كنّا في مِيعة الصبا نتعَقّبُ ما كانَ يُكتَبُ في الجرائد والمجلّات عنهُ لأنَّ شُهرتهُ الأدبية سبقتْ كتبهُ إلينا ما خلا بعضِ النُسخِ المُتسَرّبةِ عبرَ الحدودِ وغيرها ممّا كانت تتوارى عن الأنْظارِ فوقَ رفوفٍ سرّيةٍ نتعقّبُ آثارها في المكتباتِ لنشتريها ونشتري كلَّ الخيال والعذوبةِ معها، كلَّ الكلماتِ الجميلةِ ، العباراتِ التي لا تُشبهُ شيئاً سوى الأرضِ التي تشاطرنا العيشَ تحتَ سمائها، القرى البديعةَ عندَ التلالِ والأنهارِ المنهوبةِ الماء قبلَ عبورها الحدود.

لم نكن نفهمُ الكثيرَ ممّا كانَ يقولهُ لكنّنا كنا نعرفُ أنّهُ كانَ يقصدنا ويتقَصّدُ أن تُثيرَ فينا رياحهُ سديماً سحرياً يملأَ اللغةَ بخاراً ملوّناً يُنبِئُ بقدومِ فاتحٍ جديدٍ لأبوابها.!

لا غروَ إن تقدّمتِ اللغةُ الزاهدةُ أمامهُ زاحفةً أو وفدتْ إليهِ على كُرسيٍّ متحرّكٍ لكي يتلمَّسَها، يسقيها شيئاً من خياله الجامح حتّى تسري فيها الحياةُ وتظهرَ لها أقدامٌ وأجنحةٌ فتطير في فضاءٍ بليغٍ أو تبحرَ بلا أشرعةٍ في سائرِ الجهات؛جهاتٌ لن تتجلّى للقارئِ شواطئها حتّى يتفسّرَ البحرُ ويهدأ الموجُ لديهِ وهو ممسكٌ بخيطٍ طويلٍ واهٍ يحرّكهُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ حتّى يظهر الصيدُ الثمينُ،السّمكةُ الذهبيةُ التي تنامتْ في أعماقِ بركةِ البلاغةِ لدى سليم بركات.

في نصوصٍ تنسابُ فيها الصورُ كالماء مزركشةً بكلِّ ما يُغري الخيالَ إلى الإبحارِ في بحرِ اللغةِ الذي لا يفوّتُ فرصةً للتزّودِ من قطرات غيمةِ شعرٍ عابرةٍ تُلطّفُ قالبَ النّصِ الكثيفِ.

نصٌ عنيدٌ،عصيٌّ عن التغلغلِ في نسيجهِ المغزولِ بالومضاتِ المُتعاقبةِ في نورٍ لا يمكنُ تفسير لونهِ إلّا بنثرهِ على بساطِ القلبِ ثم تسفيرهِ عبرَ زجاجٍ إلى مخابرِ الخيالِ؛خيالُ القارئ الذي يلمسُ أولاً ثمَّ يرى على صفحاتِ كتبهِ ما أخفاهُ في أعماقها من كنوز.

عوالمُ برّيةٌ من طينٍ وحجرٍ،عوالمُ بسيطةٌ يغزوها سليم بركات بأسلحتهِ المُعقّدةِ فتغدو حكاياتها العابرة أساطيرَ تُغري كلُّ مَنْ لامسَ قدّها الرشيق.

عبوراً من الواقعِ إلى الحُلمِ ومنهُ مجدّداً إلى الحقيقةِ الماثلةِ أمامَ تماثيلِ الحياةِ، ففي ثادرميس" يختلِطُ حابلُ الواقعِ العنيفِ معَ نابلِ الخيالِ الجامحِ، حيثُ تتصرّفُ الأقدارُ على هواها و تعبث بمصائر الإنسانِ الذي تكونُ نهاياتهم وخيمةً لا ينجو منها سوى صوره المُحتفرَةِ في ذاكرةِ الحجرِ قبلَ أن يذوبَ ويتحوّرَ الشكلُ في "كهوف هايداهودراهوس" و"حوافرُ مُهشّمة في هايداهودراهوس" إلى كائنات السنتورلها أجسادُ الخيل وقاماتٍ تحملُ وجوهً آدميةً تشطرُ وجودها إلى نصفين أحلامٌ نصفُ مُكتملة.

فلسفةٌ سيعيدُ الأديبُ صياغتها لاحقاً في أعمالٍ أخرى تبحثُ في كهوفها عن سرها المُكتمل.

قبلَ أن يتغيّرَ الشكلُ مُجدّداً في "أقاليم الجن" ويتحوَّلُ الكائنُ المُبتكرُ إلى جنيٍّ منحوتٍ من أرومةِ خيالِ الأديبِ ليتوزّعَ جسده مناصفةً في شكلِ كائنٍ يحملُ سِفلهُ رسمَ الجرادةِ ونصفهُ العلوي ملامحَ الإنسانِ، الإنسانِ حصراً ليدخلَ عبرَ هذهِ الهيئةِ تخاريمَ العالمِ المُتخَيّلِ ويربطهُ مُجَدّداً بعوالمَ حقيقيّةٍ مرتبطةٍ بدخيلةِ الإنسان؛بحلقاتٍ مرئيّةٍ وأخرى لا مرئيّة تدورُ وهي تُطوّقُ جرمهُ السابحَ في فضاءِ الخرافةِ والأساطير المُستجمَعةِ من نثارِ الأضادِ المتجاورة في حَيواتٍ سعى الكاتبُ إلى تفسيرها بلُغةِ المجازةِ شعريّاً والسهلةِ الممتنعةِ نثراً.

في مُتناقضاتٍ تعيشُ متجاورةً على تُرابِ الحياةِ تتجالدُ متناغمةً في لعبةٍ،ظواهرها تتستّرُ على بواطنها؛ومداخلها على مخارجها،في شدٍّ وجذبٍ،ولادةٍ وفناءٍ متفاعلاً معَ الحقيقةِ المنكوبةِ على ترميمِ هيئةِ العالم من الداخل.

بحيثُ لا ينهارُ على نفسهِ أو ينكمش عليه النَّصُّ؛نصٌّ متفرّدٌ في لغتهِ،عميقٌ في محتواه لا يُشبهُ شيئاً سوى ذاتهِ،ذات النبوغِ بالشهيّةِ المفتوحةِ على التجدُّدِ،على النزوحِ بعيداً صوبَ قممٍ أسمى من الكمال؛إذ أنَّ اللغةَ لدى الأديبِ هندسةٌ،وسيلةٌ يعبرُ بها نحوَ مضامين الوجودِ وماهيّةِ الشيِء ولو تقَصَّدَ أيضاً بينَ الفينةِ والأخرى أن تكونَ لهواً مبتكراً،مُشادّةً بلاغيةً بينَ الكلمات وإن بدا ظاهرها خياليّاً كانَ باطنها فلسفيّاً عميقاً ليسَ بمقدورِ القارئِ أن يبصرَ مُحتواها إلّا بسبر أغوارها.

ما يتبدّى جلياً في غرائبيّةِ نصوصهِ ولو كانَ سحرها مرتبطاً بالواقعِ اليومي المُعاش مربوطاً بوشائجَ سحريةٍ إلى واقعٍ من طينٍ وحجرٍ وفخاخٍ،حيواتٌ تطيرُ وأخرى تزحفُ،تدبُّ على تُرابِ الواقع الكردي المنزوي في الشمالِ الذي وفدَ منهُ "سليم بركات" حاملاً معهُ كلَّ تفاصيلهِ إلى شمالٍ آخرَ مُغاير بعدما أدارَ ظهرهُ إليهِ بدايةً جنوباً مهاجراً نحوَ لبنان ثم غرباً نازحاً صوبَ "تونس" "فقبرص" الذي غرسَ في أرضهِا بيتاً وأشجاراً قبلَ أن يستكملَ نزوحهُ شمالاً إلى "السويد" في شمالٍ حقيقيٍّ لا شمالَ يكمنُ خلفهُ.




مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية