الأخ الأكبر برهان حاج ظاهر تحاشى الارتباطَ بمقهىً وما إلى ذلك، فبادرَ الشقيقُ الأصغرُ أحمد إلى تأسيسه. إذاً يعودُ الإنشاء إلى أحمد حاج ظاهر منذ حوالي عقدين من السنين. أحمد شابٌّ متمدّن، درس الآداب الإنجليزية في إحدى جامعات بيروت. وجدَ الشابُّ بأنَّ في مشروعه مجازفةً في ظلِّ الانتعاش المستمرّ للمقاهي العريقة في بلدته عامودا، فاعتمدَ على التحديثات المستقدَمة من بيروت واللاذقية: النرجيلة، عصير تانك، إضافةً لرغبته في تعزيز لعبة الشطرنج. ما كان يملك مالاً كافياً لتمويل مشروعه، فأحالَ الأمرّ إلى عزيمته. من القامشلي ابتاعَ ألواحَ خشبٍ ومستلزماتٍ، وعادَ فأوصدَ على نفسه يومين داخل مشغله الشخصي الذي صارَ فيما بعد صالةَ المقهى. بخبرةٍ قليلة في الخشب صنعَ الطاولات العديدة، فاتحاً من ثمَّ البوّابةَ والنافذتين في الواجهة. صالةُ المقهى فقيرةٌ بالمنافذ، ثلاثةُ أضلاعٍ مصبوبةٌ لا ثغرةَ فيها فالجوارُ لا يسمحُ بذلك. الضلعُ الأماميّ مفتوحٌ على الشارع والهواء والنطاق الخارجي. الجدران من الداخل شبه جرداء؛ ساعةٌ أعلى البوّابة، وسواها لوحتان مدوّنةٌ فيهما تعاريف وأسعار مقدّمات البوفيه، وأحياناً يُتّخَذُ من الحيطان لوحاتٍ لملصقاتٍ دعابيّة، ومنها ما يمسُّ السياسةَ في طابعها المضحك أو المستهجَن.

السيّد عمر حمدوك حينَ تسلّمَ إدارةَ المقهى لهوسٍ منه بهذا العمل، ولدواعي شغفِه الأكبر بالسياسة فقد حوّلَ المكان مقرّاً لحزبه. السياسة في طابعها التنظيريّ الحواريّ ولعُ الكبار في عامودا. عمر رجلٌ مسنٌّ شهيرٌ في البلدة، كثيرُ التجشوء والسعال والنحنحات، يقفُ على كلّ الطاولات ناظراً إلى نتائج الألعاب والأحاديث اثناءها. في فترة إدارته استُعينَ بالشاب أمير، وكانَ المديرَ الفعليّ للمكان على الرغم من صغر سنّه، اتّسم الفتى بالحيوية والمرونة ومتابعةِ كلّ شيء يتّصلُ بالعمل.

ثلّةٌ من الشبّان الجدد قصدت المقهى مدفوعةً بلذّة لعبة الموراكو. هؤلاء الشبّان يتعلّمون سريعاً ويتمنّون أن يضاهوا قدامى اللعبة، ويتجاوزوهم, لكنّ الموراكو معقّدة كثيراً وبحاجة إلى سنيّ خبرة وحظ، علاوةً على إجادة بعض قدامى اللعبة أساليبَ غير مشروعة من مثل إزادة بعض الكروت أو إخفائها أو الغشّ في العدّ والحساب. هؤلاء القدامى من مجيدي فنون الغشّ أمسوا يُتَجنَّبون، فيُرَون فرادى إلى الطاولات يفرشون الكروت في أدوار الفأل البطيئة، أو يتّخذون لكراسيهم مواقعَ الجمهرة، فلا يمنعون ألسنتهم من المداخلات والنقد للاشيء. الشبّان الحديثون لا يكترثون لحركات الاحتيال، فهمُّهم أن يلعبوا ويستوعبوا أسرار اللعب، وهم يكسبون إذا كشفوا عن حيلةِ أحد المختّصين، فيذيعون، وبعضهم يتكتّمون .

يعجُّ المقهى بالدخان، معدودون هم المتذمّرون منه، الذين يعلّقون ثيابهم إلى حبالٍ معقودة بباحاتهم قبل أن يلجوا حجراتهم، فالغالبُ أنَّ الروّادَ يتدافعون إلى التدخين والانغماس به لدواعٍ نفسيّة، لكلٍّ أسبابُه البيّنة أو الخفيّة .

عامودا في محصّلة المعرفيّ القليل تذكّرُ ب كريت، أو هي تختلطُ بصبا كازانتزاكي وفتوّته، الفارقُ أنّ عامودا قصيّةٌ عن أيّ بحر، مناخُها قاسٍ إلى حدٍّ بعيد، وعلى الرغم من ذلك فالفتى كازانتزاكي أشبهُ بعديدٍ من فتيانها، وتجربةُ شبابه كأنّها جرت على أرض البلدة المقذوفة جنوبيّ تركيا شمالي سوريا غربي العراق، نائيةً عن تأثير المتوسّط. ما يُتَخيَّلُ هنا أنّ الفتى الكريتيَّ وجمَ مراراً وتحمّسَ لفيضان وادي الخنزير وسط عامودا، ورأى الناسَ طويلاً يصطادون الرملَ الناعم، وطاردَ الزنابيرَ مع الصبية والفتيان، وكلِفَ معهم بالأفق الساحر.

تزامناً مع ولادة الثورة يُلزَمُ أمير بالخدمة العسكريّة، ويُفسَخُ من ثمّ عقدُ عمر حمدوك, ويترهّلُ الشغلُ في المقهى شهوراً حتّى يُستَعانَ بأبي علي الشابِّ ذي الخبرة الواسعة في هذا الصعيد؛ اكتسبها منذ الطفولة بمعاونته أبيه، فانتعش المقهى. وإن كانَ روّادٌ له غابوا مهاجرين مضطرّين فراراً من خدمة الجيش مرتادون جددٌ يظهرون بين الفينة والأخرى، يسدّون فراغ الغائبين.

مسرعةً انضمّت عامودا للرفض والثورة. الفئة الشابّة والناشئة قادت الحراك ودفعت به إلى الشارع، ونظّمت التظاهرَ ظهيراتِ الجُمَع . تأخّرت الأحزابُ السياسية، ولكنّها لدوافع متعدّدة ومتضاربة لوّحَت بالأعلام على مضض، ومن ثمّ أرادت والدفّةُ في قبضتها الإبحارَ بمزاجها الخاص. المقهى كأيِّ مقهىً آخر صارَ صدىً للمجريات، ومنه عَلَت الأصداءُ كذلك. المقهى مثله مثل شارعٍ مستكين .

أبطأت الأزماتُ إلى البلدة، ولكن عندما وجدت المعيشيّةُ منها والسياسية والأمنية السبلَ وانتشرت تعسّرَ الحالُ، واستطاع المقهى أن يقاومَ؛ بدأها أحمد حاج ظاهر قبل أن يمضي بأسرته حاملاً أمّه العليلةَ واطئاً الأرضَ التركيّة. إثرَ هجرته تضاعفت المصاعب، فأخذَ أبو علي يرافقه سيبان ينهضُ بالأعباء، فوفّرَ الكهرباءَ ليستمرّ المقهى مقهىً وملاذَ المستوحشين، ولتصعدَ مع هبوط الليرة أسوةً بمجمل السلع أسعارُ مقدَّمات البوفيه، ووضعَ أبو علي سقفاً للتكلفة، لا يُتَجاوَز مهما زادَ استهلاكُ مرتادي طاولةٍ ما.

الحياةُ تطرّفت في فقرها وأثقالها. كلٌّ يجاري بوسائله. حينما يخنقُ الصيفُ بالحرارة تُخلَعُ البوّابةُ الوحيدة والنافذتان من الواجهة، فيسري الهواءُ – إن كانَ موجوداً – بين الطاولات مربِتاً على الأكتاف. الفواجعُ تتوافدُ صيفاً، أبو علي يخسرُ والدته المسنّة، وعامودا رهطاً من أبنائها برصاص الرشّاشات. تقلّصَ الوجودُ، واتّسعت المساعي للنزوح المركّب. لم يخطر للناس في ذلك المكان من الأرض نزوحٌ من قبل .

مقهى حاج ظاهر يستمرُّ بواجهةٍ مخلوعة البوّابة والنافذتين، وعندما يبادرُ الخريفُ بولوج المقهى يحيّي روّادَه بأن يطوِّحَ بكروت اللعب في السماء المسقوفة، المزدحمة بدخانٍ يسلّي عن النفوس.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).