجمع البنات روث البقرة، كفعلهن كل صباح..

لن تكون للبقرة حظوة الغذاء أولاً..ص323.).

حرمانات متسلسلة كاشفة لمأساة عائلة، ربما تضيء صفحة مجتمع يعاني أدواء تترى !

وليس الطلق الناري في رقعة جغرافية حدودية بعيداً عن تلك المشاكل الاجتماعية واستفحالها، حتى فيما بعد، ناحية الحريق المهدد لبيت يونس..ص337، وعنف الإطفائية لإطفاء الحريق .ص343. تصعيداً منطقياً في الحالة هذه للمجتمع وهو يجلو تناقضاته الصارخة.

وفي مشهد وصف الصيف:

( نزحت السماء، بقية أيام الصيف، إلى هدوء المتأملة في حكْم رعيَّتها القادمة غيوماً، وسحُباً، في مطلع الخريف، وإلى تذكير الوقت أن يبوّبها بحسب خصائصها قبائلَ من الغيوم ممطرة، أو عابرة، مرغوبة في أوانها، وغير مرغوبة خوفَ إتلاف الحقول والمزارع..ص344.).

إنه الزمن الذي لا يتوقف، وله في توالي الفصول حكمته وعبرة المسمى فيه.

وفي تفتيش العلبتين أمانة إدريس، ورؤية الذهب في الداخل، والزوجان في ذهول. ص 351.ولاحقاً، وبفضل الليرات الذهبية، يبني بيتاً إسمنتياً. ص 355.

ثم لترد زلفوعلى سبحان عما دفع صوب بناء إسمنتي، في سؤال من سبحان وقد أشارت هذه إلى الدجاج:

( " دجاجاتنا مرفّهات. يليق بهن مسكن من الإسمنت ".

" يصعب تنظيف ذرقهن عن الإسمنت، يا زلفو "، قالت سبحان.

" هن مدربات على إلقاء سَلْحهن في الساحة قبل الدخول إلى الغرفة "، عقّبت زلفو..ص361.)

وأخيراً حول الديك، بقول زلفو، مخاطبة أختها هدلا، ناظرة إلى سبحان:

( -دعي ديكنا يتعرَّف إلى سبحان وفوزو.

" أليخطب إحداهما عروساً ؟"، تساءلت كميلا مهئهئة.

حضَّت زلفو زائرتها سبحان على الاقتراب:

-تعالي أعرّفك إليه.

" بم ينفعني التعرّف إلى هذا الديك؟ "، سألتها سبحان بنبر مستهزىء .

اقتربت زلفو من سبحان. هامستْها:

-قد تصيرين ضرَّتي إن أُعجب بك .

ضحكت سبحان. سألت شريطتها السابقة بصوت تقطَّع من الهأهأة:

-أأنت متزوجة من هذا الديك؟

تراجعت هدلا عن زجر الديك. أخلت له الطريق ليمضي متجولاً تحت رقابتها.

أكمل الديك مشيه بعد وقوف من تأمله في الوجود الصغير. اقترب من كومة الأحجار الإسمنتية. أمعن النظر من عينيه تلزَمُها الإمالة برأسه لتستحكما رصدَ الصّور متزنة ببلاغة الخطوط، وببلاغة اللون. هم بنقر اللبنان الرمادية، الخشنة، من باعث الفضول فيه. تراجَع عن فكرته. استدار متجهاً ، في اختيال هادىء، صوب بوابة الدار. دخل منها إلى الساحة .

سُمعت قرقعةٌ من سكْب ما في أجواف السطول فوق القضبان الحديد داخل القوالب:

تشمَّمت الفتيات فوْحَ الإسمنت رطباً، لطيفاً .ص 364 .).

لعله الاقتباس الأطول في المقال- البحث هنا، لكنه، وهو في تنويع فقراته، يشكل حاملاً رمزياً واحداً، كان لا بد من إيراده، وما يجعل من الديك جوال المكان، منتقلاً من جهة إلى أخرى، وما يرفع من شأنه، بمفهومه الذكوري، وتلك الشبقية المشتهاة داخل متكلمة، وحالة التفاعل مع المرموز واقعاً، وحالة الصدام مع الواقع مرفوضاً، أو جار ٍ استهجانه، وما يمارس انعطافاً في مسار الرواية في النهاية المختتَمة، وصلتها بالبداية، حيث جرى وصف الملاط وسواه، وكأن البناء الإسمنتي هو الذي سيدشّن للآتي، إنما ثمة تداعيات تخص المشاكل المرتبط به، حيث إن الذي بنيَ يذكّر بتلك الليرات الذهبية، وهي ليست ليونس، إنما لإدريس، وإدريس لا يخفي تاريخاً غامضاً من العلاقات الموزعة على جهتي الحدود، وما يُتخوَّف منه، حيث كان له زوجه وأولاد، كان له أهل، من أبناء عمومة وغيرهم، لا يمكن تجاهل حساسية الجاري، وما يمكن أن يجري في حساب العلاقات الحدودية الملغومة جغرافية وتاريخياً، وما لا يعرَف عما يكون عليه الديك في هيئته، وحكم المرمّز به والمتوخى منه وهو مرئي في النهاية، وفي صلة باللواتي تحاورن.

وللأيام القادمة أن تقول كلمتها، وما يتعرضن له من تغيرات، ومصير الديك وموقعه .

إنه أكثر من كونه استدراجاً في الحالة هذه، في إعادة الواقع إلى ما يعرَف به بدقة أكثر.

طالما أن الحدود مستمرة في لغميتها، فالتهديد لن يدع أحد ينام، وهو يحلم بأنه كائن حي طبيعي. وحيث يجري بناء عالم روائي في الفسحة الجغرافية تاريخياً لقامشلو، في كل من هذه الرواية، والأخرى" ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟ " وفي مسارات رؤيوية مختلفة طبعاً.

لقد كتب روايته، ليقول، بعيداً عن مكاشفة تأويلية، أنه ينتمي إلى مكان مقسَّم ومتشظ، وأنه رغم بعده عنه، ومنذ عقود من الزمن، لا زال ينبض بالحياة داخله. وبذلك تؤكد الرواية نفوذها الكبير!

استدراجات معزَّزة:

في مقدور أي متابع لما يكتبه بركات، كما تقدم آنفاً، النظر في مفهوم الإستدراج، ومسوّغه لديه، وأي شغف، من النوع الأدبي : الروائي يفتتن به، ليطعّم نصوصه به، وبصيغ مختلفة.

هناك نماذج روائية، توقفت عندها وتابعتها في بعض من نماذج تدعم فكرة الإستدراج.

في  روايته" سجناء جبل أيايانو الشرقي " نقرأ مثلاُ

( دالومي وهي تخاطب ماهاهون، مشيرة إلى الذعر وسيرته، باعتباره: الأكثر اختزالاً بين السّير، والأكثر طولاً أيضاً.

-" ماسيرته؟"، ساءلها رابكين، فردت دالومي:

-الإنسان سيرة الذعر.

" أهو سيرة الذعر الأكثر اختزالاً، والأكثر طولاً ؟ "، تساءل رابكين.

" نعم " ردت دالومي.

" ما مقدار هذه السيرة مختزلة، يا سيدة دالومي؟" ساءلها رابكين.

" ذعرُ الإنسان من الحياة، وذعره من الموت "، ردت دالومي.

" ما مقدار هذه السيرة طولاً؟ "، ساءلها رابكين واقفاً، فردت دالومي:

-ذعر الإنسان من الفشل. ذعره من خسارة النجاح. ذعره من أنه فعل، وذعره من أنه لم يفعل...ذعره من الله، وذعره من الشيطان. ذعره من سلطة الآخر القوي، وذعره من أن يغدر الآخرُ بسلطته...

قاطعها ماهاهون:

-ذعره من هذه الرحلة، وذعره من الرجوع عنها. ص 355 .) " 6 "

ربما لو أننا أضفنا هذا المشهد إلى النموذج الروائي الرئيس، مع رفع الأسماء، لما كان هناك اختلاف في الرؤية الفنية للنص، جهة سيرورة الإستدراج والمرتجى منه، حيث مجرد التلفظ بمفردة واحدة، تدفع بالآخر إلى الدخول في سياق غير متوقع، شهادة على خلل الواقع .

هكذا الحال، مثلاً في "  ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟، " "  من خلال كيهات وهو يقول لبوغوس:

( -جاءتك المعجزة أخيراً.

" أتعني قبول الهجرة إلى أرمينيا ؟"، سأله زميله، فرد كيهات:

-هل من معجزة تعادل هذه المعجزة، يا رجل ؟

" هذه ليست معجزة، يا كيهات، با لإجراءات. ما حصل يوم الأحد في كنيستنا كان معجزة "، قال بوغوس...

باح موسى لأخيه بمطلوب قلبه من المعجزات التي أرادها.

" تفكر كمؤذن المسجد الصغير "، عقَّب كيهات.

" ألا تتمنى أنت معجزة ؟ "، سأل موسى أخاه .

" أتمنى معجزات على عدد الشعر في عانتي"، رد كيهات.. ) " 7 "

وعلى الغلاف الخارجي نقرأ: مراهقون يدرّبون أعمارهم على الثرثرات حرَّة في خوفهم من حرّية يحذرها المكان.. وهو تذكير بالمكتوب على غلاف رواية " هؤلاء الصغيرات..."، وبدوره، فإن هذا النموذج، وثمة سواه الكثير الكثير، يوسّع دائرة المتشابهات وذات التعدد في الأدوار، كما هو صوغ بركات التخيلي لعالمه في هذه الرواية وسواها .

وفي روايته " موسوعة الكمال بلا تحريف ( نشوء المعادن )، أمثلة تترى، ولها طرافتها هي الأخرى، كما في الحوار بين الفتاة وأمها، حين نقرت تلك على يد أمها:

( -أرى المناجم.

" أترين مناجم أرض ماغْما ؟" سالتها نيسوسيليكات مـتأملة وجه ابنتها بلا عينين .

" أرى مناجم الأرض الأخرى"، ردت الفتاة المعاد سبْكها ذكراً مرتين، وأنثى مرة .

" ما الأرض الأخرى ؟ "، تساءلت نيسوسيليكات على فضول نقراً بالإشارات على يد ابنتها.

" أرض ليست معدناً "، ردت الفتاة.

" ما خواصها إذاً ؟ "سألت نيسوسيليكات ابنتها فرَّدت الفتاة المولودة تواً:

-لا أعرف بعد.

" صفيها لي "، عقبت نيسوسيليكات." لن أجيد وصفها مذ لا أعرف خواصها بعد "، قالت الفتاة.

" كيف ترين الأرض الأخرى ولا تحسنين وصفها ؟ "، سألتها نيسوسيليكات وهي تمرر يدها اليسرى أمام وجه الفتاة مؤكدة لنفسها خلوه من عينين ... ) " 8 "

وفي مكان آخر حول الطيور،  بين الأم وابنتها العمياء، حين تسمّي الموصوف بالطيور.

( " أولئك طيور "، عقبت العمياء.

" طيور؟ ما الطيور؟ "، سألتها أمها، فردت العمياء:

" كائنات مزدوجة الولاء للأرض وللسماء معاً .

حدَّقت نيسو سيسليكات إلى وجه ابنتها العمياء الممسوح لا عينين فيه. سألتها:

-أتعرفين كل شيء؟

" كل كائن بلا عينين يرى بهما، هو وسيط "، ردت العمياء....) " 9 "

وما يتردد في روايته " ميدوسا لا تسرّح شعرها " حيث إن بيرسيوس لا يتقدم، ممعناً النظر إلى الحشد. أدار وجهه إلى ميدوسا:

( -ظلال هؤلاء معذَّبة.

" ماالذي تعنيه؟ أرى ظلالهم متناسبة مع أشكالهم في الضياء الذي تبثه الحمائم"، عقبت ميدوسا.

" الظلال المعذبة تصدر عادة عن أجساد معذبة "، قال بيرسيوس. أردف :" الظلال المعذبة هي شكوك الأجساد في معاني وجودها ".... ) " 10 "

وحول المدن، في سؤال ميدوسا لبيرسيوس:

( -ما المدن، حقاً، يا عزيزي بيرسيوس؟ تستثيرني المدن..

-في المدن نساء بأجساد تصيب الناظرين بالهلع .

نهضت قيميس، الأنثى الوحيدة بين لفيف الرحالة. سألأته:

-هلع ممَّ؟

" من جموح الشهوة فيهن "، رد بيرسيوس.

" هل المدن نساء لا غير ؟ "، سألته ثيميس .

وسؤال ثيميس لميدوسا:

-أهذا التعريف بالمدن كاف ؟

تجاهل بيرسيوس تدخلَ ثيميس. استرسل :

-للمدن، أيتها السيدو ميدوسا، تعريف يتداخل في تعريف:

مدن أمم، ممالك، وخيارات.

مدن حلمُ، في منتصف النزع قبل الموت.

مدن علوم ومقامرات بالعلوم.

مدن تشرّع فيها الأوبئة للحياة.

مدن بلا شعراء. حصينة، لا تخترق أسوار النثر فيها. ...) " 11 "

وأخيراً وليس آخراً ، ما ورد في روايته الاحدث " الثلوج أكثر خداعاً في غابات التنوب " في الفصل الأول: عينا كوليت ليستا زرقاوين.

في حوار حول العينين، بين لوشا وكوليت هذه التي قالت عن أن عينيها شهلاوان:

" سأتوهم اليوم، في النظر إليك، أن لك عينين زرقاوين " عقب لوشا.

" ماالذي يستثيرك اليوم من العيون الزرق ؟" سألته كوليت...

" عيناك استثارتاني. عيناك الزرقاوان"، رد لوشا...

ورد لوشا في مكان تال :

إنه إحساس، يا كوليت، أن أرى عينيك زرقاوين، وتري عيني خضراوين، أو سوداوين ...ص28.

" ما تعريفك للزرقة؟ أنت شاعرة" ، قالت كوكيت. التفتت إلى لوشا:" تقول أوسين إن الزرقة حسْم لونيٌّ "..

" ألديك تعريف آخر غير التعريفين الآنفين " اسأليها، عقب لوشا.

" يريد لوشا بعض التعريفات الجدد للزرقة "، قالت كوليت لصديقتها.

لم يطل رد أوسين. انهمرت بضعة تعريفات أُخَر سريعاً:

-الزرقة تعب الفضيلة بلا برهان.

-الزرقة سيْر على مقربة من ضفة كل نهر.

-الزرقة اعتدال كمّيّ؟.

-الزرقة سؤال .

" مثيرٌ آخر تعريف أسمعتنيه أوسين "، ردت كوليت.

" ماذا قالت؟"، سألها ، فردت كوليت همساً

-الزرقة بظْرٌ

" يا للمجنونة "، عقَّب لوشا..

ولترسل أوسين في قائمة  تعريفات أخر:

( تتالت من فم أوسين اعترافاتها بإرغام الزرقة مقهورة على التعريف ببعض ماهياتها الغامضة):

-الزرقة طبع.

-الزرقة مناورة.

الزرقة مراوغة .

-الزرقة هندسة لا عقلانية.

-هل من تعليق ؟

" الزرقة جوع "، عقب لوشا..) " 12 ".

موسوعة تسمّي الزرقة، حتى الأكثر صداماً بالدلالة، والقابلية للإطالة كذلك كعادة بركات في ذلك، وما يبقي حدود الإكثار من الإخبار عن الزرقة وما يمكن أن تكونه لامتناهية .

ثمة إمكان لمعاينة أمثلة مختلفة من هذا النمط في روايات أخرى، وكيفية التعامل مع كل منها، إنما ما يبقينا داخل النص، وفي سياق المقروء روائياً، ومكاشفة الحراك النفسي للكاتب، أعني الذي كتب نصه، وليس الذي أعرفه كشخص يقيم بيننا حرفياً، وبمقدار ما يسعى إلى فعل مأثور لديه، وهو الإستدراج، ومفهوم " الكمين " الجائز والمعوَّل عليه، بالمحفَّز نفسياً لديه، ربما أمكن لقارئه وهو يتعقب خطاه كاتباً، وقد قرأ أعماله، وتحرّى محفزات أسلوبه في الكتابة، وما يمأزقه، إن جاز التعبير، ليس لإستدراج كما يعمد إلى ذلك هنا وهناك، وإنما ليكون الإستدراج هذا، عاملاً فاعلاً وكشّاف أثر، لتلك الذاكرة المكانية التي يعيش تفاعلات مكوناتها، لتُعطى صورة مؤهَّلة لأن ينظر في مكوّنها الأدبي، وأي بركات يكون، كروائي هنا، وما يمكن لهذا الإجراء المذكور عنواناً للمقال- البحث، أن يتعزز فاعلية جمالية وتحريض على القراءة ومواجهة الكاتب بما سطَّره نفسه.

مصادر وإشارات

1-سليم بركات: هؤلاء الصغيرات وأكياسهن الورقية، منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،ط1، 2022 .وكل الإشارات المرجعية تخص هذه الطبعة حيث تردُ أرقام صفحاتها في المتن، للإيجاز .

2-سليم بركات: لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة، حاوره: وليد هرمز، المؤسسة العربية، بيروت، ط1، 2020، ص84.

3-المصدر نفسه، ص 112.

4-روجيه غرينييه: قصر الكتب، ترجمة: زياد خاشوق، دار المدى، بغداد، ط1، 2018، ص175.

5-ميشيل فوكو: نظام الخطاب، ترجمة: د. محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت،2007، ص 28.

6-سليم بركات: سجناء جبل أيايانو الشرقي، المؤسسة العربية، بيروت، ط1، 2014.ص 355.

7- سليم بركات: ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟، المؤسسة العربية، بيروت، ط1، 2019، ص 421-423.

8-سليم بركات: موسوعة الكمال بلا تحريف ( نشوء المعادن )، المؤسسة العربية، بيروت، ط1، 2020.ص 103.

9-المصدر نفسه، ص 491 .

10-سليم بركات: ميدوسا لا تسرّح شعرها، المؤسسة العربية، بيروت، ط1، 2021.ص 78.

11- المصدر نفسه، ص 137.

12-سليم بركات: الثلوج أكثر خداعاً في غابات التنوب، المؤسسة العربية، بيروت، ط1، 2021.ص 27 -31-33-58.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية