عندما تقرأ عنواناً كهذا (إبرة الرعب)... هكذا، بشكل مجردٍ وعارٍ، فما الذي سيتبادر إلى ذهنك لحظتها؟

أنا شخصياً، تبادر إلى ذهني طفلة بعمر الرابعة أو الخامسة، تحمل إبرة وتضعها في قابس الكهرباء من باب الفضول والاستكشاف، أو شخصٌ يدوس على إبرة فتنفذ في قدمه! الحالتان مرعبتان، وستشكلان ذكرى أليمة لهذين الكائنين عند ذكر كلمة (إبرة) أمامهما... ذكرى قاسية قد تلازمهما إلى آخر العمر. لكن وأن يكون المقصود من هذا العنوان ممرضاً يُشْبِعُ رغباته الجنسية من خلال حقن المؤخرات أو يكتشف طبيعة الناس وشخصياتهم من خلال حقن مؤخراتهم، فهذا آخر ما كنتُ قد أفكر فيه! أو حتى يكتشف شخصيته والمواطن المظلمة في عقله اللاواعي من خلال حقن المؤخرات، مؤخرات النساء خاصةً! وهنا يكمن الجانب الإبداعي والخلّاق لدى الكاتب المبدع، أخص منهم الروائيين تحديداً.

شخصٌ يعني ما يقوله، انطوائيٌّ وغامضٌ وجدِّيٌّ، تحوم حول سلوكه وشخصيته وحياته عموماً الكثير من الأسئلة والاستفسارات والألغاز، بالتأكيد لن يأبه يوماً لأيِّ ميثاق أو أخلاقيات تتعلق بالمهنة التي يمارسها، أيَّاً كانت تلك المهنة. أما عن تحكيم الضمير، فكان هذا آخر ما قد يفكر به أو يلجأ إليه، حتى أنه لا يجد أيَّ داعٍ في عُرْفِهِ أو عمله للالتجاء إلى هذا الشيء الذي يسمونه (الضمير)، لأنه اكتسب معارفه خارج الأطر كلها، لذلك ومن وجهة نظره لم يتوجب عليه الالتزام بهذا الشيء المسمى (الضمير). وهذا طبعاً بحسب اعتراف بطل الرواية نفسه، المسمى بالممرض رضوان.

هل بإمكان أيٍّ كان أن يكتشف بنفسه ذاته وميوله الحقيقيتينِ، وهل يملك بعضهم القدرة أو الشجاعة للتوصل إلى هذه المعرفة... معرفة ماهيته وما هو عليه فعلاً؟

يُشَبِّه مؤسس علم النفس الحديث، سيغموند فرويد، عقل الإنسان بجبل جليدي، نصفه خارج الماء ويسميه بـ(الإدراك الواعي)، والنصف الآخر داخل الماء ويسميه بـ (الإدراك اللاواعي). في هذه الحالة بإمكاننا رؤية نصف الجبل الجليدي الذي يكون خارج الماء، لكن لا يمكننا رؤية الجزء الأكبر من الجبل الجليدي الذي يقع داخل الماء ولا حتى معرفة مدى حجمه وأهواله، وهو المسمى بـ(العقل اللاواعي). لكن أين تكمن خطورة كلام فرويد وتحليله، وما توصل إليه بتجاربه وأبحاثه؟ تكمن في الجزئية التي يقول فيها بأن ما يقع تحت سطح الماء لا يمكن الوصول إليه من خلال الوعي، لكنه مع ذلك يستمر في التأثير في سلوكنا.

عرف الممرض رضوان ماهيته الحقيقية واستطاع التعايش معها من دون أي جهد، ومن دون إجبار نفسه على فعل أشياء لا يريدها ولا ولن يفعلها إرضاءً لمجتمعه. كان بإمكانه رؤية جزئه الجليدي الأكبر المغمور في الماء، واستطاع الاستمرار في العيش بشجاعة مع معرفته الحقيقية بذاته مترافقاً مع معرفته بإدراكه اللاواعي بما هو عليه، لكن من دون أن يعترف يوماً لنفسه بحقيقته.

المواضيع الجنسية، وخاصةً الشاذة منها، هي من المواضيع الحساسة في مجتمعنا وثقافتنا، وللوقوف والكتابة عنها يجب أن يكون الكاتب ذكياً ومنطقياً وموضوعياً وجدياً ومنتبهاً لكل ما يقوله ويطرحه، إضافةً إلى وجوب إلمامه بعلم النفس سواء الجانب الذي يخص مجتمعنا أو المجتمعات الأخرى. الذي يكتب في هذه المواضيع يجب أن يكون ملماً بكل شيء، وهنا أقصد كل شيء بالمعنى الحرفي للكلمة، وإلا فإنه سيخفق وسيفشل فشلاً ذريعاً إضافةً إلى التهم التي سَتُوَجَّهَ إليه. وأعتقد ان الكاتب والروائي هيثم حسين امتلك كل الصفات المذكورة آنفاً، وكان يعرف بأنه يمتلك هذه الصفات ليتجرأ ويكتب عمّا لم يتجرأ غيره في الكتابة عنه، وهذا بحد ذاته ذكاء.

هنالك عدة رواة في هذه الرواية، أولهم وأهمهم هو بطل الرواية الممرض رضوان. تبدأ الرواية بأن يُعَرِّف الممرض رضوان عن نفسه، والمثير في الأمر هو تعريفه بنفسه انطلاقاً من الجزء المتعلق بنصف الجبل الجليدي المغمور في الماء (إدراكه اللاواعي)، لكن فرادة شخصيته تكمن في وعيه ومعرفته بـ(إدراكه اللاواعي) بخلاف الشائع وخلاف ما اتفق عليه علم النفس القديم والحديث، وهنا يكمن الجمال وتكمن الفرادة والقوة والمهارة في آن معاً، عندما يُصرِّح بأنه يتعرف إلى العالم عبر المؤخرات، ويحلل نفسية كل امرئ من خلال مؤخرته عندما يحقنها بالإبرة، يستكشف النفسيات ويستطلع الخبايا، فتخبره تلك العوالم بما يعترك في نفوس أصحابها، وتخلق عنده الولع بحيث اكتشف نفسه في عالم المؤخرات الذي صار يختصر عالمه كله أو هذا ما بدا له. وفي الفقرة نفسها يتحدث رضوان عن طفولته البائسة وكيف أنه كبر من دون وجود أب... ذلك الأب غير السوي الملقب بـ(موسو اللبناني) الذي كان يسافر من مكان إلى آخر تاركاً زوجته وطفليه إثر تعرضه لمفارقات وحوادث استثنائية تتفق تماماً مع شخصيته الغريبة، ليتداول القرويون في إثرها شائعات بطولية عنه وعن تزعمه عصابة مسلحة في بيروت، حتى وصف بصاحب القلب الميت. ثم يسترسل رضوان في الحديث عن أخيه الوحيد (كاوِكو)، والأسباب التي أدت إلى جنونه، واتهامه القرويين بما آل إليه المصير البائس لأخيه ووالدته ووالده أيضاً، وذلك بقول: "تراني انهرتُ يوم انهار أخي، أم يوم جاء والدي غارقاً في صمته، أم يوم أخبرتني روناك بخطوبتها، أم في الأيام التي تلت، والتي كانت كلها كفيلة بتدمير أعتى الحصون، وأصلب الرجال؟!" وكأنه بذلك أراد إيجاد مبررات لتصرفاته التي هو بنفسه لم يكن مقتنعاً بها، لأنه بالمقابل كان يملك القوة والشجاعة والإرادة والوعي للاعتراف بنصفه اللاواعي المغمور في الماء... السبب الرئيس الكامن وراء التصرفات الغريبة والمريبة والمتناقضة للإنسان عامةً، منذ نشوء الإنسان الأول حتى هذه اللحظة.

كانت بداية اكتشافه لنفسه واكتشافه لجزئه اللاواعي أثناء خدمته العسكرية الإلزامية. عندما كان يكثر من التردد على طبيب المستوصف العسكري ويراقب تحركاته، أو يتتبع الممرض أو الممرضة إلى أن وثق به الجميع من خلال المشروبات التي كان يحضرها لهم دون طلب منهم، وخلالها لاحظوا ولعه بالتمريض، ليبادر كل واحد منهم من جهته إلى إسداء النصائح له، لكنه كان صعب التعلم إضافةً إلى أنه لم يكن يتجرأ على التطبيق في حضرتهم، فخشي أن يبعدوه عن المستوصف لهذا السبب، إلى أن جاءته فرصته، وكانت تلك الفرصة وتلك الليلة هما الحاسمتين بالنسبة إليه، بداية معرفته بذاته الحقيقية... البداية لمسيرةِ ما هو عليه فعلاً، تلك الفرصة والليلة شكلتا إنساناً مختلفاً يسير في دربه الخاص والمتفرد نحو ما سيكونه مستقبلاً. كان ذلك عندما جاءه رجلٌ من القرية المجاورة حاملاً معه طفلته ذات الأعوام الست، وهو يطلب النجدة من المستوصف العسكري القريب. ولما لم يكن أحد من الأطباء أو الممرضين موجوداً، سارع رضوان لتقديم المساعدة وذلك من خلال حقنها بإبرة مهدئة وهو يطلب من والدها ألا ينظر كي لا يتألم على ابنته. وعندما أنزل سروال الفتاة استعداداً للحقن ولمس بطرف إصبعه مؤخرتها الصغيرة الناصعة البياض تخلخل توازنه، وانتابته حمى لم يعرف لها سبباً. ومن دون تفكير طلب من والدها إحضار كأس ماء من الغرفة المجاورة، وكأنه كان يخطط لذلك منذ أعوام خلت، لتتوسع دائرة فركه وتدليكه لمؤخرة الطفلة. ازداد تمعنه في المؤخرة المرتعشة الخائفة، فأغراه المنظر ولم ينتبه إلى انتصاب عضوه. ولم يرتخِ عضوه إلا بعد أن غرز الإبرة في لحم الطفلة وأفرغ فيه الدواء، وكأن إفراغ الدواء في جسد الطفلة هو رديف لرغبته في إفراغ منيه. وبعد عودته إلى غرفته كان لهاثه يملأ الغرفة وهو يمارس عادته السرية ويستحضر في ذاكرته كل تفاصيل تلك الطفلة.

كانت هذه الحادثة هي بداية معرفته بجزئه الجليدي المغمور في الماء، لكن أن تقود هذه الميول وهذه المعرفة بالنفس إلى ارتكاب فعل اللواطة والاغتصاب والاستغلال، ثم القتل من دون رادع ودون أدنى قدر من تأنيب الضمير فهو الأكثر إثارة في الرواية، والأكثر مدعاة إلى الدراسة والتحليل والمناقشة، وهو المثال الدقيق والأكثر صحةً وصواباً لدراسة النفس المعقدة للبشرية دراسة وافية وجدية، علماً أنه لا يمكن مقارنة فعل اللواطة بفعل الاغتصاب والقتل، فشتانَ ما بينهما، وهنا يكمن بامتياز كل الإثارة الكامنة تحت بند الدعوة إلى مناقشة التعقيدات والتصرفات المتناقضة للإنسان من دون استثناء. والسؤال هو: هل يمكن أن يقود الافتتان بحقن المؤخرات لممارسة العادة السرية بعدها إلى ممارسة فعل اللواطة؟ وهل يمكن للّواطيين أو السحاقيات أن يتجهن إلى ممارسة فعل الاغتصاب؟ وهل الذي يرتكب فعل الاغتصاب قادرٌ على القيام بفعل قتل إنسانٍ آخر؟ هنا تكمن المفارقة... وهنا يكمن اجتهاد الباحث أو اجتهاد عالم النفس أو الطبيب النفسي أو الكاتب المتفرّد لإظهار درجة شطارته وذكائه في شرح هذه الأمور وبيان أبعادها وخفاياها ودوافعها ونتائجها واختلافاتها.

بعد عمله في المستوصف العسكري بفترة تنشب علاقة جنسية حميمية جداً بين الممرض رضوان وزميله في الجيش، الشاب الجميل الناعم (نضال). وقد تحدث الروائي بحرفية ومهنية عالية غاية في الدقة والإقناع عن بداية نشوء هذه العلاقة الجنسية، إلى الدرجة التي أحَسَّ فيها رضوان بأن نضال هو كالزوجة الحنونة والمطيعة والخدومة بالنسبة إليه بقول: "كالزوجة أصبح بعدها بالنسبة لي. يعدُّ الطعام، يغسل ثيابي، يرجوني شتمه. كانت تلك الحركات غنائمه. ولم ألتفت إلى نيته التي كررها أكثر من مرة أمامي في أنه يبيت السفر خارج القطر، ليجري عملية جراحية يبدل فيها جنسه". واستمرت هذه العلاقة إلى أن جاء قرار نقل نضال إلى مكان أكثر راحة بحكم نفوذ والده وأمواله، فيودعه نضال بقبلة على الشفتين.

يقوده بعدها قدره الغريب والمتفرد نحو مجنونة وجدها أهل القرية المجاورة ذات ليلة غارقة في دمائها، وحين اكتشفوا أنها لا تزال حية أسعفوها إلى المستوصف العسكري الذي بقيت فيه عدة أسابيع. كان اسمها جولا. وعندما التأمت جراحها حاولوا إبعادها عن المستوصف، لكنها كانت تغادر صباحاً قبل بداية الدوام الرسمي وتعود في آخر الليل، والسبب أن رضوان كان يمنُّ عليها بالطعام والحنان. كان يشعر ناحيتها بدايةً بالشفقة الممزوجة بالقرف، الأمر الذي منحها الراحة والأمان ناحيته، لكن براءتها هيجت جنونه، وأيقظت الوحش الكامن داخله، ذلك الوحش المختبئ في جزئه المغمور في الماء، فلم يلتفت إلى جنونها، انساق وراء غريزته المختبئة في لاوعيه. عانتها المتسخة زادت في هياجه "اشتمَّ رائحتها التي بدت له أزكى عطر يمكن أن ينوجد، لم يأبه لرائحة البول والعطن والعرق، فاستكانت لحركاته ومداعباته. شراستها انقلبت وداعة وهي تئن تحته. وقعت في فخ الشهوة". لقد كانت عذراء وهو الذي فض بكارتها المحتمية بالجنون، ولم يستطع أن يبوح بالسر لأحد. كان يضاجعها كل ليلة، إلى أن لاحظ التغيرات التي بدأت تطرأ عليها، شاحبة تطيل المكوث والنوم، خفت سرعتها، قلَّ نشاطها وانهارت صحتها. لقد حبلت جولا منه، وقد عرف ذلك بعد أن لاحظ كبر بطنها الذي بدأ ينتفخ.

هنا تكمن الحبكة الجوهرية للرواية، ويكمن مدى تمكن الروائي وقدرته على سبر الأغوار الدفينة في النفسية المضطربة والواقعية لبطله، عندما توصل الروائي إلى إيجاد مخرج للبطل توافق طبيعة شخصيته وتربيته والبيئة التي جاء منها، هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فأعتقد أننا لا نحتاج إلى معرفة الأسباب التي تؤدي ببعض الناس إلى ارتكاب أفعال شنيعة مهما كانت نوعية البيئة التي جاؤوا منها، لأننا يجب أن ننظر إلى الفعل كحدث مستقل دون ربطه بالماضي أو الحاضر أو بالتربية أو الجينات، فالإنسان يرتكب أحياناً فعل القتل هكذا من دون أي سبب مقنع، لأنه أراد ارتكاب هذا الفعل وكفى.

فعندما تأكد رضوان من حبلها، خشي أن ينكشف أمره وما فعله بها، فلم يفكر كثيراً في إيجاد حل! ربما لأن المخرج كان جاهزاً في جزئه المغمور في الماء! ساقها في تلك الليلة من دون تفكير إلى واد عميق، أدخلها إلى كهفٍ وضاجعها للمرة الأخيرة قبل أن ينقض عليها بحربته الصدئة، ثم حرص على أن يقطع رقبتها وهو يقنع نفسه بأنه يقتلها شفقة عليها مما ستؤول إليه أحوالها بعده، وشفقة على الوليد الذي يمكن أن يأتي إلى هذا العالم من أم مجنونة. كان يبكي وهو يجزُّ رقبتها، فحفر لها قبراً سريعاً في الرمال وعاد أدراجه تاركاً الحيرة تتناهب الجميع إثر اختفاء المجنونة هذا الاختفاء الأبدي المريب... عاد أدراجه وهو يبتسم بمرارة متخيلاً جولا تهرب بوليدها من مكانٍ إلى آخر، ثم يبتسم براحة عندما يشعر بأنه اطمأن عليها، وأنه عرف ما يريحها ونفّذه لأنه اعتبر نفسه الوصي عليها، وكثيراً ما كرر لنفسه بأنه عمل عين العقل عندما رحمها وقتلها متسائلاً عن مغزى عيش امرأة مجنونة صارت أضحوكة بيد العساكر والقرويين والمارة، وفي كل مرة لم يكن يستدل على أي حكمة في بقائها على قيد الحياة. بهذه الطريقة كان يبحث لنفسه عن مبررات لفعلته.

كانت هذه الحادثة برأيي هي جوهر فكرة رواية (إبرة الرعب). وما حدث بعد هذه الحادثة للبطل لم يكن إلا تحصيلاً حاصلاً للحياة التي اختارها الممرض رضوان لنفسه، بمعنى أنني أعتبر أن ما حدث مع البطل بعد هذه الحكاية يوافق شخصيته تماماً وهو ما وَجَبَ أن يكون، فالتناغم بين الأحداث كان جيداً وطبيعياً ومقبولاً حتى من وجهة النظر النقدية. البطل كان يروي بعدها زياراته لقريته أثناء إجازاته، وكيف كان يستمني عندما يحقن مؤخرات نساء قريته، وذلك بتواطؤٍ من تلك النسوة أنفسهن. وبحسب كلامه كان ذلك انتقاماً مما فعله أهل القرية بعائلته وبأخيه الذي جُنَّ بسببهم.

يبدو أن الأساس السيء يقود إلى السوء دائماً، والعكس صحيح، وربما لا شيء منهما صحيح، فكل شيء في هذه الحياة يحتمل الخطأ والصواب اللذينِ لسنا بصددهما في مقاربة هذه الرواية. فبعد تسريحه من الخدمة الإلزامية يتعين رضوان في أحد المشافي، وذلك بتوصية من معرفة نسائية قديمة، لكنه يتورط مع مدير المشفى ومعاونيه في قضية خطيرة ألا وهي تجارة الأعضاء البشرية، لتتوسع بذلك رقعة متاهته الداخلية، وذلك عندما قال لنفسه: "كتشفت عالماً جديداً لم أتوقع وجوده قط، أيقنت فيه أن عدم معرفتنا بالأشياء لا يعني عدم وجودها، بل يدل فقط على جهلنا بها". ثم يُقبَض على الشبكة برمتها وهو من ضمنهم. وفي السجن يغتصبه أحد المسجونين العنيفين، هو الذي كان يغزو المؤخرات... لقد غُزيت مؤخرته شخصياً، (ختموه كما قالوا وهم يقهقهون). يخرج من السجن بعد الاعتراف بكل شيء، وبعد إثبات عدم تورطه في هذا الأمر بتاتاً. لتقوده أقداره بعدها نحو نضال، عشيقه في الجيش... نضال الذي أجرى عملية تبديل الجنس إلى امرأة فاتنة، والمنشئة موقعاً إلكترونياً لتدافع من خلاله عن قضيتها ضد رجال الدين وكل الرافضين لوجودها ووجود الحالات المشابهة لحالتها، فتقوم بتعليمه أدق استخدامات الكمبيوتر وخفاياه وكيفية تواصله مع المواقع والدول والمنظمات لمناصرة قضيته/قضيتها. هو رضوان القادم من قرية نائية والجاهل باستخدام أبسط الأدوات الكهربائية، يدخل عالم التكنولوجيا والكمبيوترات والأنترنت ويتبحر فيه حدَّ الغرق. في النهاية تقتل إحدى الجهات المتشددة والمعارضة لعمليات تبديل الجنس نضال في ظروف مأساوية، وانهيار رضوان لهذا الأمر نظراً لمعزة نضال عنده، ولأن نضال كان/كانت السند والعون الباقيين له في الحياة.

الجزء المُحَيِّر في الرواية بالنسبة إليّ هو التعلق الكبير لرضوان بالكمبيوتر وعوالمه وتقدمه السريع بالتعلم في هذا المجال وترك كل ما عدا ذلك بتلك السهولة!

السؤال هو: هل يمكن لشخص بهذا التفرد والاستقلالية، وهذا الشذوذ المتأصل، أن ينسى بهذه السهولة شذوذه وطبيعته الأصليه وما تَعَوَّد عليه خلال مسيرة حياته لمجرد أنه انفتح على عوالم الكمبيوترات والأنترنت؟! باعتقادي هذه النهاية لماضٍ والبداية لمستقبلٍ مُحيرتينِ لشخص مرَّ بكل ما مرَّ به، ولا يزال يعيش حاضره مع شخصٍ كان في الماضي عشيقه... عشيقه الذي تحول إلى أنثى من خلال عملية تبديل الجنس! مع التذكير بأنه ارتكب سابقاً كل ما من شأنه أن يهز الضمير والوجدان الإنسانيين، سرقة، تصرفات جنسية لاأخلاقية، اغتصاب، جريمة قتل طعناً وذبحاً والتواطؤ، ولو بالمعرفة، مع جريمة تجارة الأعضاء.

تبقى التصرفات الإنسانية المتناقضة والمتعلقة بنصف الجبل الجليدي المغمور في الماء من أهم وأكبر القضايا التي حيَّرت وتحيِّر علماء النفس والإنسانية قاطبةً، ولا تزال قيد الدراسات السريرية منها والنظرية. لكن الروائي يبهرنا في نهاية روايته بمعرفته العميقة في هذا المجال عندما يقول على لسان الممرض رضوان: "أراني أهرب مُطارَداً بلعنات مضافة، بفتاوى تبيح هدر دمي. أتوجه إلى بوابتنا نحو العالم، إلى العالم الذي ظننت أنه سيكون المُخَلِّص لي. أواصل سيري في درب التحول اللانهائي، عساني أعثر على ذاتي في مرآة العالم المتحول".

(إبرة الرعب) هي من المواضيع الجدلية التي يخشى الآخرون الخوض فيها أو الكتابة عنها، ولا يكتب عن هذه الأمور إلا من امتلك شخصية متفردة وفريدة ومغايرة وغير قطيعية، وفي الوقت نفسه لديه القدرة على امتلاك زمام نفسه وتسيير حياته وفكره وفق ما يريده هو لا ما يريده الآخرون. أتذكر بهذا الخصوص ما قاله لي كاتب معروف عند صدور روايتي (نساء المدن البعيدة) في أواخر 2018 وأوائل 2019 (أنتِ كتبتِ عن هذا الموضوع للفت الأنظار وكسب الشهرة ليس إلا)، هذا ما قاله عن روايتي التي تحدثتُ فيها عن المثلية الجنسية بين فتاتين بمهنية ومصداقية وواقعية... من وجهة نظري على الأقل، قال ذلك وحكم على روايتي حتى من دون أن يقرأها لمعاينة بنيتها الفنية وصياغتها. بعض الكُتَّاب أمثالنا يكتبون عن الأمور الجنسية الشاذة لا للتفاخر والحصول على الشهرة، بمقدار الرغبة في الكتابة عن التناقضات والتعقيدات الكامنة في النفس البشرية، والوقوف عندها لمناقشتها ومعرفة أسبابها وحيثياتها معرفة عميقة، لأنها ستسهم في تقدم مجتمعاتنا وفهم الآخر المختلف.

من زاوية أخرى، لا يحق لي أن أناقش أو أحاسب الكاتب على ما لم يكتبه في نصه كما يفعل معظم النُقَّاد، أو كما يفعل معظم القُرَّاء الذين يتفلسفون ويعتبرون أنفسهم من النخبة بقول (كان يجب أن تكتب كذا وكذا وأن تتصرف فلان شخصية كذا وكذا)، لكن يحق لي أن أناقش الكاتب في ما كتبه في نصه وأُسَيِّر النقاش ضمن الدائرة التي رسم فيها المخطط الخاص بفكره الذي أنتج من خلاله نصه المتكامل وفق منظوره ورؤيته. وبرأيي إن ناقشنا الكاتب في أشياء لم يكتبها وكان يجب أن يكتبها لتوافق هوانا فبالتأكيد الأمر برمته سيكون فيه خللٌ حينها ونحن بهذا نغتصب منه حقاً ليس من حقنا، وسيبدو الأمر وكأننا نريد من الكاتب أن يكون نحن لا هو.

خلاصة القول، الروائي هيثم حسين أبدع في كتابة رواية (إبرة الرعب)، واستطاع أن يقول ما لم يقله غيره، كما استطاع أن يتغلغل في تناقضات وتعقيدات وخفايا كامنة في النفس البشرية منذ أقدم العصور حتى لحظتنا الراهنة، مُبَرهِناً  لنا أنه إذا آن أوان قول الكلمة فيجب أن نقولها كيفما كان الوسط الذي نعيش فيه وكيفما كانت الظروف التي نمر بها.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).